ظلت أسماء عبد الناصر قلقة تنتظر ما يطمئنها من صديقتها مي جمال، الباحثة النسوية المصرية المستقرة في قطاع غزة رفقة زوجها، هدأت قليلاً عندما تلقت رسالة من مي في 26 أكتوبر/ تشرين الثاني المنقضي تطمئنها: "لسه عايشين ياسمسم… لسه عايشين".
كانت هذه آخر رسالة من مي قبل أن توالي قوات جيش الاحتلال الإسرائيلي قطع الاتصالات بصفة يومية عن قطاع غزة المحاصر فيما تواصل مجازرها في أنحاء القطاع، وخاصة في الشمال حيث تبقى مي مع زوجها وأسرته.
لم تعرف أسماء عن صديقتها أية معلومات جديدة حتى قرأت خبر مقتلها خلال إحدى الغارات الإسرائيلية في 3 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري. أما العائلة فعلمت بالخبر في اليوم التالي من خلال رسالة تعزية أرسلتها خالة زوج مي، تنبئهم بنبأ "استشهادها".
صداقة مي وأسماء، تعود إلى سنوات مضت، عندما التقتا في أحد المشروعات البحثية لمركز "تدوين" للدراسات الجندرية في القاهرة.
تتصفح أسماء صفحة مي على موقع فيسبوك، وتتذكر صديقتها اللطيفة الهادئة التي كانت تصطحبها في المترو أثناء عودتهما من التدريب، لتكمل مي طريقها إلى مدينتها طنطا، وترسل لأسماء التقارير والأبحاث النسوية التي تعمل عليها لتشاركها الرأي.
لم تصدق أسماء عندما عرفت خبر مقتل صديقتها مي في غزة، بسبب قصف إسرائيلي، هاتفت إحدى صديقات مي المقربات، لتؤكد لها الخبر. أسماء تقول أن أكثر ما ألمها أن مي لم تكن مع الحرب، لم تكن ترد الموت
رأتها أسماء للمرة الأخيرة يوم زفافها، وبعدها تفرقتا فسافرت أسماء لتكمل دراستها في الخارج، وسافرت مي لغزة مع زوجها الفلسطيني لتعيش في حي الشيخ رضوان وتقضي حياتها بين مصر وغزة.
تقول لنا اسماء أنهما كانتا تتواصلان إلكترونياً، تحكي لها مي عن بيتها المطل على نيل طنطا، وعن أبحاثها عن النساء التي عكفت على جمعها وتدوينها في فترة انتشار فيروس كورونا المستجد، وفي "شهر العسل" وحتى أثناء زيارتها لغزة.
اضطرب التواصل بينهما مع بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، مع تكرار قطع الاتصالات في القطاع في موازاة التصعيد الإسرائيلي، فكان الاتصال بينهما ينقطع أياماً قبل أن تتلقى اسماء رسالة تطمئنها ان صديقتها لا تزال على قيد الحياة؛ وإن لم تكن في خير حال. آخر ما قالته مي أنها لن تخلي البيت هي وأهل زوجها، لكبر سنهم، حيث تجبرهم إسرائيل على التهجير من الشمال للجنوب. لم تصدق أسماء عندما عرفت خبر مقتل مي في غزة، في قصف إسرائيلي، هاتفت إحدى صديقات مي المقربات، لتؤكد لها الخبر. أسماء تقول أن أكثر ما ألمها أن مي لم تكن مع الحرب، لم تكن ترد الموت.
موت مصرية في غزة
مي جمال مصطفى ابنة مدينة طنطا، تخرجت في كلية الحقوق، وقبل مقتلها في اعتداءات الجيش الإسرائيلي المتواصلة منذ 8 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي في قطاع غزة، أدارت وحدة الدعم والمناصرة وأسست مرصد جرائم العنف ضد النساء والفتيات في مؤسسة إدراك، المهتمة بقضايا العنف ضد النساء. ذهبت إلى غزة مع زوجها الفلسطيني في زيارة إلى أهله، لكن إسرائيل وأدت أحلامها و مشروعها البحثي في 3 نوفمبر/ تشرين في حي الشيخ رضوان بغزة.
في أغسطس/ آب من العام الماضي، كتبت مي على صفحتها في فيسبوك: "غزة لا يوجد بها ملاجئ، لا يوجد إلا أنت والموت والحقيقة التي لا يقولها أحد؛ أنك لا يمكنك قتال عدو أنت لا تراه بينما هو يراك. غزة تُقصف ولا تقاتل، بهذه البساطة لا أحد يريد هنا الحرب. حققت إسرائيل ما تريد منذ زمن، الكل يريد تركها وعدم النظر مرة أخرى للخلف لا يمكنك الاستمرار في هذه المعركة، لا أحد سيأتي لنجدتك، بهذه البساطة".
حتى الآن لم تبلغ السلطات المصرية عائلة مي بمقتلها، لكن هذا التأخير من السلطات المصرية فيما يتعلق بموت مي - وحياتها كذلك- ليس الأول، فكغيرها من مئات المصريين العالقين في القطاع، أرسلت مي وأسرتها عديد من الاستغاثات إلى السلطات المصرية تناشدهم إجلائها إلى وطنها
مي لم تكن تريد الحرب، في الحقيقة لا أحد يريد الحرب، مي أيضاً لم ترد الموت، كانت تريد استكمال مشاريعها البحثية عن العنف ضد النساء.
تقول شقيقتها إيناس لرصيف22: "كنا منتظرينها الشهر الجاي. لكن إرادة ربنا فوق كل شيء". تحكي إيناس عن مي البشوشة الممتلئة بالطاقة الإيجابية والتي يحبها الجميع، صاحبة القضية التي لا تقبل بالهزيمة، تقول إنها كانت شبه مستقرة بغزة مع زوجها، وتعود إلى مصر في الإجازات. "أحبت مي غزة جداً وتعلقت بعادات أهلها وطعامهم، كان موعد إجازتها القادمة في ديسمبر" بحسب شقيقتها/ انتقلت مي مع بداية العدوان من بيت زوجها في تل الهوى، إلى منزل عائلته في الشيخ رضوان ظناً انها ستكون بمأمن عن القصف لانخفاض مبانيها؛ لكن لم يعد هناك مكان آمن في غزة خلال هذا العدوان على الرغم من الدعاية الإعلامية الإسرائيلية حول "الجنوب الآمن".
حتى الآن لم تبلغ السلطات المصرية عائلة مي بمقتلها، علمت الأسرة بسبب رسالة خالة الزوج. لكن هذا التأخير من السلطات المصرية فيما يتعلق بموت مي - وحياتها كذلك- ليس الأول، فكغيرها من مئات المصريين العالقين في القطاع والراغبين في مغادرته إلى مصر عبر معبر رفح، أرسلت مي وأسرتها عديد من الاستغاثات إلى السلطات المصرية تناشدهم إجلائها إلى وطنها. وعلى الرغم من بدء خروج الأجانب من القطاع في الأول من نوفمبر الجاري، لم تسمح السلطات المصرية لمواطنيها بالخروج، في وقت تواصل القصف ليرتفع عدد الضحايا المصريين ومن بينهم مي، بعد يومين فقط من التوصل إلى اتفاق على إجلاء الأجانب عبر المعبر، لكن قائمة "الأجانب"، لم تشمل المصريين العالقين.
ليست مي المصرية الوحيدة التي قتلها القصف الإسرائيلي الأخير على غزة، الأختان حياة وهويدا إبراهيم الدسوقي قُتلتا أيضاً في قصف إسرائيلي على منطقة خان يونس جنوب القطاع. كما لم تعلن السلطات المصرية حتى اللحظة عن أية إجراءات فيما يتصل بدعم المصريين العالقين في الحرب التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي على سكان ومواطني القطاع
تحكي إيناس - شقيقة مي- لرصيف22 وقائع ما جرى يوم الثالث من نوفمبر/ تشرين الثاني: "كانوا قاعدين عادي وصاروخ نزل على البيت وتوفوا في الحال"، خرجت هي وزوجها وعمته وثلاث بنات من تحت الأنقاض، بلا جروح، وتظن الأخت أن شقيقتها ماتت بلا ألم، وتم دفنهم، وتعرضت بقية العائلة لإصابات وجروح، وانتقل من بقي من أفرادها إلى مكان آخر بعد أن تهدم البيت ولم يتبق منه إلا أطلال.
تقول إيناس أن مي كانت تمتلك أحلاماً كثيرة، وكانت تحب الحياة، كانت تنوي الاستقرار في مصر مع زوجها في بيتهما المطل على النيل.
محاولات نجاة لم تلق استجابة
حاولت مي في بداية العدوان الاتصال بالسفارة المصرية في رام الله عدة مرات، لتبلغهم رغبتها العودة إلى مصر، لكن السفارة لم توافق ولم تأذن لها بالعودة، وأخبرتها بأنه لا يوجد تعليمات، قبل أن تفقد الاتصال بهم تماماً.
وكانت وزارة الهجرة المصرية قد نشرت بعد أيام قليلة من بدء العدوان أن السفيرة سها جندي وزيرة الدولة للهجرة وشؤون المصريين في الخارج، قد اطمأنت على أحوال المصريين الموجودين في قطاع غزة بعد التواصل مع السفير إيهاب سليمان السفير المصري في فلسطين، مؤكدة على أن المصريين بالقطاع جميعهم بخير. لكن بالتأكيد لا يوجد أحد في غزة الآن بخير.
بحسب إحصاء نشر في العام 2015، يعيش في قطاع غزة ما يزيد على 40 ألف من حاملي الجنسية المصرية، معظمهم من النساء والأطفال، تربطهم بأهل غزة صلات نسب وقرابة، وعلاقات تاريخية
ليست مي المصرية الوحيدة التي قتلها القصف الإسرائيلي الأخير على غزة، الأختان حياة وهويدا إبراهيم الدسوقي قُتلتا أيضاً في قصف إسرائيلي على منطقة خان يونس جنوب القطاع. كما لم تعلن السلطات المصرية حتى اللحظة عن أية إجراءات فيما يتصل بدعم المصريين العالقين في حرب التجويع والعطش التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي على سكان ومواطني القطاع، ودانتها كافة المنظمات الإغاثية والحقوقية الرسمية منها التابعة للأمم المتحدة، والمستقلة.
وبحسب إحصاء نشر في العام 2015، يعيش في قطاع غزة ما يزيد على 40 ألف من حاملي الجنسية المصرية، معظمهم من النساء والأطفال، تربطهم بأهل غزة صلات نسب وقرابة، وعلاقات تاريخية. وبعد قرابة الشهر من اندلاع الحرب سُمح بدخول 100 من العالقين في غزة حتى لحظة نشر هذا التقرير.
تحكي صديقتها الناشطة النسوية آية منير لرصيف22: "قبل سنة واحدة كانت تجلس بيننا" كانت تحادث زميلاتها وصديقاتها عن مشاريعها البحثية، عن الاحلام التي تختزنها والخطط التي تنتوي اتباعها.
الآن تشعر آية أن حياة صديقتها قد سُرقت، تقول آية "قتلتها إسرائيل غدراً، أحس أنني فقدت شخصاً كنت أود أن أوطد علاقتي به، أحس بغضب بالغ لأن العالم فقد شخصاً لطيفاً مثل مي".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...