"إذا ما ساعتن البيوت لأهل الجنوب، بتساعن قلوبنا"؛ عددٌ من روّاد مواقع التواصل الاجتماعي، والمواطنين اللبنانيين عموماً، رفعوا هذا الشعار، بكلّ حفاوةٍ وصدقٍ ومن باب التكافل الاجتماعي. فيما رُفعت شعارات أخرى كنتيجة حتميّة لسنوات التفرقة الطائفية والمذهبية والحزبية بين اللبنانيين، تقول ما معناه "لن نستقبلكم في مناطقنا"، ولسبب إضافيّ أيضاً، هو عدم إجماع اللبنانيين على وحدة الصفّ والعدوّ، وانقسامهم بين من يرى أنّ الاحتلال الإسرائيليّ يشنّ اعتداءات على الحدود اللبنانية-الفلسطينية، وبين من يعتبر أن حزب الله "يجرّ البلد إلى حرب"، لا ناقة له فيها ولا جمل.
الواقع أنّ البلد على خطّ تماس دائم، منذ نكبة عام 1948. اشتعلت الشرارة مجدداً بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، وعملية "طوفان الأقصى" التي شنّتها "حماس" في غلاف غزة. عمليةٌ هي الأكبر والأقسى على الكيان الإسرائيليّ الذي أعلن إثرها شنّ حرب هوجاء على القطاع المحاصر، ولم تسلم جبهته الشمالية، أي اللبنانية، من بطشه أيضاً.
القصفُ الإسرائيليّ المتواصل على قرى الشّريط الحدوديّ مثل الضهيرة، العديسة، عيتا الشعب وغيرها، أدّى إلى نزوح أكثر من 19 ألفاً من سكّان الجنوب من منازلهم حتى نهاية شهر تشرين الأول/ أكتوبر، بحسب منظمة الهجرة العالمية.
وصرّح الباحث في شركة "الدولية للمعلومات" اللبنانية محمد شمس الدين، أنّ "عدد النازحين من جنوب لبنان بلغ قرابة 45 ألفاً بسبب الأحداث الأمنية عند الحدود"، موزّعين على عشرات المناطق، منها صور صيدا والضاحية الجنوبية لبيروت وإقليم الخروب وصوفر وبحمدون وجبيل.
إلى أين ذهب هؤلاء؟ هل آوتهم الدولة في مساكن آمنة؟ أم لم تكن أمامهم سوى خيارات السّكن لدى الأقارب أو استئجار منزل جديد؟
الإجابة: لم تفعل الدولة ما يجب أن تفعله حتى اللحظة. تُرك النازحون الجنوبيّون لمصيرهم، ولمزاج السّوق العقاري وأسعاره "الخيالية"، بإجماع كلّ من سألناهم.
ارتفعت إيجارات المنازل في العاصمة اللبنانية بيروت وضواحيها، أكثر من ثلاثة أضعاف ما كانت عليه قبل القصف، بسبب استغلال مالكي العقارات حاجة العوائل الهاربة من نيران الحرب، إذ طلب سماسرة العقارات ومالكوها 1،000 دولار مقابل الشهر الواحد حسب كل منطقة، ودون مفاوضات أو تنازلات، ودون أن تشمل هذه الكلفة "خدمات البناية"، من كهرباء ومياه وإنترنت. أكثر من ذلك، يطالبون بدفع 6 أشهر مسبقاً، وفي أحسن الأحوال ثلاثة أشهر.
تروي كارلا قاسم (اسم مستعار كونها لا تستطيع الحديث باسمها لطبيعة عملها)، رحلة بحثها عن مسكن بعد النزوح القسري بفعل القصف، من قريتها حولا، وتقول لرصيف22: "أمضيت ستة أيام وأنا أُجري اتصالات ومفاوضات مع سماسرة من مختلف المناطق في لبنان، وصُدمت بالمبالغ الخيالية المطلوبة. في منطقة عاليه مثلاً، طُلب لقاء الشهر الواحد نحو 7،000 دولار لما يشبه الشاليه. في السّعديات والجيّة وشحيم، أقلّ شقّة مفروشة تؤجَّر اليوم بـ800 دولار مع شروط حول عدد الأشخاص المسموح لهم بالسّكن (يجب ألا يتجاوز عددهم الـ5 أو الـ6)، ودفع شهرين مسبقاً".
"عدد النازحين من جنوب لبنان بلغ قرابة 45 ألفاً بسبب الأحداث الأمنية عند الحدود"... إلى أين ذهب هؤلاء؟ هل آوتهم الدولة في مساكن آمنة؟ أم لم تكن أمامهم سوى خيارات السّكن لدى الأقارب أو استئجار منزل جديد؟
لم يتوقّف الأمر مع كارلا عند طلبات الدفع المسبق، والإيجارات المرتفعة والمضاعفة. سألت أحد السماسرة في بعبدا، بعد أن وجد لها شقةً بـ1،000 دولار، مع شرط دفع ثلاثة أشهر مسبقاً، ماذا لو عدنا في الغد إلى منازلنا؟ فأجابها: "لا نعيد لك ولا ألف ليرة".
تتابع قاسم رحلتها، بعد أن تركت ابنها لدى الأقارب ريثما تجد بيتاً "نعيش فيه بكرامة". في منطقة فردان، "عرضوا عليّ منزلاً مساحته 30 متراً بـ1،000 دولار، وفي كل مرّة كنت أخبرهم بأنّنا نازحون ولسنا سيّاحاً، لكن دون نتيجة"، حتى استقرّت أخيراً في منطقة الرميلة على خطّ بيروت-الجنوب، في شقّة مفروشة مؤلفة من خمس غرف كلفة إيجارها 1،000 دولار شهرياً، وجدتها عبر صديق مشترك مع مالك المنزل، فلم تضطرّ إلى دفع عمولة أو إلى الدفع مسبقاً، لكن كان الشرط الوحيد ألا يزيد عدد قاطنيه عن خمسة أشخاص.
واقع الحرب وأزمة النزوح من جنوب لبنان نحو المناطق الجبلية والمناطق الحيوية في بيروت، وجدهما بعض المالكين صفقةً من ذهب لهم في موسم الجمود، فرفعوا بدل الإيجار بنسب متفاوتة بين 20 و30 و50% باعتبار أن الإيجار شهري، وليس لفترة طويلة.
سوق العقارات وشريعة الغاب
يرى الخبير الاقتصادي بيار خوري، أنّ ما تشهده حالة السّكن والنزوح في الأسبوعين المنصرمين في لبنان، مردّها إلى كون "سوق الإيجارات والعقارات سوقاً حرّةً لا تحتكم إلى قوانين محدّدة، خاصّةً بعد الجمود العقاريّ في البلد لنحو 4 سنوات. ربّما يجد البعض في هذه المرحلة فرصةً لتعويض خسارة ما، أو تأمين دخلٍ مرتفع".
من الناحية الأخلاقية والوطنية والإنسانية، لا يختلف اثنان على أنّ ما يحصل هو استغلالٌ للأزمات، لكن من الناحية الاقتصادية يفنّد خوري أنّه "أمرٌ متوقّع وليس غريباً. فلسفة السوق فلسفة أنانية تقوم على تعظيم الربح الفردي، والارتفاع الكبير في الأسعار نتج عن الزيادة المتسارعة والكبيرة في الطلب. نعم في السوق شريعة غاب، لكنّ السؤال الحقيقيّ الذي يصبّ في عمق الأزمة هو: أين الجهة العامّة المسؤولة عن ضبط هذه السوق؟".
قبل الدخول في متاهات الدولة اللبنانية التائهة أصلاً في نفق أزماتها منذ سنوات، لا سيما بعد "أزمة 2019 الاقتصادية" المستمرّة، لا بدّ من الحديث مع الطرف الآخر، أي السماسرة.
تواصلنا في رصيف22، مع أبي شادي (52 عاماً)، وهو سمسار يملك أحد المكاتب العقارية في عرمون، للسؤال عن بيت لعائلة نزحت من الجنوب، فعرض منازل عدة للإيجار في بشامون وعرمون ومناطق أخرى، لكن دون عقد إيجار. يقول: "نحن نؤجر حسب مساحة الشقة. توجد شقق بدءاً من 250 دولاراً حتى 600 دولار، وفي حال كانت الشقة جديدةً، يجب أن تدفع إيجار ستة أشهر مسبقاً وإيجار شهر كتأمين، ولكن طالما أنّ الوضع محكوم فلا توجد مشكلة في أن نأخذ إيجار شهرين مسبقاً وشهر كتأمين، أو إيجار شهرين مسبقاً".
وبحسب السمسار أبي شادي: "ارتفع الإيجار الشهري للشقّة مع شهر ضمان وشهرين مسبقاً من 700 دولار حتى 1،200 دولار، وذلك حسب مساحة الشقة، عدا عن عمولة المكتب، وأجرة عمال نقل الممتلكات التي تبلغ 20 دولاراً لكل عامل في الساعة، بالإضافة إلى أجرة السيارة والتي تبلغ 200 دولار".
بعد أيام عدة، عادونا الاتصال بالسمسار ذاته، أبي شادي، للبحث مجدداً عن شقة مفروشة بسعر معقول. الشقة ذاتها التي كان إيجارها شهرياً 200 دولار، أصبحت بعد أيام عدة بـ400 دولار، ولكن غير مفروشة، كما عرض علينا شقةً في الشويفات بـ600 دولار، وعندما قلنا له هناك أسعار أرخص من ذلك أجاب: "أي روح استأجر!".
المشكلة لا تكمن في الارتفاع الجنوني لأسعار الإيجارات فقط، بل تتضاعف عندما يستأجر الزبون الشقة بـ1،800 دولار، لمدة ثلاثة أشهر، ثم يعود المالك ويرفع الإيجار إلى الضعف بحجة الضمان.
يتابع السمسار خلال تسجيل صوتي معه: "عندما يتم الدفع لأشهر عدة مسبقاً يبقى سعر الشقة على حاله. أما عندما يكون الدفع شهرياً، فكل شهر يضع المالك شروطاً إضافيةً ويرفع الإيجار"، مضيفاً: "الأسعار كانت أرخص قبل حرب غزة واشتعال جبهة الجنوب، وعندما نزح أهل الجنوب تضاعفت الأسعار، والكل يريد شققاً مفروشةً". أنهى أبو شادي كلامه ولم يعد يجيب على أي سؤال آخر.
نقابة المالكين: شرفاء في تعاطينا مع أهلنا أبناء الجنوب!
لاعبٌ رابع بعد النّازحين والدولة والسماسرة، دخل على الخطّ مدافعاً عن نفسه: نقابة المالكين في لبنان. ردّت النقابة في بيان على الأخبار المتداولة في وسائل التواصل الاجتماعي حول استغلال المالكين لأزمة النزوح عادّةً أنها "حملة لتشويه سمعتهم وتندرج في إطار الحملات التي تقوم بها لجان الدفاع عن المستأجرين بهدف تشويه صورة المؤجّرين، وتأليب الرأي العام ضدهم، لحرف الأنظار عن معضلة الإيجارات القديمة، التي تستمر الدولة في فرضها علينا".
النقابة طلبت من وسائل الإعلام التدقيق في صحّة المعلومات قبل نشرها حول ارتفاع الإيجارات واستغلال نزوح عائلات من الجنوب إلى مناطق أخرى، لأنها تسيء إلى خدمة الإيجار بالدرجة الأولى، كما تنبّه إلى أنّ بدلات الإيجار تختلف بين وحدة وأخرى وفق معايير المساحة والمنطقة، وأن إيجارات الشقق المفروشة تختلف عن غير المفروشة، حتى أن بعض العائلات ربما تطلب مساحات كبرى كشقق بمساحة 300 متر أو أكثر، وهذه طبعاً تؤجَّر بأسعار مختلفة عن الإيجارات في المباني القديمة، بحسب بيانها.
"ما تشهده حالة السّكن والنزوح في الأسبوعين المنصرمين في لبنان، مردّها إلى كون سوق الإيجارات والعقارات سوقاً حرّةً لا تحتكم إلى قوانين محدّدة، خاصّةً بعد الجمود العقاريّ في البلد لنحو 4 سنوات. ربّما يجد البعض في هذه المرحلة فرصةً لتعويض خسارة ما، أو تأمين دخلٍ مرتفع"
هذا لناحية البيانات والإدانات، لكن على الأرض وبالنسبة للسيدة سناء صالح، الوضع مختلف تماماً. تحكي لرصيف22، كيف هرعت وعائلتها من بلدتهم عيتا الشعب التي لم تُغلَق الجبهة فيها منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي. تقول: "لم نجد حتى اليوم منزلاً بأقلّ من 1،500 أو 2،000 دولار، أو بهذا السّعر، مع عمولة شهر واحد، والجميع يطلب شهرين أو ثلاثة، ونحن نتنقّل بين الفنادق الرخيصة والمجهول، دون أن ندري ما سيحلّ بنا. السماسرة اليوم لا يفاوضون بل لديهم شعار موحّد: أعجبك استأجر، لم يعجبك، ارحل".
أين ترحل هذه العائلة اللبنانية مثلاً؟ وإلى أين يفرّ المرء عندما يضيق به بلده فيجد القصف والموت المحدق من جهة، والاستغلال الاقتصادي وخطر التشرّد من جهة أخرى؟ ربّما لا يكون أمامه سوى العودة إلى ميدان الخطر، إذ تشير كارلا قاسم إلى أنّ بعض أبناء بلدتها حولا، اضطروا إلى الرجوع إلى منازلهم بعد عدم تمكّنهم من تحمّل كلفة الإيجار المرتفعة.
من ناحية أخرى، تمكّنت ابنة كفر رمان، فاطمة غزلة، من النجاة بأسرتها المكوّنة منها ومن زوجها وابنها الصغير الذي لا يتجاوز الثلاثة أعوام نحو منطقة زغرتا: "ابني صغير، لم تُقصف بلدتنا لكننا لم نسلم من أصوات القصف، وقررنا الانتقال مؤقتاً إلى منزلنا الحالي في كرم السدّة، مقابل 400 دولار شهرياً، وبكامل الاحترام والتعاون قام صاحب المنزل بفرشه وتسليمه لنا دون عمولة".
بينما أخبرتنا بتول منصور، وهي صيدلانية من منطقة حداثا الجنوبية، كيف نزح أقاربها من الجنوب إلى منطقة الحازمية بالقرب من بيروت، و"استأجروا منزلاً صغيراً مقابل 50 دولاراً في اليوم الواحد".
حالة الشابّة ريم مغنيّة، تختلف قليلاً لناحية النزوح فهي ليست نازحةً حاليةً، إنما تقطن في بيروت بسبب عملها، لكنّ أزمتها تتقاطع مع أزمة ارتفاع الإيجارات المتصاعدة لبحثها عن مسكنٍ بعد انتهاء عقد إيجار شقّتها في منطقة الحمرا. تتحدّث مغنيّة لرصيف22: "منذ بداية الأحداث وأنا أبحث بين أحياء بيروت، من الحمرا إلى فردان والروشة وكورنيش المزرعة وبرج أبي حيدر. الأرقام نفسها تتراوح بين 1،000 دولار و1،500 دولار لمنزل لغرفة نوم واحدة ودون خدمات، وأكثر من 1،500 دولار لغرفتَي نوم". الأزمة ليست في الأسعار فقط، تتابع ريم، إنّما أيضاً في عدم إيجاد منازل: "كلّه مفوّل هلق"، والسمسار والمكتب العقاري يطلبان عمولةً وستة أشهر مسبقاً.
وبالحديث عن عقود الإيجار، لا عقود حالياً، الاعتماد فقط على الاتفاق الشفهي.
