في باحة المنزل الخارجية تجلس أم علي كما اعتادت يومياً لصناعة المكانس اليدوية (المقشة) من سعف النخيل، وحولها أحفادها الصغار، وعلى مقربة منها كومة من السعف جلبتها من بستانها الذي خلا من كل شيء إلا أوراقه المصفرة.
لا يكفي المال الذي تجنيه من هذه المهنة متطلبات عائلة مكونة من 22 فرداً، ثماني نساء و14 طفلاً.
حال أم علي قد يختلف عن باقي النساء اللاتي يعشن في ناحية الصقلاوية (تسعة كيلومترات شمالي مدينة الفلوجة) من دون دخل، بعد فقدانهن أزواجهن في أثناء الحرب مع تنظيم الدولة الإسلامة "داعش".
نتيجة العمليات العسكرية التي استهدفت جماعات داعش في عام 2016 عند سيطرتها على محافظة الأنبار في العراق، اضطرت النساء إلى مواجهة ضغوطات الحياة في بيئة ريفية تعتمد على الزراعة وتربية المواشي.
أسفر ما لحق بالصقلاوية من عمليات عسكرية عن دمار مشاريع الري ومحطات المياه.
وفق بيانات منظمات المجتمع المدني العاملة في ناحية الصقلاوية، ومنها مؤسسة بارزاني ومنظمة رسل السلام، فإن عدد المغيبين يصل إلى أكثر من 800 شخص لم يعرف مصيرهم منذ خمس سنوات، وقوام الغالبية من عائلاتهم التي يقدر عدد أفرادها بأكثر من ثلاثة آلاف شخص بمعدل أربعة أشخاص لكل عائلة، يتكون من النساء والأطفال الذين يحتاجون إلى رعاية مستمرة، وبرامج تمكنهم من العيش في بيئتهم التي لا يعرفون العيش خارجها.
تناقص الموارد المائية
ناحية الصقلاوية واحدة من أهم المدن التي كانت تمتاز ببيئة زراعية خصبة، تقوم على المشروعات الإروائية الممتدة لتوصيل المياه للأراضي من نهر الفرات.
وتوفر البيئة الزراعية للناحية فرص عمل عدة لسكانها المحليين، وسكان القرى المجاورة، إضافة إلى ذلك فهي سلة غذائية لما يحيط بها من المدن، ومنها الرمادي والفلوجة كبرى مدن محافظة الأنبار.
وأسفر ما لحق بالصقلاوية من عمليات عسكرية عن دمار شبه تام للبنية التحتية المتمثلة بمشاريع الري ومحطات المياه، إضافة إلى تضرر القنوات التي كانت مصدر المياه الوحيد والمهم لتلك الأراضي.
تظهر بيانات الجهاز المركزي للإحصاء انخفاضاً في عدد القنوات الإروائية؛ فعند المقارنة بين عامي 2015 و2020، انخفض معدل أطوال القنوات إلى النصف تقريباً، فبعد أن كان طول القنوات 1047 كيلومتراً في عام 2015، أصبح 860 كيلومتراً فقط في عام 2020، وما زالت تلك الأطوال في تناقص، لا سيما القنوات الترابية التي انقطعت عنها الإمدادات المائية.
انعكس هذا على مساحات الأراضي الزراعية في الناحية، فصور الأقمار الاصطناعية التي حصلنا عليها من برنامج Google Earth للفترة الزمنية بين عامي 2011 و2022، تظهر انحساراً كبيراً لمساحات الأراضي الزراعية في ناحية الصقلاوية.
ضعف البرامج الحكومية
فاقم من الأزمة غياب تشييد المشروعات الإروائية في الناحية، في ظل ضعف التمويل الحكومي المخصص لهذا الأمر.
يرى مدير ناحية الصقلاوية سعد غازي المحمدي، أن البرامج الحكومية محدودة، ولا تلبي طموحات الإدارة المحلية والسكان المحليين، لا سيما المشروعات الإروائية التي تسهم في إرواء الأراضي الزراعية لعودة الحياة لها، بعد أن تضررت جميع منظومات الري الرئيسة التي كانت المصدر الوحيد للمياه، لبعد الأراضي عن مجرى نهر الفرات.
وحمل هذا أثره على النساء والأطفال، خاصة من ذوي المغيبين والذين يعيشون على ما تنتجه الأراضي الزراعية.
ويضيف قائلاً: "النساء والأطفال من ذوي المغيبين يعيشون أوضاعاً صعبة لعدم وجود معيل لهذه العائلات، وهم بحاجة إلى مصدر دخل وإن كان بسيطاً، ليوفر لهم الحد الأدنى من الاحتياجات الأساسية".
يقول عبد الله المحمدي، أحد وجهاء ناحية الصقلاوية، إن عملية إعادة تلك المشروعات إلى الخدمة من جديد يتطلب جهوداً ضخمة، لا يمكن للمنظمات الدولية والمحلية وحدها أن تقوم بها، فهذا الأمر يتطلب جهوداً حكومية، بالتضافر مع ما تقدمه المنظمات سواء كانت دولية أو محلية.
تؤكد سجى التي لم تتجاوز العقد الثالث من عمرها، وهي أرملة فقدت زوجها وشقيقها وتعيل أبنائها الأربعة وأبناء أخيها الثلاثة، أنها لم تستلم أي منح تعينها على زراعة أراضيها، في ظل نقص المشروعات الإروائية، والجفاف الذي تعاني منه الأرض
ويؤكد أن "تضافر عمل المنظمات المحلية والدولية مع الجهود الحكومية ما زال محدوداً، بينما تشكو العديد من الأراضي من الجفاف والإهمال، وأي جهود ذاتية لرعايتها وزراعتها تستنزف الأموال والجهد الذي لم تعد تمتلكه تلك العوائل التي فقدت المعيل".
وإن كانت المساعدات محدودة، فإن وصولها لمستحقيها غير مضمون.
انتظار لا ينتهي للمساعدات
تهرع سجى محمد، زوجة أحد المغيبين، عندما يرن الهاتف، للرد لعله اتصال يحمل استجابة لما قدمته من التماسات إلى الحكومة المحلية والناشطين، للقبول في برامج توزيع المنح، لكنها لم تتسلم أي منحة تعينها على زراعة أراضيها.
يرى المهندس حسين المحمدي الذي كان يشغل منصب رئيس لجنة المنظمات في المجلس المحلي لناحية الصقلاوية أنه لا يمكن للمشروعات والمنح المقدمة من المنظمات الدولية والمحلية أن تسد حاجة كل عائلات المغيبين، لأسباب تتعلق بإمكانات تلك المنظمات والضغوط التي تتعرض لها من قبل متنفذين ومسؤولين.
منظمة الصليب الأحمر الدولية كانت من أولى المنظمات التي نفذت مشروعات إغاثية في المدينة، تتمثل في إعطاء قروض مالية لشراء بذور للزراعة توزع على ثلاث دفعات، تبلغ قيمة الدفعة الواحدة 470 ألف دينار عراقي (نحو 360 دولاراً).
وأطلق الصليب الأحمر برنامجاً موازياً لرعاية زوجات المغيبين، عبر تقديم منح مالية سنوية على ثلاث دفعات، تبلغ قيمة كل دفعة 470 ألف دينار، إضافة إلى إدخال مشروع تسليم العائلات ماشية، راصدة لذلك مبلغ ثلاثة ملايين دينار عراقي، إلا أن أكثر من 60 في المئة من عائلات المغيبين لم تتسلم تلك المنح.
كما أطلقت منظمة "اعن الدولية" مشروعاً لدعم عائلات المغيبين، بتقديم راتب شهري يتراوح بين 250 و350 ألف دينار عراقي (190-265 دولاراً) لكل طفل دون سن 12 عاماً، ويستفيد من المشروع نحو 200 طفل، منذ خمس سنوات.
انتقادات للمنظمات
تؤكد سجى التي لم تتجاوز العقد الثالث من عمرها، وهي أرملة فقدت زوجها وشقيقها وتعيل أبنائها الأربعة وأبناء أخيها الثلاثة، أنها لم تستلم أي منح تعينها على زراعة أراضيها، في ظل نقص المشروعات الإروائية، والجفاف الذي تعاني منه الأرض.
تقول: "تحول عمل المنظمات إلى تجارة يروج لها الناشطون الذين يسجلون أسماء المستفيدين، ومن ثم يتسلمون المنح والمساعدات، ولا يعطوننا أي شيء، أنا شخصياً لم يقدم أي دعم إلى أرضي أو إلى أطفالي، على الرغم من أنني سجلت اسمي للحصول على بذور ومضخات مائية لزراعة أرضنا التي تبلغ مساحتها 11 دونماً".
"تحول عمل المنظمات إلى تجارة يروج لها الناشطون الذين يسجلون أسماء المستفيدين، ومن ثم يتسلمون المنح والمساعدات".
حسين المحمدي أكد أن "عدد العائلات كبير، وأن ما يخصص لا يكفي الجميع، لذلك يتم انتقاء العائلات الأكثر تضرراً، لتشملهم بعض البرامج".
هبة عدنان، المتحدثة الرسمية للجنة الدولية للصليبِ الأحمر في العراق، تنوّه إلى أن "تقييم احتياجات الأسر الذي أجرته اللجنة الدولية للعائلات الأولى بالرعاية، بما في ذلك أسر المفقودين، أسفر عن أن التحديات التي تواجه نحو 44 في المئة من العائلات تتمثل في الصعوبات النفسية والاجتماعية، تليها الصعوبات الاقتصادية".
أم علي التي تركت الزراعة وتربية الماشية واتجهت إلى العمل في صناعة المكانس اليدوية بعد أن فقدت الأمل في الحصول على دعم أو مساندة، أشارت إلى أن عدداً كبيراً من المحتاجين لم يحصلوا على منح زراعية أو ماشية، وأن تلك المساعدات ذهبت لأشخاص آخرين من غير الفئات المستحقة للدعم.
منح لغير مستحقيها
يشير بعض الناشطين والمتطوعين، ومنهم عبد الحميد مصلح (اسم مستعار) الذي يعمل في الناحية منذ 2017، إلى أن "عدداً من العاملين في مجال الإغاثة الذين لعبوا دور الوسيط بين المنظمات والمغيبين، أصبحوا يمتلكون الأراضي الزراعية الكبيرة والسيارات الفارهة".
وأضاف قائلاً: "هناك أيضاً بعض الناشطين المطاردين لمعارضتهم لذوي النفوذ داخل المدينة، الذين لا يمكن لأي شخص العمل أو تقديم المساعدة لعائلات المغيبين إلا من خلالهم".
تواصل معد التحقيق مع إحدى المنظمات التي تردد اسمها كثيراً على لسان عائلات المغيبين، وحاول أن يطرح عليهم مجموعة من الأسئلة في ما يخص دورهم في توزيع المنح والمساعدات في ناحية الصقلاوية، إلا أن اتصالاً هاتفياً من مدير ناحية الصقلاوية وصل إليه يطلب منه الحضور والتعامل معه قبل الكلام مع أي منظمة.
ويقول أحد الناشطين إن أية جهة تحاول الوصول إلى المغيبين، يجب أن تتواصل أولاً مع الإدارة المحلية، بزعم الحفاظ على خصوصية تلك العائلات وضمان حقوقها.
النساء والأطفال من ذوي المغيبين يعيشون أوضاعاً صعبة لعدم وجود معيل لهذه العائلات، وهم بحاجة إلى مصدر دخل وإن كان بسيطاً، ليوفر لهم الحد الأدنى من الاحتياجات الأساسية، وهم يعيشون على ما تنتجه الأراضي الزراعية
انخرط محمود عطا الله أحد السكان المحليين لناحية الصقلاوية، العام الماضي في العمل التطوعي بعد إنهائه الدراسة الجامعية، ومن خلال اقترابه من المنظمات المحلية والدولية، لا يستبعد أن تكون هناك شبهات فساد لدى الوسطاء بين المنظمات الدولية والمستحقين في ملف المنح المقدمة للمحتاجين، لا سيما المنح الزراعية.
يؤكد عطا الله أن "المرشات الزراعية والمضخات الإروائية لم توزع على أية عائلة من عوائل المغيبين، وأن غالبية تلك المعدات وُزعت على أناس باعوها بأسعار زهيدة إلى تجار المعدات الزراعية في مدينة الفلوجة وصلاح الدين".
المشروعات الإروائية معطلة، وهي بحاجة إلى دعم حكومي يعيدها إلى الخدمة. فنسبة ما أعادت المنظمات الدولية تهيئته لا يتجاوز 10 في المئة من حجم المشروعات التي كانت تشكل المصدر الرئيس للإرواء في ناحية الصقلاوية.
يؤكد مازن العلواني وهو ناشط مدني يعمل في مجال إغاثة العائلات، أن "المساعدات والمنح لا تصل إلى مستحقيها، وأن جزءاً كبيراً من تلك المنح يذهب إلى أشخاص استطاعوا أن يزوّروا بعض الوثائق ليتمكنوا من استلام المنح بدلاً من مستحقيها، وهو ما يضع علامات استفهام عدة أمام الجهات الحكومية التي تضع نفسها دائماً في الواجهة بحجة أنها تعرف الجميع، ما يضمن سلامة وصول المساعدات إلى مستحقيها".
وهو ما لم يحدث لسجى التي ما زالت تمنّي النفس بأن يدرج اسمها في قوائم المشمولين بالمنح، ولأم علي التي تتفقد بستانها الذي انقلب خضاره صفاراً، في ظل أن المنح المقدمة لذوي المفقودين في الصقلاوية، عالقة في قنوات الإمداد، ولا تصل أبداً إلى مستحقيها.
أُنتج هذا التقرير بدعم من منظمة إنترنيوز، ويُنشر بالتعاون مع رصيف22.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 20 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع