شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
لا أحد يهتف مبتهجاً بعد المسرحية… تجربة شخصية في مسرح طهران

لا أحد يهتف مبتهجاً بعد المسرحية… تجربة شخصية في مسرح طهران

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

أول مسرحية حضرتها في حياتي، كانت مسرحية "لا يهطل الثلج في مصر"، بطولة الممثل المسرحي الإيراني علي رفيعي. حينها زرت لأول مرة المسرح الرئيس لمدينة طهران، الذي كان المسرح الأكثر شهرةً في المدينة في ذلك الزمن، أي قبل 21 عاماً، سنة 2002.

كانت المسرحية رائعةً. سحرت مشاهديها. أبهرنا علي رفيعي المشهور بالتمثيل المسرحي القوي. الممثلون كانوا يركضون باستمرار، وينتقلون من جانب إلى آخر في المسرح الكبير، وينادون: "يوسف"، الذي كان كل شيء في المسرحية. كانوا يبحثون عن يوسف الذي لم نرَه.

بعد هذه السنوات كلها، ما زلت أتذكر تفاصيل تلك المسرحية. حتى أن صدى أصوات الممثلين الذين لم أكن أعرفهم لا يزال في أذني. لكن ما زاد العمل مجداً بالنسبة لي، هو حينما حيّا الجمهور الممثلين في نهاية المسرحية.

كانت المسرحية مليئةً بالحماسة بالنسبة لي، كونها أول مسرحية في حياتي أشاهدها بإعجاب وابتهاج غريبين. عندها، شعرت بأن "التحيّة" لا تقل أهميةً عن العرض نفسه. فنهاية العرض في الواقع ليست المشهد الأخير، بل تحيّة الجمهور للممثلين والمخرج وطاقم المسرحية

حقيقة، عندما تخطر ببالي تلك التحيّة، أتذكر أن الممثلين كانوا يندفعون من زوايا القاعة إلى مقدمة المسرح بلهفة عجيبة. وسط تصفيق الجمهور المتواصل وتحيته، كانت ترتسم ابتسامة عريضة على وجوههم، وهم يتقدمون وينحنون ويعودون مرةً أخرى، ومن ثم ترتفع الهتافات، فيعيدون الكرّة بحماسة مضاعفة، وبابتسامة الرضا على شفاههم، ممسكين بأيدي بعضهم بعضاً.

كانت المسرحية مليئةً بالحماسة بالنسبة لي، كونها أول مسرحية في حياتي أشاهدها بإعجاب وابتهاج غريبين. عندها، شعرت بأن "التحيّة" لا تقل أهميةً عن العرض نفسه. فنهاية العرض في الواقع ليست المشهد الأخير، بل تحيّة الجمهور للممثلين والمخرج وطاقم المسرحية، هي نهاية العرض، حيث في تلك اللحظة يجتمع الكل على خشبة المسرح، ويصبحون في تلك اللحظة جسداً واحداً.

فالممثلون ينظرون إلى الجمهور، إلى كل تلك العيون التي كانت تحدّق في المسرح، ويريدون الآن أن يرون فيها، مدى المتعة التي نقلوها إلى أولئك المشاهدين/ات. في المقابل، ينظر الجمهور بتقدير إلى الممثلين، الذين أغرقوا الحضور بالمتعة لساعات.

في تلك الليلة لم تكن قدماي على الأرض. ليس في تلك الليلة فحسب، بل أحسست بالشعور نفسه في العديد من الليالي الأخرى، بعد مشاهدتي مسرحيات مختلفةً، في الليالي التي كنت فيها مفعمةً بالفرح والإثارة، وذلك دون أن أقلق من كل المخاطر التي تتعرض لها فتاة في التاسعة عشرة من عمرها، وهي تسير بمفردها في شوارع طهران المظلمة، حيث كنت أمشي 45 دقيقةً للوصول إلى سكن الطالبات في الجامعة.

صحيح أنني تخصصت في السينما، لكنني أحببت المسرح بطريقة مختلفة. وخلال تلك السنوات والسنوات التي تلتها، سواءً عندما كنت ممثلةً أو عندما كنت أقوم بالإخراج، كانت التحيّة جزءاً محدداً بالنسبة لي.

منذ سنوات عديدة، وأنا لم أمثّل في أي مسرحية ولم أُخرِج أي مسرحية، وقد اتجهت إلى السينما لألف سبب وسبب. لكنني ما زلت من أشدّ جماهير المسرح حماساً. مهما نحاول إظهار جمالنا بشكل جيد في السينما، لا يمكننا التظاهر بذلك على المسرح، فجمهور السينما خارج حدود إيران، حيث يمكننا أن ندفع صدورنا إلى الأمام على السجادة الحمراء، ونرفع رؤوسنا عالياً، ونتفاخر أمام الكاميرات الأجنبية، ونقوم بتقبيل بعضنا بعضاً أمام آلاف الكاميرات حتى يعتقد العالم أننا جيدون كالقبلة هذه، بينما عملية قتلنا تتسارع منذ أعوام عدة، كما أننا محتجزون كرهائن منذ عقود، ونقوم بالرد على حرّاس الأمن في كل خطوة نخطوها على السجادة الحمراء لمهرجان "كان".

لكننا على المسرح لا نرتدي أي قناع ونكون أنفسنا، نحن الممثلين والجمهور، إذ لا يتم استخدام أي كاميرات أجنبية، وليس علينا أن نتظاهر أمام أي شخص، ولهذا السبب لم تعد لدينا تحيّة صاخبة ومليئة بالشغف بعد الآن.

على المسرح لا نرتدي أي قناع؛ نكون أنفسنا، نحن الممثلين والجمهور، إذ لا يتم استخدام أي كاميرات أجنبية، وليس علينا أن نتظاهر أمام أي شخص، ولهذا السبب لم تعد لدينا تحيّة صاخبة ومليئة بالشغف بعد الآن

هذه الأيام، الممثل الذي كان يبكي خلال تمثيله في المشهدين الأخيرين، يُحيي الجمهور باكياً في النهاية، حيث يأتي إلى عتبة المسرح بخطواته المتعبة دون عجلة من أمره، بما أنه لا يملك أي شغف، يصافح سائر الممثلين، ويصفقون جميعهم بلا مجاملة، والجمهور يحيّي الممثلين الذين انحنت أكتافهم، وهم ينظرون إلينا، لا أحد يلوّح أو يُصَفّر لهم. فهنا جميعنا متعبون؛ قُتل الكثير منا، والعديد منا في السجون، خاصةً من المتفرجين.

لفترة طويلة لا توجد أخبار عن نجوم المسرح المشهورين. أولئك الذين كانت تضمن أسماؤهم بيع العمل، لأن رجال السلطة يخافون النجوم، والنجوم يخافون من الوضع الراهن، فكثرٌ منهم هاجروا والذين لم يهاجروا انطفأ بريقهم، واحتلّ أماكنهم ممثلون جدد ليسوا نجوماً، ولا يتطلعون إلى أن يصبحوا نجوماً، ويبدو الأمر كما لو أنهم لا يريدون الاعتراف بأن المسرح يحتضر هنا، فهم قد رفعوا العلم المنكّس ويلوّحون به بطريقة خرقاء.

لم يعد "غني زاده" و"علي رفيعي"، هما من يقودان النجوم البارزين إلى مقدمة المسرح، ولم يعد هناك الكثير من المتفرجين، ليصفّروا ويملأوا قاعة "وَحدَتْ" بالضجيج.

نحن والممثلون، نقف جنباً إلى جنب تكريماً لكل من فقدناهم، بأيدٍ مقيّدة ورؤوس مطأطأة، والصمت يستولي على المكان، وكأننا نقف في الجنازة تكريماً لموتانا والمفقودين.

صحيح أن المسرح مرآة المجتمع.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard