تظل الأفكار والصور تطن في رأس الفنان حتى يترجمها في عمل إبداعي؛ من هنا يمكننا أن نفهم الحركة والقلق الدائمين اللذين كانا يسمان الشاعر الراحل ميدو زهير الذي رحل وهو في ريعان الشباب بعد.
كان ميدو زهير يحمل رؤى عديدة داخله، سعى لترجمتها للعالم في البداية عبر لوحاته التي يرسمها، لكن الرسم والتصوير لم يكونا قادرين على ترجمة ذلك العالم الذي يمور داخل رأسه الذي لم يجد طريقاً لتجسيده إلا الشعر.
وجد محمد يوسف زهير، الذي اشتهر باسم ميدو زهير (1974 -2020)، نفسه في كتابة شعر العامية. كان يكتب القصائد لنفسه أو لمن يحب قراءتها من أصدقائه، ليكتشف أن كل من يقرأ قصائده من مجايليه يجد في أشعاره تعبيراً صادقاً عن تجارب القارئ، وبات من المعروف أن ميدو زهير يعبر عن جيله ربما أكثر من غيره من شعراء الجيل ذاته.
في كل جيل هناك شاعر يصيغ تجربة الجيل ويلخصها، ربما لا ينجح هذا الشاعر دائماً في أن يكون الأشهر في جيله أو حتى الأنجح بمعايير الانتشار، إلا أن صوته يصبح هو الصوت الذي تتركز فيه خلاصة موهبة وتجربة هذا الجيل
أتى زهير إلى الشعر متأخراً، فكان يجيد تنظيم شعارات التشجيع لمشجعي كرة القدم، وكان يؤلف الهتافات لأصدقائه سواءً من مشجعي الأهلي أو الزمالك، فمنها "اه يا تيشرت العمر، يا أبيض لفيت بيك مشاوير" - استخدم زهير تلك العبارة لاحقاً في كتابة واحدة من أغنياته، فيما باتت "يا تيشيرت العمر يا أبيض" أحد شعارات مجموعة "ألتراس وايت نايتس" التي جرمتها السلطات المصرية لاحقاً هي وغيرها من مجموعات الألتراس.
بدايات الشعر والأغنيات البديلة
بدأ ظهور ميدو زهير مع جيل مستقل من الفنانين في بدايات الألفية. كنت أراه في مقهى الندوة الثقافية بوسط البلد (وسط القاهرة وقلبها الثقافي حتى عامين تليا الثورة). كانت البدايات مع أعضاء فرق موسيقية مستقلة ناشئة مثل "بلاك تيما". كانت الجلسات تجمع أعضاء تلك الفرق وشعراء كثيرين في المرحلة العمرية نفسها. كانوا يجلسون جميعاً في المقاهي ليضحكوا ويغنوا ويتبادلوا قراءة الشعر.
كان فريق بلاك تيما قد بدأ في تكوين جماهريته بين جمهور الفن المستقل، واعتمد الفريق الوليد على ضلعين أساسيين، هما الشاعران ميدو زهير ورامي يحيى. والأخير يشارك أعضاء الفريق جذورهم النوبية الجنوبية. ولا تزال الاغاني التي كتبها كلّ من زهير ويحيى لبلاك تيما هي الأنجح في مسيرتهم والتي يطلبها جمهورهم حتى من الأجيال الأصغر في حفلاتهم المختلفة.
امتاز زهير بالكلمات السهلة والسلاسة في التعبير وقيامه بمزج الكلمات لبناء صور شعرية تكوِّن مشاهد سينمائية متخيلة
ما كتبه زهير ويحيى لبلاك تيما لا يزال معبراً عن روح الشباب، إذ تخرج الأغنيات عن الموضوعات الرومانسية المكررة لتعبر عن الصداقة وأحلام الطفولة والشباب، وكذلك المعاناة في الوطن، فمن المفارقات التي ذكرها زهير أن أغنية "كل مرة" كانت هي أول قصيدة يكتبها في حياته، ولم يعرف أنها تحولت إلى أغنية معروفة ويطلب الناس الاستماع إليها في الحفلات إلا في وقت متأخر. كتب زهير لبلاك تيما أغنيات "يا صديق"، و"مكعب سكر"، و"زحمة"، و"عمارة الناس"، وأغنيات أخرى.
كانت مساحات حرية الإبداع في ذلك الوقت أكبر من الوقت الحالي الذي يصعب أن يجد الفن المستقل فيه موطئاً. كل النطاقات السياسية والفنية كانت تغني، فبرغم أن الكلمات في معظمها كانت تحمل معاني الأسى على الوطن، إلا أنها كانت تحمل أملاً بصلاح الحال؛ أملاً لم يعد يدعيه أحد الآن.
"اللي نامية وفيها ثروة م الفلوس تعمل جبال، اسأليني عن كباري نايمة تحتيها العيال، اسأليني ع الغلابة واسأليني ع التُقال"...
امتاز زهير بالكلمات السهلة والسلاسة في التعبير وقيامه بمزج الكلمات لبناء صور شعرية تكوِّن مشاهد سينمائية متخيلة.
مع دخول الثورة كان مجال الحرية يتسع وكانت كلمات الجيل التي عبر عنها زهير تترجم ليتحقق حلم الحرية والعدالة الذي لم يدم طويلاً، لكنه كان حلماً جميلاً عشناه وقتها، فصعد الغناء المستقل من الهامش، وفرض نفسه على المتن الذي تراجع لصالح العديد من الفنانين المستقلين، مثل دينا الوديدي التي غنت لزهير عدة أغنيات ناجحة منها "تدور وترجع" و"يا جنوبي" و"بلاد العجايب"، كما غنى له فريق وسط البلد ومريم صالح، كتب ميدو لكلّ منهما أغنيات مميزة كانت سبباً رئيسياً في نجاحهم.
مشروع "ألبوم الإخفاء"
يمكن الاختلاف على أهمية جمال الصوت للمطرب، ففي نطاق الأغنية البديلة قد تتغير القواعد، ويمكن أن ترجح كفة الأداء والكلمات عن جمال الصوت والغناء الطربي. الفنانة مريم صالح مثال واضح على ذلك، فهي أكثر من غنى من كلمات زهير وجاءت من خلفية الغناء للشيخ إمام الذي لم تعتمد ألحانه وأغنياته كثيراً على التطريب، ولكن على التأثير الذي يحدثه الأداء في نفس المتلقي.
لهذا كان من المنطقي أن تجد في ميدو زهير شاعرها الذي يمكن أن يقدم لها ما تحتاج من "غناء ثوري" لا بالمعنى السياسي فقط، وإنما بالثورة على المفاهيم والتقاليد، ما أعطاها أفضلية لدى الجمهور الذي يلفته جودة الكلمات وارتكاز الأغنية على الشعر كما في أغنياتها "أعمى على المكشوف" و"كشف أثري" وغيرهما.
في عام 2017 أصدرت مريم صالح مشروع ألبوم بعنوان "الإخفاء" كان من كلمات ميدو زهير، ووضع الموسيقى تامر أبو غزالة وموريس لوقا.
التجربة في حد ذاتها كانت جريئة وقوية، تنوعت الأغنيات في موضوعاتها، حيث يميل زهير في كلماته للفلسفة الذاتية التي تخرج للشأن العام، ففي شعر زهير مثل أغنيته "بتسأليني مت ليه" يرد: "كنت باجري عاوز أوصل"، وفي كثير من المواضع يكتب عن الوطن والظلم والصداقة بأساليب تورية وتشبيهات شعرية متعددة، فهو ليس شاعراً للأغنيات المباشرة، ويمكننا هنا النظر إلى أغنيته "الشهوة والسعار":
السُطل* بوفرة، والبطولة بفرة
والتراتيل أغاني، والأغاني صفرا
والطرق متاني، كافرة بنت كافرة
في أغنيته "تسكر تبكي" يخرج ميدو زهير ومعه مريم صالح عن نطاقات الرقابة والمعاني المباشرة لما ينظر إليها باعتبارها "كلمات بذيئة"، ففي سياق الفن والأدب تكون لهذه الكلمات معان أخرى صادقة. فهذه الأغنية "العتابية" تخاطب عقل الإنسان النادم: "لجل العشق في بختك ميل، تسكر تبكي زي العيل". هنا يظهر ما يدور بالعقل: "لجل دماغك مش مظبوطة ولجل الحلوة كانت شرموطة ولجل مغفل في الحدوتة ولجل علامك لسه قليل".
صياغة مذهلة من شاعر عن الإنسان وإيمانه ورغباته ثم الوقوع في الندم: "رغم ده كله برضك حاسس إن الحب الفرض السادس لا والأدهى في أصغر حادث تجري تقوم سكران متنيل".
هنا أذكر رأي زهير الذي كان يكرره كثيراً في أنه يفضل أن تظل كلماته شعراً على أن تتحول للغناء، على الرغم من أن الأغنية أسرع وصولاً للجماهيرية. وحين ينصح بالتوسع في كتابة الأغاني والتعاون مع المطربين المشهورين في التيار السائد كان يرفض بقوة، ويعتبر هذا داءً لا يرغب في أن يصاب به، ويكفيه فرحة شهرة الكلمات وترديدها عن معرفة صاحبها؛ فمثلاً كانت له أغنية "أزرق" التي غناها فريق بلاك تيما في بداياته واكتسبت شهرة في النطاق البديل، ثم ظهرت في مسلسل الجماعة في عام 2010 حين ألقاها أحمد حلمي في أحد المشاهد، كان ميدو سعيداً وقتها عندما قابل حلمي ووجده يحفظ أغاني بلاك تيما ويحبها.
البعد عن الأضواء
كان زهير يظهر في نطاقات ضيقة سواء في الحفلات أو البرامج، ولم يكن يهوى عمل الدواوين لكنه عندما عرض عليه نشر ديوانٍ وافق، ليكون ديوانه الوحيد "حقنة".
مع صدور الديوان في عام 2015، كان قد وصل لقناعة - على حد قوله - أن الديوان "على مستوى التاريخ والتأريخ والتدوين لما يهم الناس"، ووقتها كتب على صفحته الشخصية في فيسبوك أنه سيكون له "لو أمد الله عمره ديوان ثان وأخير" يحمل بقية كتاباته، وكأنه يعلم أن عمره لن يكون طويلاً ليملأ الوسط بأشعاره.
وجهة نظر زهير كانت أنه لا يحب الأغنيات في المطلق، فهو يحب الموسيقى وحدها لتعطى المساحة للتأمل دون أن يقيدها كلمات ومطرب، كذلك يرى الشعر. أن تقديره يكون بقراءته ليس سماعه، حتى ولو في إلقاء الشعر، لأنه يعتبر أن الإلقاء به جزء من التمثيل والمسرحة.
آمنت بالناس والمدد والمد
وآمنت بالخير وما حوشتهوش عن حد
وحلمت أحلام مستحيل تتعد
دلوقتي بسأل...
أنا عشت أوهام ولا عشت بجد
يمكننا تقييم تجربة زهير في كتابة الأغنية بأنها ليست مجرد "تجربة مختلفة"، كما يكتب دوماً عن التيار البديل؛ فأشعار زهير تحمل بالفعل خصوصية حاول كثيرون في جيله والجيل الذي يليه أن يقترب منها، إلا أنه في كل جيل هناك شاعر يصيغ تجربة الجيل ويلخصها، ربما لا ينجح هذا الشاعر دائماً في أن يكون الأشهر في جيله أو حتى الأنجح بمعايير الانتشار، إلا أن صوته يصبح هو الصوت الذي تتركز فيه خلاصة موهبة وتجربة هذا الجيل، كما كان عصام عبد الله في الثمانينيات والتسعينيات؟ ثم ميدو زهير في بداية الألفية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...