شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
في انتظار

في انتظار "كلمة السيِّد"... أو عودة السحر إلى العالم

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة نحن والتاريخ

الجمعة 10 نوفمبر 202302:19 م

أحرز خطيب "حزب الله"- لبنان، وأمينه العام، ومعه جهازه الإعلامي والشبكي، نصراً تاريخياً على مسرح الدعاية والترويج والتسويق، وفي ميدانها. فمنذ غداة السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، يوم "حماس" "المجيد" والمزدوج في الغلاف، إلى الثالث من الشهر التالي، والجاري، يوم خطبة حسن نصر الله، علَّق الجهاز، وملهمه، انتباه الناس، في لبنان و"ما وراء لبنان" على قول سائق سيارة عمومية بيروتية صادفته في تنقلي، على حركات الخطيب وسكناته، وعلى جهره وصمته، في ضوء الحوادث الجسيمة التي تعصف بالإقليم ومعظم نواحيه وساحاته.

وابتداء الأمر كان صمتاً أو غياباً وإمساكاً، على شاكلة الهدوء الذي خيّم على الحدود اللبنانية الجنوبية، وبدا أن التحكيم النفطي، بوساطة أمريكية، مهره بتوقيعه الاقتصادي المرموق والموثوق، قبل نحو السّنة. فخطيب "الحزب"، على قولٍ لبناني مختصر ومفيد، لم يعوِّد جمهوراً عريضاً من المريدين والأنصار و"الأحباء" والمهتمين المتابعين، على الاحتجاب، هو المتخفّي اضطراراً، ظهوراً وإقامة وسكناً، والطاغي الحضور على الشاشات، والأشرطة المسجّلة والمدوّنات. فلا تسنح سانحة عامة أو "خاصة" (دروس مدرّسي الرياضيات الشباب للصبايا، شيوع الخلوي، زواج القاصرات...)، إلا وانبرى الخطيب للإدلاء بدلوه ورأيه فيها.

وسرعان ما أدرك الجمهور قبل ظهر اليوم السابع من الشهر العاشر أن مغزى (غزوة) "حماس"، أو غارتها، حادثة لها ما بعدها. وفي اليوم التالي، اندلعت اشتباكات في مواقع من الجنوب والشمال المتقابلين، رددت أصداء شعار سياسي وعسكري، إيراني وعربي مشرقي، رُفع غداة "سيف الأقصى"، ودعا إلى "وحدة الساحات" الفلسطينية (غزة والضفة والقدس) والمشرقية (جنوب لبنان، وجنوب سوريا، وشرق الأردن، من غير سيناء مصر) في إطار "محور المقاومة" وتحت عباءته.

ومضى نحو أسبوع على الحرب المستعرة والمزلزلة جنوب فلسطين الغربي، والقوية النّسب بسياسات المنظمة الخمينية اللبنانية، والرجل عَلَم عليها، من غير خطبة وجيزة أو رسالة من "سماحة السيد". ولما كان تأويل مثل هذه الغيبات المتقطعة والقليلة، في ظروف مضطربة اضطراباً "عادياً"، يذهب عادة إلى التكهّنات المرضيّة والغمز من ارتداد الحجر الاضطراري على صحة الرجل، أو الخوف عليه من "غوائل الزمن"، قطع الجهاز دابر التأويل، ودعا الأنصار والجمهور إلى التأمُّل في عمق الإجراء الذي أجراه الخطيب حين اختار الخلود إلى الصمت.

الصمت والصورة

فكُتبت مقالات في صحيفة الإعلام المكتوب حملت الصمت على خديعة من خدائع الحرب الشرعية. فأن تتستر على نواياك وخططك بينما العدو، ومعه العالم، يتساءل ماذا عساك تبيِّتُ وتعدّ- وطوعُ يديك، أو يدي من بايعته على السرّاء والضرّاء وعلى السمع والطاعة، البت في توسيع الجبهات ومدّها إلى حرب إقليمية، وربما عالمية (إذا استرسل أولي الأمر مع بعض رؤاهم)- هذا التستّر، وفي هذه الحال، يبعث على الدوار. واقتطف التلفزيون الخاص، المنار، منتخبات من خطب الرجل تقول في (فلسفة) الصمت والغموض وتعيد.

مساواة فعل الكلام والموقف بالفعل المادي، العسكري والقاتل في هذا المعرض، فضيلة يتمتع بها كلام "السيد" ومن في طبقته. فلا يُسأل عمّا نجم عن الارتباك في غزة وفي أهلها، وفي "الشريط" الذي يشهد تراشقاً لا يخلو من خسائر

وتحف هذا الصمت أو الغموض وقائع قريبة، مصوّرة، تُري "سماحة الأمين العام" في "بونكره" (حرزه الحريز والأمين) وهو يتداول الرأي والفعل مع زياد نخالة، أمين عام حركة الجهاد الإسلامي بفلسطين، وصلاح العاروري، نائب إسماعيل هنيّة، أمين عام "حماس"، ومنسّق العلاقات بين حركته وبين الحزب الخميني والسلطة السورية. ولا يشك الناظر في أن الصورة الثلاثية جزئية. وينبغي أن يشارك الثلاثة المرئيين ثلاثة غير مرئيين، هم عبدالملك الحوثي، والكعبي العراقي، وقاآني الإيراني، أو من ينوب منابهم.

وانقضى نحو الأسبوع، أو أقل، على التخريج أو التأويل هذا. وربما بدا التعليل مجرداً بعض الشيء، مقارنة بحوادث غزة وترويعها، وبمجيء "كبار" العالم وروحاتهم، و"تشبير" أساطيلهم وأسرابهم. والتعليلُ مجردٌ قياساً على اشتباكات الجنوب وقيود "قواعدها"، وقياساً على هجرة عشرات الآلاف (نحو الثلاثين ألفاً) من الأهالي، ونزوحهم شمالاً، وبلوغ بعضهم بلا جبيل، وبلاد البترون، إلى تخوم عكار، وعلى غلق المدارس وحال الطوارئ.

فلجأ الجهاز إلى صور يومية، منزلية وحسية، يُرى الخطيب فيها صامتاً، ومن خلف، يمر أمام ملصق بعض أنصاره الذين قضوا. أو يُرى جالساً، والقلم في يده، يخط به كلمات على ورقة. وتتحاشى الصور تناول قامته كلها، والحال التي صارت عليها غداة سبعة عشر عاماً على الاحتجاب، وواحد وثلاثين عاماً على الأمانة العامة المتجددة. فالهوى يجزئ، على قول مارسيل بروست (1871- 1922). وفي الأثناء، تناوب على الكلام في الحرب، أو "الحربين"، "نواب" الأمين العام و "سفراؤه" ودعاته، على ما كان يقال في الأعوان. وقالوا إنهم، أي حزبهم، باشروا الحرب وهم في القلب منها، وإن الوضع مشرّع على كل الاحتمالات، والحرب أمريكية في الجوهر وإسرائيلية في المظهر، ونصر "محور المقاومة" فيها لا شك فيه، ولا مناص من انفجارها الإقليمي إذا لم ترتدع إسرائيل وترضخ إلى وقف إطلاق نار يُثبت انتصار "حماس"، إلخ.

وهذا قاله الأعوان، وكله صدى لما لم يسكت حسين أمير عبد اللهيان، في جولاته، عن ترديده والتخويف منه. ولكنه لم يشف غليل الأنصار والأحباء. فما يقوله صاحبهم وحده هو قول صدق وحق لا شك فيه. وتوحيد الولاء يحفر هوّة لا قاع لها بين مرتبة الأول وبين المراتب التالية. فالثاني، صاحب المرتبة التالية، أو "النائب"، نائب الأمين العام والأول، ليس ثانياً، وليس نائباً، وليس مساعداً أو معاوناً إلا على سبيل العدد والشكل. أما في ميزان الدور فهو في "المرتبة التسعين"، على قول سياسي لبناني بارز وراحل في أحد نواب الرئيس السوري السابق حافظ الأسد.

"أشياء" الولاية

وكانت الصُّور المتفرّقة التي بثتها الشاشات، ونقلتها بعض الصحف، تشبه "أشياء" القداسة أو "ذخائرها"، وترشح بها، ويتقرّب بها المؤمنون من سر الوليّ الذي لا يدرك، وكنايته عن كناية، شأن العرش في مقالات بعض الصوفيين. وفي ختام هذا المقام، أو هذا الموقف، كتب صاحب السماحة رسالة خطها بيده، أو بأصابعه التي خصتها العدسة من قبل بتركيزها أو "زومها" على قول تقني غربي نبّه الرئيس السوري بشار الأسد إليه غداة اغتيال رفيق الحريري (2/2005)، وحذّر من تكبيرِهِ الصغيرَ والضئيل.

وفي الرسالة إلى إعلاميي جهاز حزبه، والمخبرين عن حوادث الجبهة وأعمالها الحربية اليومية، وكان بلغ عدد الذين "ارتقوا" في الأثناء نحو الثلاثين من الفتيان العشرينيين، أن "المجاهدين" هؤلاء "قُتلوا" (على ما جاء في آل عمران، 169، وفي البقرة، 154) "على طريق القدس". وفي مخطوطة الرسالة توصية واضحة بضرورة التعيين. وأرفقت المنار التنبيه، في فقراتها المتوسّطة، بشواهد مصوّرة من أقوال الرجل يعرب فيها عن يقينه بالصلاة في المسجد الأقصى.

الملاحظة أن "كلمة السيد" لم تخرج عن الرسم الإيراني، وعن محاولته إنقاذ "حماس" من طريق كبح "حزب الله"، والحرب الإقليمية تالياً، لقاء الهدنة في غزة، وتقييد الهجوم الإسرائيلي "اللا إنساني" (غوتيريش، أمين عام الأمم المتحدة) عليها

وفي ثنايا الإشارات والتنبيهات هذه، وربما التلويحات (على قول السُّهرورِدي 1154- 1191)، وقد بلغ الشوق إلى سماع الكلام من النبع أَوْجَه، أذيع الخبر اليقين عن أن "السيد" مُكلِّم "الناس" (مَلأَ القبيلة) يوم الجمعة، في الثالث من تشرين الثاني/ نوفمبر، عشية انقضاء أربعة أسابيع تامة على بدء "طوفان الأقصى" الحمساوية يوم السبت في 7 تشرين الأول.

وبعد السؤال القلق عن السبب في الصمت، ثم عن السبب في التواري أو الغياب، ثم عن دلالة الحرب المقيّدة بـ "قواعد اشتباك" مبهمة، وعن مآلها وموقع اللبنانيين الجنوبيين، في الوطن (الجنوب) وفي المهجر (ضواحي بيروت) واللبنانيين عموماً في دولة ووطنٍ ملبننين، منها عمّ السؤال عما الخطيب قائلة بعد ظهر الجمعة الآتية والقريبة في الساعة الثالثة بعد الظهر. وترجح التخمين بين ترجيحين: "إعلان الحرب" العامة على إسرائيل، أو الاقتصار على ما هو حاصل وتسويغه ومديحه.

وأطلق إعلان موعد الخطبة سباقاً بين الأنصار والأحباء على إعداد الصالة أو القاعة، العامة والمشتركة، التي تليق بالخطيب والخطبة وسماعها. فالأنصار والأحباء، أي الأهل، لم يتصوروا أو يخالوا جواز سماع الخطبة، ورؤيا الخطيب وكأنه بينهم ويكلمهم من "فوقه" ومن بينهم معاً، فُرادى أو واحداً واحداً أمام جهاز تلفزيونه، وفي حجرة معيشته. فهو ما هو، خطيباً أو إماماً أو ولياً أو قطباً أو شيخاً (على معنى الرئاسة) أو قائداً، على معنى صدارة القوم وجميعه، أو مجموعه.

وهو يكلمهم ويخطبهم على هذا المعنى، وهذه الصفة. وهم يستمعون إليه، ويطيعونه، على المعنى والصفة هذين. فتسابقوا في بعض بلدات الجنوب، وفي بعض أحياء ضواحي ("الضاحية"، في هذا المعرض والظرف) بيروت على إيجار الصالات الكبيرة التي يحتفل فيها، عادة، بالأعراس والمآتم، على "الربط" على الطاولات في المقاهي التي اعتادت نصب شاشات عريضة في مباريات كرة القدم الكبيرة ومواسمها. وبعض من سئلوا عن رأيهم في الإعداد للمشهد، وقالوا إنهم طبعاً من الحضور ولا يُعقل أن يفوّتوا الفرصة والمناسبة، أعلنوا موافقتهم سلفاً على ما سيسمعونه. فتتصل "حداثة" التلفزيون ومشاهده ومسارحه، وتشبيهه الحضور المشبع، بالشعائر الكبرى وإحيائها (على قولهم في "مشاعر الحج" و"المشاهد"). ويُدمج مجتمع الفرجة، ونجومه ودعاياته ومسلسلاته وتصنيمه، في مجتمع "سياسي" يلتئم لسماع الحكم، ولا يشارك في المداولة إلا بهتافه وانفعاله.

فكأن "مادة" الناس- وهم الرعية في المصطلح السياسي التقليدي، والأهل والناس والإخوة من غير المواطنين، وهم "الشعب" في مصطلح حديث، و "المجتمع" و "المواطنون (الإخوة)"- حلت في خطيب الجماعة، وصاحب الحل والعقد، أو قرار الحرب والسلم، في أمورهم العامة، حيث العام هو أخص الخاص و "الخاص" هو البيولوجي. فيستحوذ صاحب الحل والعقد، وهو "الدولة" ومرادفاتها المقدّسة والشعائرية والسحرية، على الموارد والرغبات والأهواء والأفكار والأواصر، ويجمعها في نفسه (وهو "كلمة"، على قول إنجيلي يوناني) على صورة أسطورة بدايات ونهايات تسعى. فتقول الماضي والحاضر والمستقبل، وتفك لغز الحوادث والناس. وتفعل هذا من فوقٍ خفي وعظيم، ولكنه فوقٌ أقرب إلى النفوس من حبل الوريد. فيتكلم "صاحب الدولة"، إذا تكلم، وهو كلمة على قولٍ إنجيلي يوناني- وفي لبنان نقول "دولة الرئيس"- ويصمت إذا صمت، على ما صنع صاحبنا قبل خطبته، ويتعرف الجمهور، أو الجماعة، نفسه أو طويته وأفكاره وعواطفه، في الاثنين، الكلام والصمت، وفي معانيهما المفترضة، الباطن منها والظاهر.

القول والفعل

وغداة الخطبة العتيدة، وعلى جاري العادة، استقبل إعلام "الحزب" أصداءها المترددة في نفوس "الأحباء"، الموظفين في الجهاز الحزبي. وعلى رغم موقع هؤلاء، وصدور كلامهم عن هذا الموقع، لا شك في أن لغتهم، الخاصة والمشتركة، ذات دلالة. فقال تلفزيون المنار مساء اليوم التالي، السبت، معقِّباً على الوضوح- الغموض، وعلى الترجّح بين الاشتباكات اليومية المقيدة وبين الحرب العامة والهجوم بالصواريخ الدقيقة على المرافق المدنية والعسكرية في الجليل كله، "إنها الخيارات المفتوحة التي أطبقت على الصهاينة، فزادت قياداتهم إرباكاً ومستوطنيهم ضياعاً، وباتوا عالقين بين فكي (الوضوح والغموض) للأمين العام... إنه ذكاء الخبير المحترف".

فيحمل التعليق الحزبي مقالة الأمين العام على فعل مباشر. ولكنه فعل نفسي يبعث على الإرباك والضياع. وارتباك العدو جراء سياسة "أنا" أو "نحن" (أو قوله) من المواقف التي ينتشى بها التعقيب الحزبي أو الصديق. فهو، على وجه المقارنة الضدّية، قرينة قوية على نعمة التماسك التي يتمتع بها "أنا"، وعلى هدايته. ومساواة فعل الكلام والموقف بالفعل المادي، العسكري والقاتل في هذا المعرض، فضيلة يتمتع بها كلام "السيد" ومن في طبقته. فلا يُسأل عمّا نجم عن الارتباك في غزة وفي أهلها، وفي "الشريط" الذي يشهد تراشقاً لا يخلو من خسائر.

وبعض من علّقوا أو عقّبوا مدوا التأثير النفسي، وألحقوا به تأثيراً خبرياً، إذا جازت العبارة. فكتب أحدهم (الأخبار البيروتية، 4/10/2023، ص13) أن قادة الأجهزة الأمنية الإسرائيلية حثوا المعلّقين على الخطاب على "التخفيف من آثاره (الخطاب)، وخاصة أن الخطاب تضمّن مواقف ومعلومات متعدّدة، إضافة إلى توصيف لحالة نتنياهو وغالانت وهاليفي الذين كانوا نياماً وفي حالة سكر حين حصول عملية (طوفان الأقصى)" (كُتب المقال مساء يوم الخطبة، وطُبع في العشية، وبلغت الكاتب في الأثناء أخبار أوامر الأجهزة).

ولا يقتصر فعل الكلام على الأنفس وخباياها. فيكتب "إعلامي" آخر، بعد يومين من الأول (الأخبار، 6/11، ص17): "فَعَلَ كلام السيد نصر الله فعله، ولا سيما فيما يتعلق بإعداد العدة لمواجهة حاملات الطائرات إذا اقتضى الأمر، إذ أفْرَغ الموقفُ الجازم كلَّ التهديدات الغربية من أي مضمون". فنظير القول الملهم، تسبح حاملات الطائرات في شللها وخزيها. وترتد حسيرة وكليلة. وهذا قبل أي اختبار ظاهر في وسع الشكّاك أو المتحفظ الذي يطلب دليلاً أو قرينة، الاستدلال به على شكّه أو تحفّظه.

وبعد دبَّه الارتباك والحيرة في العدو، وحمله على التوسُّل بالتضليل والكذب إلى التستُّر على سكر قادته، و"إفراغ" آلة حربه وآلة حرب حلفائه "النمور من ورق" (ماوتسي تونس في السلاح الذرّي الأميركي قبل صناعة الصين قنبلتها الذرّية) من فعلها، أنجز كلام "السيد" معجزة أخرى (الأخبار، 6/11، ص4) تفوق سابقاتها: "أتاهم كما اعتاد أن يفعل وأكثر. أتاهم من حيث لم ولن يتحسبوا يوماً. فكان لخطابه أثر العبور (عبور الجيش المصري قناة السويس في 6 أوكتوبر 1973، على الأرجح) ذاته وفعله، ذاك الذي زرع الرعب وبثّ الهلع وأقلق الراحات وهزّ (الثوابت) وأطاح بـ (اليقينات)، واستدعى تعزيز الأساطيل واستقدام البوارج ونشر الجنود واستنفار القواعد".

فالخطبة وحدها- "الكلمة" أو "كن" القرآنية، حين تصدر عمّن يسميه أنصاره "نصرُ الله" وليس "نصرَ الله" متصلة على ما تُلفظ في لغة اللبنانيين- تكافئ على نحو خفي وسحري صنيع مئات الآلاف من الناس الذين أعدوا عملاً عسكرياً وإدارياً كبيراً، طوال أعوام مديدة، وشاركهم فيه ملايين تعهدوه ورعوه

فالخطبة وحدها- "الكلمة" أو "كن" القرآنية، حين تصدر عمّن يسميه أنصاره "نصرُ الله" وليس "نصرَ الله" متصلة على ما تُلفظ في لغة اللبنانيين- تكافئ على نحو خفي وسحري صنيع مئات الآلاف من الناس الذين أعدوا عملاً عسكرياً وإدارياً كبيراً، طوال أعوام مديدة، وشاركهم فيه ملايين تعهدوه ورعوه. ويحاذي التعظيم، على هذا المقدار، الغلوّ. ويعرّفه أبو الحسن الأشعري (874- 936) بإقامة الوسيط، داعية كان أو والياً أو عاملاً، محل من أرسله، أو ولاّه، أو ندبه إلى تمثيله والدعوة له. ويكاد "التألّه" أن يكون، في أحاديث الشيعة الإماميين، صفة ملازمة لكبار علمائهم. ومثله "التقديس": المقدَّس عبد الحسين شرف الدين، مثلاً.

والملاحظة أن "كلمة السيد" لم تخرج عن الرسم الإيراني، وعن محاولته إنقاذ "حماس" من طريق كبح "حزب الله"، والحرب الإقليمية تالياً، لقاء الهدنة في غزة، وتقييد الهجوم الإسرائيلي "اللا إنساني" (غوتيريش، أمين عام الأمم المتحدة) عليها- هذه الملاحظة لا أثر لها في حماسة الأنصار والأحباء واعتقادهم أن صاحب الإمرة، فصاحبهم، الوسيط، هو المرابط أو الرابض على الحدود مع العدو. وهو القائد الميداني، والخطيب، والمعلِّق على الحوادث، ومسمّي المقاتلين واحداً واحداً. وبعضهم وقف إلى جنبه حين "أخذ" لهما المصوّر صورة فوتوغرافية، إلخ.

فصنيع الرجل في جماعته وحزبه، ورهطه المحارب، هو توحيدها، ودمج أجزائها وأفرادها، وعرضها على أعينهم جسماً كاملاً وبديعاً، وجداراً مرصوصاً، على ما جاء في الحديث، وإرادة خارقة. وتتولى الخطبة الظرفية والمتصلة العرض المشهدي هذا. لذا، حرص الأنصار والأحبار، وربما المستعلمون القلقون والفضوليون، على شهود الخطبة أو الكلمة، والاستماع إليها مع أمثالهم وفي جمع، بأم العين وأم السمع. فهم، على هذا، "الأئمة" وهم "الوارثون"، على ما وعدوا. أو هم شهود (صناعة) التاريخ، في لغة محدثة، ويرونه من شرفتهم- أو مقعدهم البلاستيك في النادي الحسيني، أو صالة الأعراس أو وقوفاً في ساحة الملعب الرياضي-، وراء منصة صواريخ يحملونها أمانيهم.

وحين ينكر لبنانيون آخرون، أو "فريق" من اللبنانيين، على الرجل إغفاله دور المجلس النيابي في قرار السلم والحرب، وسكوته عن الأزمات السياسية والاجتماعية التي تصدع الدولة والمجتمع والنفوس، وتحرره من موجبات السيادة التي تقصر الأعمال الحربية على المواطنين والدولة- يصدر إنكارهم، في آذان الأنصار، عن عالم باهت ورمادي، ويتوهّم القوة على تبديد السحر النوراني الذي يسبح فيه شهود الرؤيا ولأْلائِها المتجدد في كل خطبة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel

ماضينا كما يُقدَّم لنا ليس أحداثاً وَقَعَت في زمنٍ انقضى، بل هو مجموعة عناصر تجمّعت من أزمنة فائتة ولا تزال حيّةًً وتتحكم بحاضرنا وتعيقنا أحياناً عن التطلّع إلى مستقبل مختلف. نسعى باستمرار، كأكبر مؤسسة إعلامية مستقلة في المنطقة، إلى كسر حلقة هيمنة الأسلاف وتقديم تاريخنا وتراثنا بعين لا تخاف من نقد ما اختُلِق من روايات و"وقائع". لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا مسيرتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. ساعدونا. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard