انبهار المخرج الفرنسي باسكال رامبرت بقدرة أقمشة الخيامية وكراسي خشبية بسيطة في التعبير عن حالات الحزن والفرح للمصريين خلال زيارته الأولى للقاهرة، كان ملهماً لفكرة عرضه المسرحي "الصوان" الذي قُدّم على مسرح ساحة روابط بوسط القاهرة ضمن فعاليات الملتقى الدولي للفنون العربية المعاصرة في إطار برنامج "دي- كاف" في نسخته الحادية عشرة التي اختتمت فعالياتها الأحد 5 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري.
يقول رامبرت لرصيف22: "أفكر منذ فترة طويلة في تقديم عرض مسرحي مكتوب للجمهور المصري ويعبر عن خصوصيته الإنسانية والثقافية، وليس قصة مترجمة من عرض فرنسي، وعندما جاءت فرصة المشاركة في مهرجان فني مصري، فكرت في المشاهد التي بقيت في ذاكرتي منذ زيارتي الاولى للقاهرة في الثمانينيات القرن الماضي".
كيف لنفس القماش والكراسي والمكان أن تجتمع وتعبر عن النقيضين، أقصى مشاعر الحزن في العزاء وأقصى مشاعر الفرح في الأعراس، باختلاف بسيط في شكل كرسي العروسين أو كرسي قارئ القرآن؟
من تلك المشاهد التي انطبعت في ذهنه ولازمته "صوان" الأفراح والعزاء، أو ما يطلق عليه المصريون "فِراشة". وهي عبارة عن قماش الخيامية المصري الذي يسيطر عليه اللون الأزرق أو الأحمر، وينتشر في الهواء مستعيناً بأعمدة خشبية تضمن له الانتصاب، ليصنع حدوداً لمساحة تلقي التهانىء واحتفالات الأفراح، أو تلقى العزاء عند فقدان الأحبة.
هذا الشكل الذي يكاد يكون ثابتاً مع اختلافات في الإضاءة وشكل انتشار الكراسي الخشبية أو المعدنية المبطنة في الفرح والعزاء، وانتقال المشاعر بين النقيضين مع حضور مفردات تشكيل المكان نفسها، كانت تركيبة فاتنة بالنسبة للمخرج الفرنسي: "أدهشتني أقمشة الصوان، كيف لنفس القماش والكراسي والمكان أن تجتمع وتعبر عن النقيضين، أقصى مشاعر الحزن في العزاء وأقصى مشاعر الفرح في الأعراس، باختلاف بسيط في شكل كرسي العروسين أو كرسي قارئ القرآن؟".
العرض هو أول أعمال رامبرت المسرحية المكتوبة خصيصاً لمصر، ترجمة النص للمصرية الممثلة والمخرجة منحة البطراوي، ويشارك بالعرض فنانون يجسدون شخصيات بأسمائهم الأولى الحقيقية، وهم ناندا محمد، محمد حاتم، أحمد مالك، سارة عبد الرحمن، مجدي عطوان، نهى الخولي، رأفت البيومي، ليلي غنيم، مروان الجبلاوي ويحيي حسين.
يحكي العرض قصة عائلة مصرية تمر بلحظات حزن ثم بلحظات سعادة أثناء حفل زفاف، ثم تشعر بالانكسار والحزن مرة أخرى، ويستعرض النص المسرحي مراوحة الحياة بين الحالتين.
باسكال رامبرت كاتب فرنسي ومصمم حركة ومخرج له تجارب كثيرة في السينما والمسرح. ترجمت أعماله ونشرت وعرضت بأكثر من 20 لغة حول العالم، وفي عام 2012، عرضت مسرحيته العالمية الشهيرة "نهاية الحب" أكثر من 180 مرة بثلاث وعشرين لغة، وحصلت على جائزة أفضل مسرحية باللغة الفرنسية من نقابة النقاد الفرنسيين، كما حصلت مسرحية "بروفة" التي قدمها عام 2014 على الجائزة السنوية في الأدب والفلسفة من الأكاديمية الفرنسية، وقدم بالقاهرة ضمن فعاليات (دي- كاف) في 2015 عرض "تاريخ (مختصر) لاقتصاد العالم بالرقص"، وفي 2016 نال جائزة المسرح من الأكاديمية الفرنسية عن مجمل أعماله.
مونولوغ طويل
يبدأ العرض شخصية العمل الرئيسية مجدي جالسا في صوان عزاء من دون حركة، حتى مع دخول الجمهور إلى مقاعدهم إلى أن تدخل إليه زوجته نهى، تطلب منه أن يكون أهدأ، ليتساءل كيف يكون المرء هادئاً في عزاء والده المتوفى، يدخل بعدها مجدي في مونولوج طويل يتحدث فيه عن صراعه الدائم مع والده ورغبة الأب في التحكم في الابن وأن يشبهه في الوظيفة وتربية أبنائه.
مونولوج الأب ليس الأخير في العرض، حيث يسمح المخرج لكل فرد في فريق الممثلين أن يطلق فيه مشاعره في مونولوج طويل سواء في كلمات الرثاء أو الفرح في الأعراس.
لاحظ باسكال رامبرت أن المجتمع المصري لا يهتم بالتواصل الصادق في المشاعر بين الآباء والأبناء "هذا ما ظهر لي خلال المحادثات مع الممثلين، لأن الرجال لا يعبرون بوضوح عن مشاعرهم، وظهر هذا في مونولوج العروس ناندا وامتنانها لقدرة زوجها على التعبير عن مشاعره وعدم خجله منها"
يشرح رامبرت أسباب اعتماده على المونولوغ المسرحي، ويقول "أعتمد على ظهور المشاعر والكلام الذي يدور في أذهاننا ولا نقوله، سواء في الشجار مع الأب أو الصراع بين الإخوة، لذا يظهر على شكل مونولوج لأن كثيراً من المشكلات المجتمعية تظل ككلام غير منطوق، ولكي يخرج للعلن جلسنا كثيراً مع الممثلين ليتحدثوا عن مشاكلهم ومشاعرهم تجاه الآباء والحب غير المعلن، ثم منحهم الفرصة لتفريغ كل هذا على المسرح".
ويضيف "لا أعمل على إخراج حركة الممثل على المسرح ومتى وكيف ينظر إلى الجمهور، ولكن وضعه في ظروف يستطيع فيها التعبير عن نفسه على المسرح وأن يتحرك بحرية.
اختلفت نبرة المونولوغ بين الأب مجدي وصراعه مع والده وأبنائه، في عزاء والده، وبين مونولوغ الأم نهى في زفاف الابن الأكبر حاتم، يقول عنها المخرج الفرنسي: "الأم تحكي عن المشكلات بطريقتها لأنها تعرف عيوب أولادها وتحبهم، وظهور المونولوج الخاص بها بصوت محب لأنه يوضح حجم المشكلات داخل الأسرة. كثيراً ما نجد الصراع أكبر بين الأبناء والأب، لأنه عادة ما يكون بعيداً عن البيت بعكس الأم القريبة أكثر من أبنائها الذكور، وفي العرض انفصل الأب مجدي عن والده في انتقاله للعيش في مدينة أخرى، ومرة أخرى عن أولاده عندما انصرف اهتمامه للعمل، مما دفع الأبناء إلى السفر خارج مصر ليشق كل منهما طريقه".
يفسر رامبرت لرصيف22 أنه لاحظ أن المجتمع المصري لا يهتم بالتواصل الصادق في المشاعر بين الآباء والأبناء "هذا ما ظهر لي خلال المحادثات مع الممثلين، لأن الرجال لا يعبرون بوضوح عن مشاعرهم، وظهر هذا في مونولوج العروس ناندا وامتنانها لقدرة زوجها على التعبير عن مشاعره وعدم خجله منها".
ينتمي العرض إلى نهج المسرح الفقير الذي يعتمد على ديكور بسيط، ويقود العرض تكامل القوى النفسية والجسدية للممثل وغرائزه على المسرح، فلا مكبرات صوت أو مؤثرات خاصة أو موسيقى تقود المشاعر وتعبر عنها
مكان الحدث
يدور العرض داخل ديكور واحد من صوان بأقمشة الخيامية، تتبدل فيه أوضاع الكراسي الخشبية من صفوف متقابلة في العزاءات إلى صفوف متوازية في الأعراس، ويتولى الممثلون أنفسهم تبديل موقع الكراسي ونقل كرسيّ العروسين إلى مكان كرسيّ المقرئ.
ينتمي العرض إلى نهج المسرح الفقير الذي يعتمد على ديكور بسيط، ويقود العرض تكامل القوى النفسية والجسدية للممثل وغرائزه على المسرح، فلا مكبرات صوت أو مؤثرات خاصة أو موسيقى تقود المشاعر وتعبر عنها. يتحدث الممثلون بأصواتهم لتظهر انفعالاتهم وتكشف عمق المشاعر، والتدخل الخارجي بالتحكم بإضاءات المسرح بضوء أبيض باهت في العزاء، وأضواء ملونة في العرس.
تكنيك الممثل هو جوهر العرض المسرحي، كما يقول رامبرت لرصيف22: "الممثل يقدم نفسه بشكل كامل في العرض يطلق مخاوفه وأفكاره الداخلية، دون أن يكون مرغما على تمثيل شخصية لا تخصه، ففي البروفات الأولى، نتحدث في نفس الديكور حتى يكون جزء من الحالة النفسية للممثل وفي اختيار الممثلين أتحدث معهم كثيرا لنسج الحكايات وتكوين أسرة واحدة من طاقة كل ممثل وكيفية تعبيره عن نفسه ومخاوفه ومشاعره المتناقضة تجاه الأسرة والأب، لتخرج بشكل صادق".
لا أحداث بالمعنى المتعارف عليه في المسرح، الحوار فقط هو ما يحدد الأحداث ومرور السنين. داخل "الصوان" يعلن الأب وفاة والده، ويدور الحوار حول الصراع بين أبنائه، والمشكلات النفسية بين الإخوة، وينقلب المسرح بإعلان رغبة الابن الأكبر في الزواج، ثم مرض الأب المفاجئ خلال الزفاف وعزائه في نفس الديكور بعد عامين من المرض، ووسط الحزن تظهر بادرة سعادة بإعلان الابنة الصغرى حملها بالحفيد الأول للعائلة، قبل أن ينتهي العرض بقارئ يقرأ القرآن في العزاء.
العرض أشبه بمباراة تمثيلية بين الأبطال، يتحدث فيها كل منهم عن مشاعره وأفكاره الداخلية وصراعه مع الأسرة، وحتى إعلان الحب المخفي بين الابنة وصديق شقيقها، كان في مونولوغ متتال في حفل الزفاف.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...