لم يجد محمد رزق بداً من اللجوء إلى مهنة شاقة لا تتناسب مع وضعه الصحي، وهي قيادة "توك توك" التي باتت ملاذه الأخير بعد محاولات عديدة للاستفادة من القانون رقم 10 لسنة 2018 الخاص بحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة في مصر. رزق شاهد على أن النصوص القانونيةال شديدة الإحكام والعدالة لا تقود بالضرورة إلى وضع عادل.
في جلسة عقدتها لجنة التضامن الاجتماعي والأسرة بمجلس النواب المصري في 30 يوليو/ تموز الماضي، أنهى النواب جلستهم بمجموعة من التوصيات قدموها للحكومة، ومن بينها: "العمل على تفعيل كافة البنود والامتيازات الواردة بالقانون رقم 10 لسنة 2018، الخاص بحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة ولائحته التنفيذية"، ما يشير إلى أن بعض بنود ومواد القانون مُجمَّدة على أرض الواقع.
محمد رزق واحد من هؤلاء الذين حرموا من الحق في العمل، وهو تخطى الأربعين من عمره من دون مصدر دخل، إذ أصيب منذ الطفولة بإعاقة في الساقين نتيجة ضمور العضلات، ما حرمه من الحق في التعليم كذلك، كون المدارس الموجودة في محيطه غير مؤهلة لاستقبال ذوي الإعاقات الحركية
أحلام مجمَّدة
مثّل القانون رقم 10 لسنة 2018 عند صدوره، خطوة مهمة في مجال حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة الذين طالبوا منذ عقود بقانون جامع يشتمل على حقوقهم في العمل والصحة والتأمين الاجتماعي وغيرها من الحقوق الأساسية. وبعد 5 سنوات من صدوره، لا يزال الحق الأساسي في العمل غير مكفول على أرض الواقع بالنسبة للمصريين من ذوي الإعاقة، ما يعني الانتقاص من قدرتهم على العيش وكفاية حاجاتهم الأساسية وحرمان كثير منهم من القدرة على إعالة أسرهم أو الاضطرار للاستغناء عن حلم تكوين الأسرة من الأساس.
محمد رزق واحد من هؤلاء الذين حرموا من الحق في العمل، وهو تخطى الأربعين من عمره من دون مصدر دخل، إذ أصيب منذ الطفولة بإعاقة في الساقين نتيجة ضمور العضلات، ما حرمه من الحق في التعليم كذلك، كون المدارس الموجودة في محيطه غير مؤهلة لاستقبال ذوي الإعاقات الحركية، ومعاناته أيضاً من التمييز الذي يواجهه الكثير من ذوي الإعاقة والاحتياجات الخاصة: "مدير المدرسة مرضاش يدخلنى المدرسة قال مين هيدخَّله الحمام ومين هيدخله الفصل؟".
عندما بلغ رزق سن العمل، تقدم بطلبات عديدة للحصول على وظيفة حكومية ضمن النسبة المقررة لذوي الإعاقة (5% على الأقل من العاملين في أية منشأة حكومية أو خاصة)، إلا أنه لم يُوفّق، خاصة مع ضعف نصيبه من التعليم، فاضطر للعمل في أكثر من مهنة شاقة لا تناسب إعاقته، إلى أن استقر به الحال سائق توك توك: "أصحابي ساعدوني ولحموا حديدة في البنزين والفرامل في التوك توك عشان اقدر اتحكم فيهم، لكن كانت بتتفصل كل شوية. فبقيت أحط قدمي على الفرامل والبنزين، واضغط علي ركبتي بإيدى فأقدر أتحكم".
وضع العمل "الحالة العملية" للأشخاص ذوي الإعاقة في مصر تتوزع كالتالي: 14.6% منهم يعملون في المهن الأولية، و6.3% عمال في المصانع و21% في الزراعة و13.4% حرفيون و24% في مجال الخدمات والبيع، بينما المهن المرموقة من وجهة نظر المجتمع فنصيبهم منها 4.7% فقط
مثله محمد عبد العظيم، الذي يبلغ من العمر 27 عاماً، وأتم دراسته في كلية التجارة ويعاني أيضاً من ضمور في العضلات الطرفية تسبب في صعوبة الحركة والاتزان، ما يمنعه من تحمل المهن الشاقة. وعلى الرغم من أنه نال حظاً أفضل من التعليم لم يشفع له هذا في إيجاد مصدر دخل يتناسب مع وضعه الصحي ومؤهلاته، يقول: "أخذت ثلاث جوابات من مكتب العمل لثلاث شركات على فترات متباعدة، ذهبت للشركة الأولى ووجدت أن العنوان خطأ، والشركة الثانية تبعد عن محل إقامتي مسافة تقدر بساعتين وعبارة عن عامل في مصنع وراتبها لن يكفي احتياجاتي وطبيعة الوظيفة لا تناسب إعاقتي، والمسؤول عن الشركة الثالثة رفضني في اللقاء بحجة أن الوظيفة تحتاج إلى خبرة ولا يوجد وقت لتدريب شاب".
لا يزال محمد يحيا في كفالة والده "سئمت الذهاب المتكرر لمكتب العمل"، يعيش عبد العظيم في مركز ديرب نجم بمحافظة الشرقية (شمال شرقي القاهرة)، والمركز - مثل كثير من المنشآت الخدمية في مصر- غير مجهز لاستقبال ذوي الإعاقة، ما يجعل تردد عبد العظيم وغيره من ذوي الإعاقة على مثل تلك المنشآت الخدمية الحكومية مهمة شاقة، خاصة أن الدولة لا تزال لا تلتزم بتهيئة المنشآت الخدمية لاستخداماتهم.
هذا الوضع ليس مريحاً للشاب الجامعي الذي يتساءل: "لحد امتى هفضل (سأظل) بلا وظيفة؟ لحد امتى هفضل عبء على والدي؟".
محاولات للعيش
وفقا لدراسة صادرة على الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في العام 2020، فإن وضع العمل "الحالة العملية" للأشخاص ذوي الإعاقة في مصر تتوزع كالتالي: 14.6% منهم يعملون في المهن الأولية (حسب تصنيف العمل العربي)، و6.3% عمال في المصانع و21% في الزراعة و13.4% حرفيون و24% في مجال الخدمات والبيع، بينما المهن المرموقة من وجهة نظر المجتمع فنصيبهم منها متواضع، فقط 4.7% منهم يشغلون مناصب إدارية و5.2% يعملون في المهن العلمية.
عند سؤال أحمد حسين الذي يعاني من إعاقة بصرية عن معاش تكافل وكرامة الذي يكفله له القانون، أجاب أنه لا يحصل عليه بسبب الروتين إذ طلبت منه الجهات الحكومية إيصال كهرباء أو غاز أو ماء باسمه، لكنه لا يمتلك شقة أو بيتاً، وبالتالي لا يمكنه الحصول على مثل تلك الوثائق
"ما زلنا نبحث ونقيس"
تمثل النائبة هند حازم الأشخاص ذوي الإعاقة في مجلس النواب المصري، وخلال مشاركتها في الجلسة المخصصة لمناقشة حقوق هذه الفئة في الحوار الوطني ضمن جلسات لجنة العدالة الاجتماعية، قالت حازم: "عندنا قانون رائع وهو قانون رقم 10 لسنة 2018، لكن لسه بنتابع في تفعيله، لسه نتابع في الثغرات الموجودة فيه. إحنا لسه في مرحلة قياس الأثر، ولسه عايزين نفعل القانون على أرض الواقع".
لكن أوضاع ذوي الإعاقات والاحتياجات الخاصة، ربما لا تحتمل كل هذا الانتظار الذي تجاوز السنوات الخمس منذ إقرار القانون ولائحته التنفيذية وسريانهما عملياً ولكن من دون تفعيل.
من هؤلاء الثلاثيني أحمد حسين الذي يعاني من إعاقة بصرية، إذ إنه محروم من البصر كلياً في واحدة من عينيه بينما الأخرى ضعيفة. يحيا حسين بلا دخل منذ عام 2018، يقول: "أعتمد على معونات ثلاث جمعيات خيرية تعطيني مالاً أحيانًا وسلعاً في أحيان أخرى"، إلا أن هذا الوضع لا يرضيه.
بدأت معاناة حسين في العام 2018، بعد تسريحه من الشركة التي كان يعمل بها بسبب تصفيتها، ومنذ ذلك الحين يعيش بلا عمل رغم كل محاولات السعي والتقدم لشغل وظائف يملك الخبرة والقدرة على أدائها: "مفيش تعيين في شركة حكومية أو خاصة، وكل شهر أذهب لمكتب العمل بلا جدوى".
وعند سؤال أحمد عن معاش تكافل وكرامة الذي يكفله له القانون، أجاب أنه لا يحصل عليه بسبب الروتين إذ طلبت منه الجهات الحكومية إيصال كهرباء أو غاز أو ماء باسمه، لكنه لا يمتلك شقة أو بيتاً، وبالتالي لا يمكنه الحصول على مثل تلك الوثائق، إذ يسكن الآن في شقة بموجب نظام الإيجار الجديد "عقد إيجار مؤقت".
أمل أحمد يتلخص في وظيفة يحصل منها على راتب شهري، حتى لو كان ضئيلاً، إلا أن آماله مرشحة للاستمرار في التأجيل.
تعيين ذوي الاحتياجات الخاصة في الوظائف الحكومية متوقف منذ عام 1998، ويتم استغلال ذوي الاحتياجات الخاصة في القطاع الخاص وتعيينهم بشكل وهمي عن طريق بطاقات ورقية يتم إثباتها في التأمينات قد تجعل الحاصل على الوظيفة يقبض راتبه وأحيانا لا، مما يجعل التوظيف على الورق فقط
يقدر برنامج الأمم المتحدة للتنمية عدد الأشخاص ذوي الإعاقة في مصر بنحو 12 مليوناً، ويقدر بالتالي عدد المتأثرين بإعاقاتهم من أفراد الأسرة والمجموعات الأولية الداعمة بنحو 36 مليوناً، أي ما يزيد على ثلث السكان وفقاً للتقديرات الأخيرة التي تضع السكان عند 105.7 مليون مواطن.
بحسب التقرير المشار إليه، يعاني الأشخاص ذوو الإعاقة ضمن أفقر 20% من المصريين. وفي العام 2018، كان معدل التوظيف 44% فقط من إجمالي من ينتمون إلى فئة ذوي الإعاقة، انخفاضاً عن العام 2012 الذي بلغ فيه المعدل 47%.
النائبة ابتهاج الطوخي قالت في كلمة وجهتها في البرلمان إن تعيين ذوي الاحتياجات الخاصة في الوظائف الحكومية متوقف منذ عام 1998، "وفي القطاع الخاص يتم استغلال ذوي الاحتياجات الخاصة وتعيينهم بشكل وهمي عن طريق بطاقات ورقية يتم إثباتها في التأمينات قد تجعل الحاصل على الوظيفة يقبض راتبه وأحيانا لا، مما يجعل التوظيف على الورق فقط لا غير"، مطالبة بعقد "الملتقى التوظيفي لذوي الهمم"، وعُقد الملتقى في 26 سبتمبر/ أيلول الماضي.
ندرة الوظائف المتاحة أمام ذوي الاحتياجات الخاصة في مصر ليست وحدها المشكلة بل هناك مشكلات أخرى: "عمري هو عائق في التقديم للوظائف المطروحة وهو يبلغ 35 سنة، ولما قدمت في وظيفة تابعة لهيئة السكة الحديد تم رفضي لأن الحد الأقصى لسن المتقدم أقل من 30 سنة"، هكذا قال إبراهيم الروبي الذي يعاني من إعاقة حركية ويحيا الآن بلا مصدر دخل.
الحالة المتكررة لمن هم مثل إبراهيم دفع النائبة هند حازم التي تمثل ذوي الاحتياجات الخاصة في مجلس النواب إلى التقدم بطلب إحاطة في 5 ديسمبر/ كانون الأول من العام 2022، طالبت فيه باستثناء الأشخاص من ذوي الإعاقة من شرط السن عند التقدم إلى الوظائف الحكومية، إلا أن طلبها لم يلق استجابة إلى الآن.
إبراهيم الروبي أصيب باليأس من كثرة محاولات البحث عن وظيفة إذ رفض وظيفة في شركة خاصة قررت تعيينه مقابل 500 جنيه - شكلياً- مع إعطائه خيار عدم الذهاب للعمل، وكانت هذه الفرصة الوحيدة المتاحة له بعد عدة شكاوى. وتسعى الشركات في مصر إلى تضمين أوراقها موظفين من بين الأشخاص ذوي الإعاقة للحصول على الحوافز والإعفاءات التي يكفلها القانون للشركات التي تقدم على تشغيلهم، من دون أن يترتب على ذلك حقوق لذوي الإعاقة أنفسهم.
رفضاً لذلك الوضع، ظل إبراهيم يسعى للكسب من عمله وعلم نفسه مجال التصميم عبر برنامج الفوتوشوب وكان يعمل أكثر من اثنتي عشرة ساعة يومياً في شركة خاصة وصل لها بمجهوده الذاتي من دون مساعدة من الحكومة المصرية، لكن الوضع تأزم بعد تسريحه من العمل وغلق الشركة وفقده القدرة على البصر ليصبح الآن بلا عمل.
تواصل رصيف22 مع إيمان كريم المشرفة العامة للمجلس القومي لذوي الاحتياجات الخاصة ومع عبد الوهاب خضر المتحدث الرسمي باسم وزارة القوى العاملة والهجرة من أجل التعرف على جهود الكيانين الحكوميين لحل مشكلة التوظيف لدى الأشخاص ذوي الإعاقة، إلا أن الأولى رفضت الرد على أسئلتنا ولم نتلق إجابات على الإطلاق من المتحدث باسم وزارة القوى العاملة حتى نشر هذا التقرير.
وتبقى قوانين توظيف الأشخاص ذوي الإعاقة أسيرة الورق بلا تفعيل أو تنفيذ، وحال ملايين منهم بلا عمل يسير من سيىء إلى أسوأ نتيجة عدم وجود دخل يضمن لهم حياة كريمة في ظل تردي الأحوال الاقتصادية وغلاء المعيشة. أما النواب الممثلون لهم في البرلمان بغرفتيه فلا تقود توصياتهم إلى تغيير حقيقي في أوضاع ذوي الإعاقة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...