تأتي الروائح من البلاد مفعمة بالحنين. حقيبة سفر كبيرة مليئة بالبهارات والأطعمة المختلفة، زيت الزيتون والزعتر، الحزن والألم الكبيرين اللذين لا يتسعان في حقيبة من عشرين كيلو. تُخرجُ عمتي (حماتي) الطعام من الحقيبة في الفندق الذي استأجرناه في اللحظة الأخيرة، في أحد أزقة شيشلي المرتفعة جداً، وهي تقول إن المرتفعات في هذه المدينة تحطم الرُكب، كيف نمشي يومياً كل هذه المسافات؟
المرة الأولى لعمتي خارج غزة، تأتيني مستعجلة من غرفة النوم بضحكة وعجقة كبيرة: "جبتلك ثوب من غزة"، ثم تأخذني من يدي، أنا التي أشعر بالخجل للقائي عائلة زوجي للمرة الأولى قبل زواجنا بيومين فقط. تقول بأن هديل ذهبت معها إلى السوق لتشتريا لي بعض الهدايا البسيطة للزفاف، "المصريين لا يسمحون لنا بحمل الكثير من المعبر، سامحيني". في الحقيقة لم أفكر بأنه من واجبهم إحضار أي هدايا من غزة، كنت أريد كيس الدقة من بدري وهنية، فمذاقه ما زال يلاحقني منذ تذوقته قبل أشهر في بيت أحد أصدقاء كريم (زوجي) الغزيين.
استشهدت عائلة هديل بالكامل في بداية الحرب، لم أعد أسمع ضجة كبيرة عند الاتصال بعمتي. أفتقد هذه الأصوات، هذه القدرة الكبيرة لهؤلاء الصغار على بثّ الحياة باتصال فيديو
تحملُ الحقيبة كل ما يمكن للمرء أن يتخيله عن غزة. فلفل مطحون حار، بهارات مقلوبة، كبسة، رز بخاري، بهارات دجاج مختلفة ومتنوعة، وبهارات سمك. يقول عمي بأن أي مكان في العالم لا يمكن أن ينافس سمك بحر غزّة، لكن يمكن على الأقل استخدام البهارات التي يصنعها في بيتهم بمخيم يبنا في رفح.
تقاطعه عمتي بأنها لم تنته بعد من فرز الأغراض التي أحضرتها، أخرجت بعض المال قائلةً لكريم بأنهم من هديل وباسل، وقالت إن إيلين بكت كثيراً، لقد أرادت رؤيتك أنت وميساء في زفافكما، لكنهم لم يتمكنوا من الخروج في هذا الوقت من العام وفي منتصف الفصل الدراسي.
عرفتُ إيلين مبكراً، في بداية علاقتنا. يحكي كريم عنها بينما يجلس على شرفته في الأشرفية ببيروت، يلامس وجهه هواء البحر المتوسط، ممسكاً بيده هاتفه وباليد الأخرى سيجارة. بينما أنا في الطرف الآخر، أجلس في غرفتي بيافا، أنظر إلى البحر وأسأله عن الأشياء التي تحبها ابنة أخته. يُضحكني تذكر المرة الأولى التي عرفت فيها هديل، كانت قد كَتَبَت له تعليقاً حميماً ككل الأخوات الكبار، ورحت أسأله من تكون؟ ضحك وحكى عنها كثيراً.
لم تتردد عمتي في إخراج الفساتين التي أَحضَرَتها لترتديها هي وضحى في حفل الزفاف. فستان عمتي مليء بالتطريز الفلسطيني. قالت إنه تطريزٌ يدوي، ولا يشبه تلك الأثواب التي تباع بشكلٍ سريع في الأسواق المختلفة.
أحتفظ برائحة ذلك اليوم، وبشعور الحميمية الذي ملأ جناح الفندق، بالأصوات العالية التي كانت تصدر عن العائلتين، عائلتي وعائلة كريم، بصوت عمي يشرح لنا عن ظروف الحياة في غزّة منذ سبعة عشر عاماً، وعن الانفصال الكبير الذي حصل، الذي نجحت إسرائيل في فرضه علينا.
منذ سنواتٍ ثلاث، أتحدثُ مع عمتي على الهاتف، أفتح محادثة فيديو كلما سنحت لي الفرصة، فتحدثني عن الطعام الذي أعدته، طريقة إعداد بعض الوجبات التي يحبها كريم، عن شقاوته في طفولته ومشاكلها معه على بعض الانتماءات السياسية. لم تهتم عمتي بمن يحكم البلد، جلّ ما كان يهمها أن يكون أبنائها بخير. وجدت دوماً نفسي أتحدث مع عمي أكثر، أدخل معه في نقاشات اجتماعية وسياسية، حول الأوضاع في غزة والداخل، رواتب السلطة، طريقة تعاطيها مع غزة، تصاريح العمال، حروب متوقعة، جغرافية الداخل الفلسطيني ومواضيع لم تكن تنتهي.
بعد ولادتي لغسان، صارت عمتي تتصل بشكل أكبر، تحكي لي عن طريقة العناية بالأطفال، فوائد الرضاعة الطبيعية، السرعة التي يكبر بها الأطفال ويخرجون بها من البيت، يقطع الإنترنت فجأة، فتعاود الاتصال قائلة إن الكهرباء انقطعت واشتغل الماتور، لذلك انقطع الإنترنت لبضع دقائق، ثم تشرح لي بسلاسة عن انقطاع الكهرباء المستمر، وفي حديثها تقول: "هديل عندها خلايا كهربائية بتقطعش الكهربا، ممكن نحط إحنا كمان خلايا أحسن".
تجيدُ عمتي الحديث مع الأطفال، تعرف كيف تحبهم، كيف تربتُ على أكتافهم وتربيهم وتُكبرهُم. لم تتصل بي مرّة إلا وأصوات إيلين وسيلين وناصر في الخلفية، يتشاجرون على الألعاب، يلهون مع يوسف شقيق كريم الأصغر، يرتفع صوت فخري طالباً منهم بعض الهدوء، وهديل تجلس بهدوء في غرفة المعيشة قائلة إنها تأتي لترتاح قليلًا من البنات.
كبرت عائلة هديل خلال هذه السنوات، صار لديها، إضافةً لإيلين وسيلين، محمود ومحمد، بينهما تماماً سنة وشهرين، كانت تقول دوماً إنها اكتفت الآن من الأولاد، ويكفي أن تربيهم بشكلٍ جيد.
لو انتهت الحرب الآن، فهل ستعود ضحكة عمتي السابقة وصوتها العالي والضجيج في البيت الصغير الذي يتسع لكل العائلة؟
استشهدت عائلة هديل بالكامل في بداية الحرب، لم أعد أسمع ضجة كبيرة عند الاتصال بعمتي. أفتقد هذه الأصوات، هذه القدرة الكبيرة لهؤلاء الصغار على بثّ الحياة باتصال فيديو. اختلف وجه عمتي، لم يعُد ضاحكاً مستبشراً كالسابق، تتمالك نفسها في كل مرة يتحدث معها كريم كي لا تبكي، كي لا يحزن كريم لحزنها. يضع كريم الفيديو مقابل وجه غسان، لكن يعتري الحزن وجهها. تلاعبه، تنادي عليه، لكنها ربما تتذكر، كيف كان وجه محمد بن هديل، محمد الذي ولد مع غسان، وكنا نأمل أن يكبرا سوياً.
فقدت عمتي ابنتها وزوجها، لكنها لم تفقدهما فقط، فقدت معهما نصف أحفادها، ذهبوا جميعاً إلى السماء في صاروخ واحد، قرّر فيه جندي سلاح الجو للاحتلال الإسرائيلي أن يبعدهم عنها، ويحرمها منهم.
لو انتهت الحرب الآن، فهل ستعود ضحكة عمتي السابقة وصوتها العالي والضجيج في البيت الصغير الذي يتسع لكل العائلة؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Zain Array almansor -
منذ 4 ساعاتاسطورة ابادة جيش قمبيز
مستخدم مجهول -
منذ يومربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ يومحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحبيت اللغة.