الجبل مقصدٌ آمن ومُكلف
بعد إعلان الرئيس السابق للحزب "التقدّمي الاشتراكي" وليد جنبلاط، عن فتح أبواب الجبل لاستقبال النازحين، بدأت مدينة عالية التي تمتاز بقربها من بيروت تشهد إقبالاً من النازحين لاستئجار منازل فيها.
تواصلنا مع أحد السماسرة هناك بحثاً عن منزل للإيجار في قضاء عاليه، حيث أصبح إيجار المنزل في صوفر 1،000 دولار شهرياً، أما في دوحة عرمون فـ650 دولاراً للشهر الواحد شرط دفع ثلاثة أشهر مسبقاً، وفي بشامون 500 دولار للمنزل شرط دفع 6 أشهر مسبقاً أيضاً.
وكما حصل مع زميله الأوّل، أغلق السمّاعة ورفض الأخذ والرد معنا عند محاولة الاستفسار عن سبب الارتفاع الكبير في الإيجار. بينما سمسارٌ آخر في بيروت، يجيب بكل هدوء عبر تطبيق واتساب: "مستحيل أن تجدوا منزلاً مفروشاً بغرفتَي نوم وصالون بأقلّ من 1،500 دولار أمريكي. ولأكون صريحاً معكم، يمكن أن أجد لكم إستديو أو فواييه".
سمسار آخر يصف نفسه بأنه شركة لتأجير المنازل، تواصلنا معه للاستفسار عن الإيجارات، يقول: "نستطيع أن نؤمّن لكم منزلاً في أي منطقة في لبنان، ولكن الإيجار سنوي وليس شهرياً، يبدأ بـ500 دولار وهو مفروش وما دون، أي غير مفروش، مع دفعة أولى تشمل إيجار 6 أشهر مسبقاً".
ويضيف: "سوق العقارات أصبح أكثر ارتفاعاً من قبل، بأضعاف. الشقة التي كانت بـ600 دولار قبل أحداث غزة، أصبحت بـ1،200 دولار، وعندما تؤجر في هذا الوقت يرفع المالك سعر الشقة وهذه مشكلة من قبل أصحاب الشقق. السوق كان ضعيفاً جداً وأصبح اليوم مرتفعاً، ونحن لا نغيّر السعر لأننا نوقّع عقداً مع الزبون".
ما أشبه اليوم بتموز/ يوليو 2006
هذا المشهد الذي نراه من حالة استغلال، وتحويل أزمة النزوح الداخلية، مكرر. رأيناه في حرب تموز/ يوليو 2006. يومها كانت حركة النزوح أكثر كثافةً من الجنوب اللبناني نحو المناطق الجبلية الأكثر أماناً، هرباً من شدة القصف الإسرائيلي. وحالة الاستغلال من قبل المالكين التي نراها اليوم، كانت هي ذاتها قبل 17 عاماً، حين تضاعفت إيجارات المنازل 3 أضعاف وأكثر، بالتزامن مع ارتفاع أسعار المواد الغذائية. أمّا من لم تكن لديه القدرة على الاستئجار، فقد ذهب للإقامة في صف مدرسة ما، أو موقف سيارات لمجمّع تجاري.
هذا المشهد الذي نراه من حالة استغلال، وتحويل أزمة النزوح الداخلية، مكرر. رأيناه في حرب تموز/ يوليو 2006. يومها كانت حركة النزوح أكثر كثافةً من الجنوب اللبناني نحو المناطق الجبلية الأكثر أماناً، هرباً من شدة القصف الإسرائيلي.
ويمكن مقارنة الأسعار بين مشهد حرب تموز/ يوليو 2006، قبل 17 عاماً، ومشهد اليوم في ظل الانهيار المالي والاقتصادي الذي يشهده لبنان، حيث يتبيّن أن ارتفاع عقود الإيجار اليوم وصل إلى أضعاف ما كان عليه في حرب تموز/ يوليو، لكن في وقتنا الحالي، الفارق الكبير هو التراجع الكبير للأجور التي يتقاضاها اللبنانيون.
بالنسبة للخبير الاقتصادي بيار خوري، في عام 2006 كان البلد "فيه مصاري، ولم نكن غارقين في الأزمة كما الآن، وحتى في الوقت الذي وصل فيه إيجار بعض المنازل في الجبل إلى 3،000 دولار، كان البعض قادراً على تحمّلها، لكن اليوم قيمتها أكبر بكثير وقدرة المواطن أقلّ بكثير".
نقطة شديدة الأهمية لا يمكن تجاوزها، هي أنّ طريق الشام كان سالكاً وبيوت دمشق فُتحت أو أُجّرت للنازحين بسبب الحرب، لكن اليوم لا سبيل للوصول إلى دمشق، فلا أحد يريد الهرب من الموت إلى الموت.
الإيجارات قبل 7 تشرين الأول/ أكتوبر
قبل شنّ إسرائيل الحرب على غزة، كانت إيجارات المنازل الصغيرة والمتوسطة (بين 90 و120 متراً مربعاً)، تتراوح بين 250 و800 دولار أمريكي حسب المنطقة والمواصفات والمساحة.
أمّا اليوم، فتضاعف إيجار هذه المنازل 4 أضعاف، وفقاً لأحد السماسرة الذين تواصلنا معهم، بحجة تأمين أحد أقربائنا الذي نزح من بيروت. السمسار عرض أسعار بيوت للإيجار مختلفة بحسب كل منطقة، لكن دون عقد موقع بحجة أن الإيجار مؤقت، مع دفع شهرَين مسبقاً بالإضافة إلى شهر تأمين.
ويتراوح السعر من 350 إلى 700 دولار في خلدة، الكفاءات، الشياح، ورفض السمسار الحديث عن سبب ارتفاع الإيجارات.
ليست الأزمة وليدة يوم واحد، أو قائمةً بذاتها فقط، بل هي تراكميّة تضاف إلى أزمة السّكن وارتفاع كلفته منذ عام 2019 تدريجياً. منذ بداية عام 2022، لم يعد أي مالك منزل أو مؤجّر يرضى بالدفع بالليرة اللبنانية علماً بأنّ "حريّة التّعاقد لا تعني أن الدفع بالدولار إلزامي، حتى وإن لم يذكر العقد القيمة بالليرة اللبنانية. فلا يحقّ للمالك عدم قبول العملة اللبنانية حسب المادة 192 من قانون النقد والتسليف، الذي ينص على إلزامية قبول العملة اللبنانية كون الموضوع يمس بسيادة الدولة. وتطبَّق على من يمتنع عن استلام الأجر بالليرة اللبنانية، العقوبات المنصوص عليها في المادة 319 من قانون العقوبات: حبس من 6 أشهر إلى 3 سنوات وغرامة تتراوح من 500 ألف إلى مليوني ليرة"، نقلاً عن مرصد السّكن.
كذلك، فإنّ كلفة الإيجار ارتفعت بشكل عام بنسبة 59 في المئة في الفترة ما بين كانون الثاني/ يناير 2018 وشباط/ فبراير 2022، بحسب إدارة الإحصاء المركزي التابعة لرئاسة مجلس الوزراء في لبنان. كما ارتفعت كلفة الإيجار القديم الذي يعود إلى ما قبل الحرب الأهلية عام 1975، بنسبة 96 في المئة، فيما ارتفعت كلفة الإيجار الجديد، أي بعد عام 1992، بنسبة 36 في المئة.
في الوقت الذي انخفضت فيه قيمة الأجور في مختلف القطاعات، فقد الناس ودائعهم في المصارف، وفقدوا الأمان الصحّي والتّعليمي. لم يكن شيء يرتفع ويرتفع تصاعدياً سوى إيجارات منازلهم وتكاليف معيشتهم، في معادلة غير متساوية على الإطلاق ولا يمكن وصفها إلا بأنها استنزاف تامّ للمواطن.
يرى الخوري أنّ الحلّ الوحيد لمن يعانون اليوم من أزمة السّكن، أن تقوم الدولة بواجباتها تجاههم وفق خطّة طوارئ وإسكان معيّنة، "لا أن تضع المؤجّر والمستأجر في وجه بعضهما البعض، مهما كان المؤجّر جشعاً. على المؤسسة العامّة أن تضبط هذه الحالة وتكون الوسيط وأن تسخّر المال العام لتأمين مواطنيها".
لكن، هذه الدولة التي يُنتظر منها القيام بمهامها، ترزح تحت دين عام تخطّى المئة مليار دولار بحسب أرقام وزارة المالية، ولا تزال تلملم شتاتها بعد انفجار 4 آب/ أغسطس 2020، دون أن تكون حتى اليوم قد أتمّت توزيع التعويضات اللازمة على المتضررين. لا قطاع مصرفياً فاعلاً فيها، ولا بوادر لحلول الأزمة الاقتصادية المتفشيّة في مختلف القطاعات، فكيف ستقوم بذلك؟
الحلّ الوحيد لمن يعانون اليوم من أزمة السّكن، أن تقوم الدولة بواجباتها تجاههم وفق خطّة طوارئ وإسكان معيّنة، "لا أن تضع المؤجّر والمستأجر في وجه بعضهما البعض، مهما كان المؤجّر جشعاً. على المؤسسة العامّة أن تضبط هذه الحالة وتكون الوسيط وأن تسخّر المال العام لتأمين مواطنيها"
خطة طوارئ خجولة
تحت وطأة انهيار الدولة، وفقدان أبسط الحقوق الأساسية لدى اللبنانيين، يفقد اليوم الشعب اللبناني أيضاً أبسط مقومات الأمان، أو ربما اللجوء إلى قبو تحت الأرض تتفاخر الدولة اللبنانية بتجهيزه على الأقل. فبعد مضي أكثر من 37 يوماً على اشتعال جبهة الجنوب التي أدت إلى مقتل أكثر من 70 شخصاً، ونزوح نحو 29 ألفاً آخرين، وفق المنظمة الدولية للهجرة التابعة للأمم المتحدة، خصوصاً من جنوب لبنان أو من بيروت وضواحيها خشية توسّع الحرب، عجزت حكومة تصريف الأعمال اللبنانية عن تجهيز خطة طوارئ لمواطنيها في حال وقوع حرب على لبنان، برغم أنها سبق أن خاضت التجربة ذاتها مع إسرائيل في حرب تموز/ يوليو عام 2006.
واكتفت الحكومة بعد العديد من المناقشات الأسبوعية، ومنها مؤخراً اجتماع في فندق "ريفييرا"، وفقاً للوكالة الوطنية للإعلام، بحضور الوزراء بسام مولوي، فراس أبيض وناصر ياسين، والنائبين نبيل بدر وجهاد بقرادوني، وممثلين عن جمعيات بيروتية ومخاتير، بالاتفاق على خطة طوارئ، بقالب جاهز مستوحى من تجربة حرب تموز/ يوليو 2006، تحت إدارة "اللجنة الوطنية لتنسيق مواجهة الكوارث والأزمات الوطنية لدى رئاسة مجلس الوزراء"، و"لجنة التنسيق مع المنظمات الدولية"، و"وحدة إدارة مخاطر الكوارث".
الخطة تتعاطى مع ما قد ينجم عن الحرب مع إسرائيل من تهجير قسري لمليون لبناني لفترة تمتد على مدى 45 يوماً، كما حصل في حرب تموز/ يوليو، من حيث الحاجة إلى مراكز إيواء جماعية تستوعب 20% من النازحين، أي نحو 200 ألف، والضغط على القطاع الصحي وتأمين المستلزمات الإنسانية للنازحين في مراكز الإيواء، وكيفية التصرف في حال وقع حصار بحري وجوي، كذلك، تنظر الخطة إلى مقاربة حاجات 3 فئات من اللبنانيين، هم النازحون اللبنانيون في مراكز الإيواء، والنازحون اللبنانيون في شقق ومنازل خاصة، والمجتمع اللبناني المضيف.
مرصد السكن اقترح تشريع قانون يفرض غرامةً على كل عقد يُبرم بالدولار، وقانوناً يفرض ضريبةً على الشقق الشاغرة، بالإضافة إلى ربط الإيجارات بمؤشر للتضخّم أو مؤشّر لارتفاع الحد الأدنى للأجور أو متوسّط المداخيل في القطاعين العام و/ أو الخاص المقدّرة بالليرة اللبنانية، ويكفل هذا الإجراء حماية المالكين والمستأجرين معاً.
سكن معدوم ولا رقابة
مع تفاقم الانهيار المالي والاقتصادي في لبنان، بات الوصول إلى السكن الميسّر واللائق أحد أبرز التحديات، خصوصاً في ظل اشتداد الاقتتال جنوب لبنان. فمنذ عقود تعدّ الدولة اللبنانية السكن مجرد سلعة، بدلاً من عدّه حاجةً اجتماعيةً، وسط تخلّيها عن دورها في وضع سياسات إسكانية عادلة، أو التطرق إلى أي إستراتيجية وطنية لضمان حق السكن في حالات الأزمات الاقتصادية والحروب.
فقد بلغت النسبة التي تستحوذ عليها تكاليف الإيجار وخدمات السكن 85% من مجمل دخل الأسر المقيمة في بيروت، ووصلت إلى 100% في الأحياء الأكثر هشاشةً، بحسب مرصد السكن.
وأصبحت جبهة الجنوب موسماً عقارياً مربحاً بالدولار الفريش للسماسرة والمالكين، من خلال استغلالهم أهالي الجنوب الذين نزحوا بسبب احتدام المعارك، مع تهديد حياة آلاف اللبنانيين الذين هم بحاجة إلى مسكن آمن في ظل هذه الحرب، خاصةً في ظل غياب دور وزارة الاقتصاد في ضبط حالة الفلتان في أسعار الإيجارات.
مرصد السكن اقترح تشريع قانون يفرض غرامةً على كل عقد يُبرم بالدولار، وقانوناً يفرض ضريبةً على الشقق الشاغرة، بالإضافة إلى ربط الإيجارات بمؤشر للتضخّم أو مؤشّر لارتفاع الحد الأدنى للأجور أو متوسّط المداخيل في القطاعين العام و/ أو الخاص المقدّرة بالليرة اللبنانية، ويكفل هذا الإجراء حماية المالكين والمستأجرين معاً.
كذلك يقترح المرصد، إصدار تعميم يشمل احتكام بدلات الإيجار إلى سعر الصرف الرسمي، فلا يحق للمالك عدم قبول العملة اللبنانية حسب المادة 192 من قانون النقد والتسليف، الذي ينص على إلزامية قبول العملة اللبنانية كون الموضوع يمس بسيادة الدولة. وتطبَّق على من يمتنع عن استلام الإيجار بالليرة اللبنانية العقوبات المنصوص عليها في المادة 319 من قانون العقوبات: حبس من 6 أشهر إلى 3 سنوات، وغرامة تتراوح بين 500 ألف ومليونَي ليرة.
كما يقترح المرصد أن يكون مصرف لبنان الجهة الرسمية لسعر الصرف، وأي اقتراح لسعر صرف مختلف هو تحميلٌ لمخاطر سعر الصرف للمستأجرين. وفي حال امتنع المالك عن قبض الإيجار بالليرة اللبنانية، فمن الممكن إيداع المبلغ عند كاتب العدل وإرفاق إفادة بسعر الصرف الرسمي بتاريخ الدفع لحفظ الحقوق، أو تقديم شكوى عند النيابة العامة أو حماية المستهلك (مع أن مواد هذا القانون لا تذكر السكن كسلعة، بينما باقي السياسات المتعلقة بالسكن والعقارات تتعامل مع السكن من منطلق التسليع!).
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.