شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
عُماني أم إماراتي؟ عالم أم خائن؟... ابن ماجد المثير للجدل

عُماني أم إماراتي؟ عالم أم خائن؟... ابن ماجد المثير للجدل

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتاريخ

الأربعاء 3 يناير 202403:08 م

يُخبرنا المؤرخون أن العربَ اشتهروا ببراعتهم في ركوب البحر، فباتوا "أول من رفع شراعاً في البحار، واقتحم الأخطار، فمارسوا الملاحة، وكانوا الصلة بين الشرق والغرب"، وفقاً لما أورده الباحث فاضل محمد في كتابه "عمان في عهد الإمام أحمد بن سعيد".

لكنّ تلك البراعة ما كان لها أن تحدث لولا أن ظهر رجلٌ يُدعى ابن ماجد، المُكنّى عند المؤرخين بـ"أسد البحار"، فهو الملّاح الذي ذاع صيته في الغرب قبل الشرق، إلى درجة أن العديد من الملاحين العرب يقفون في الموانئ قبل انطلاق رحلاتهم، ويرفعون أياديهم إلى السماء، ويقرأون الفاتحة لابن ماجد.

ابن ماجد... أسد البحار

وفقاً لـهيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية العُمانية، فالملّاح الأشهر أحمد بن ماجد بن محمد السعدي شهاب الدين، مولود عام 1421م ومتوفّى عام 1500م، تلقّى تعليمه الأول على يد والده الذي كان ربّاناً بحرياً، ودرس أيضاً على عدد من الربابنة، وكان يشهد حلقاتهم ومناظراتهم على متن السفينة الراسية في الموانئ العُمانية، واعتمد على نفسه في استنباط قياسات النجوم ورصد مطالعها ومغاربها وحركاتها وأثرها في المواسم البحرية.

عُرِف ابن ماجد بأنه أشهر الملاحين في المحيط الهندي في القرن الخامس عشر، ونُسِب إليه اختراع الإبرة المغناطيسية "البوصلة" المستعملة في تحديد اتجاه الرحلات البحرية

عُرِف ابن ماجد بأنه أشهر الملاحين في المحيط الهندي في القرن الخامس عشر، ونُسِب إليه اختراع الإبرة المغناطيسية "البوصلة" المستعملة في تحديد اتجاه الرحلات البحرية.

هناك خلاف على عدد الكتب التي وضعها ابن ماجد؛ يقول رشدي صالح في مقدمة كتاب "أسد البحار"، إنه "ترك 19 مؤلفاً"، بينما تقول هيئة الوثائق: "ترك آثاراً علميةً عديدة في علوم البحار جاوزت 40 كتاباً ومنظومةً، أهمها الأرجوزة التائية والأرجوزة السُّفالية والأرجوزة المُعلّقيّة (...) وله أيضاً أرجوزة تصنيف 'قبلة الإسلام في جميع الدنيا' التي ضبط فيها جهة القبلة في جميع بقاع العالم".

عُمان أم الإمارت... إلى أيهما يُنسب ابن ماجد؟

حتى عصرنا الحديث، يحظى ابن ماجد بتقدير هائل عند الشعب العُماني، حتى أن اسمه يُذكر في القصائد والأغاني، كما ورد في أغنية سالم علي سعيد، التي يقول فيها: "لمن السفائن والعباب وراها مثل الغبار؟/ومن الرجال المبحرون بكل عزم واقتدار؟/العابرون جوانب الدنيا بأشرعة الصواري/هذا ابن ماجد والعُمانيون أسياد البحار".

لكن يبدو أن مسقط رأس ابن ماجد أمرٌ حوله جدال كبير، وليس بالسهولة التي يتعامل بها الكثيرون من المؤرخين الذين ارتكنوا مُطمئنين إلى كونه عُمانياً، إذ ظهر من يشكك في ذلك.

حقيقة الأمر أن هناك شبه إجماع على أن ابن ماجد وُلِد في جلفار، المسماة حالياً برأس الخيمة (إحدى مدن الإمارات حالياً)، وهو ما تقوله الموسوعة العمانية التي نشرتها هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية العُمانية، بل يقوله ابن ماجد نفسه في أكثر من بيت شعري له، مثل البيت الذي قال فيه: "رعى الله جلفار ومن قد نشأ بها/وأسقى ثراها واكفٌ متتابعُ/بها من أسود البحر كل مُجرّبٍ/وفارس بحر للشدائد بارعُ".

تلك الأبيات هي التي جعلت الباحث سالم حميد يستدل بها في كتابه "أحمد بن ماجد ـ ملاح من جلفار"، على نسب الملاح الشهير إلى الإمارات، فيقول: "بهذه الأبيات لابن ماجد نستطيع وبكل بساطة أن نُنهي ونختم أية جدليات أو مُبهمات بخصوص الموطن الذي ينتمي إليه ابن ماجد، فهو وعلى لسانه بنفسه وليس على لسان آخرين أشار إلى موطنه الأصلي الذي نشأ وترعرع فيه، ألا وهو جلفار، أي رأس الخيمة التابعة لدولة الإمارات حالياً".

يضيف حميد: "قد يقول قائل إنه في زمن ابن ماجد لم تكن هناك دولة اسمها الإمارات. هذا صحيح، ونقول أيضاً: في زمن ابن ماجد لم تكن السلطنة العمانية الحالية هي من كانت تحكم عُمان حينها".

عالم عظيم أم خائن لعروبته ودينه؟

طوال القرن الخامس عشر الميلادي، اعتزمت أوروبا دخول عالم الاستكشافات الجغرافية، بغية التعرف على طرق جديدة تربط الشرق بالغرب، وأول من تصدى للقيام بهذه المهمة هم البرتغاليون، وبالفعل "بدأوا بالاتجاه نحو السواحل الشمالية والشمالية الشرقية للقارة الإفريقية، فوصل هنري الملاح إلى سبتة في المغرب الأقصى عام 1415م، بينما قام بارتلميو دياز برحلته عام 1487م حول سواحل إفريقيا الغربية بهدف الوصول إلى الهند"، وفقاً لما أورده الدكتور فاضل محمد الحسيني في بحثه "الملاح العربي الخليجي أحمد بن ماجد ـ ظلمه المؤرخون وأنصفه التاريخ".

في تلك الأثناء كان البحار الأشهر أحمد بن ماجد، يجوب الدنيا ويعرفه العالم كأحد أبرع الملاحين. وفي عام 1498م وقع حدثُ تاريخي هائل، وضعه في مرمى سهام التخوين والتشكيك في دينه وعروبته.

في ذلك العام، كانت هناك حملة برتغالية نحو الهند، أبحر على رأسها قائد الأسطول البرتغالي فاسكو دي غاما "بمحاذاة السواحل الغربية للقارة الإفريقية، فوصل إلى النهاية الجنوبية للقارة، وهي منطقة رأس الزوابع التي أسماها في ما بعد رأس الرجاء الصالح، ثم استدار شمالاً نحو السواحل الشرقية فوصل إلى موزمبيق ومالندي، فشاهد البرتغاليون هناك سفناً عربيةً أدهشتهم صناعتها، فألواحها مُسمّرة بمسامير، وملاحوها يحملون معهم البوصلة البحرية والمزاول والخرائط الجغرافية"، بحسب فاضل محمد الحسيني.

حينها كانت الحملة البرتغالية تعاني من التخبط لعدم معرفة الطريق إلى الهند بشكل جيد، أو كما يقول قطب الدين النهرواني في كتابه "البرق اليماني في الفتح العثماني": "كانوا يلجون في الظلمات ويمرون بموضع قريب من جبال القمر ويصلون إلى المشرق بموضع قريب من الساحل في مضيق أحد جانبه جبل والجانب الثاني بحر الظلمات، في مكان كثير الأمواج لا تستقر سفنهم فيه وتنكسر ولا ينجو منهم أحد واستمروا على ذلك مدةً وهم يهلكون في ذلك المكان ولا يخلص من طائفتهم أحد إلى الهند، إلى أن خلص منهم مركب فما زالوا يتواصلون إلى معرفة هذا البحر إلى أن دلّهم شخص ماهر يقال له أحمد بن ماجد".

حينها رغب دي غاما في الاستفادة من مهارة ابن ماجد لتحقيق الحلم البرتغالي بالوصول إلى الهند، ودار بينهما حوار رصده الكاتب اللبناني سمير عطا الله في مقاله في "الشرق الأوسط"، وجاء فيه أن فاسكو قال لابن ماجد: "سيدي الملاّح، خلفنا رياحٌ شديدة! إلى متى تظلّ تعصف؟"، فردّ الملاح العربي: "ستستمر هذه الرياح لشهر آخر. فهي ما تسمّونه أنتم الأوروبيون 'منسون'، وهي كلمة متحدرة من كلمة 'موسم' العربية. وهذه الرياح الموسمية تعصف بانتظام باتجاه الهند لفترة ستة أشهر، كل عام. سنُبحر معها مباشرةً إلى ساحل مالابار".

واختتم عطا الله مقاله بنتيجة هذا الحوار، قائلاً: "رُفِعَت المراسي، ونُشرت الأشرعة، وانطلق الأوروبيون نحو الهند ومعهم الملاح المسلم يصرخ إليهم بالتعليمات في مقصورة القيادة".

حتى عصرنا الحديث، يحظى ابن ماجد بتقدير هائل عند الشعب العُماني، حتى أن اسمه يُذكر في القصائد والأغاني، كما ورد في أغنية سالم علي سعيد، التي يقول فيها: "لمن السفائن والعباب وراها مثل الغبار؟/ومن الرجال المبحرون بكل عزم واقتدار؟/العابرون جوانب الدنيا بأشرعة الصواري/هذا ابن ماجد والعُمانيون أسياد البحار"

ذلك المشهد لابن ماجد على متن السفينة البرتغالية المُبحرة نحو الهند لم ينسَه المؤرخون العرب والمسلمون، وعدّوه دليلَ خيانة، وجميعهم مصدرهم في ذلك ما رواه النهرواني بأن ابن ماجد "صاحَبَ كبير الفرنج وعاشره في السُّكر، فعلّمه الطريق في حال سّكره، وقال لهم: لا تقربوا الساحل في ذلك المكان وتوغلوا في البحر ثم عودوا فلا تنالكم الأمواج. فلما فعلوا ذلك صار يسلم من الكسر أغلب مراكبهم فكثروا في بحر الهند (...) ثم أخذوا (مضيق هرمز) وتقووا هناك (...) وصاروا يقطعون الطريق على المسلمين أسراً ونهباً ويأخذون من كل سفينة غصباً".

بالطبع لم ينتهِ الأمر عند تخوين ابن ماجد، فهناك من رأى بأن فعله كان مجرد استشارة علمية ليس أكثر، مثل ما ارتكن إليه فاضل محمد الحسيني في بحثه "الملاح العربي الخليجي أحمد ابن ماجد ـ ظلمه المؤرخون وأنصفه التاريخ"، حين قال: "اندفع ابن ماجد في إعطاء المعلومات بصفته عالماً مُلمّاً بعلوم البحار، التقى شخصاً مهتماً بذات العلوم ولم يتعرف على نواياه الاستعمارية العدوانية الحقيقية (...) ولم يكن في نية ابن ماجد البتة أنه قد سهّل أمراً في غاية الخطورة على التجارة والسيادة العربية الإسلامية، وإنما كان منطلقاً في ذلك بدوافع التقاليد العربية والمبادئ الإسلامية كإنسان عربي مسلم يجب عليه إرشاد التائه للطريق السليم".

هناك دحضٌ آخر لاتهام ابن ماجد بالخيانة، قدّمه الكاتب زهير الكتبي في مجلة "العربي" في مقال منشور عام 2001، قال فيه إن ابن ماجد، وقت دخول البرتغاليين الهندَ، "كان قد اعتزل العمل حتماً أو مات، إذ يبلغ عمره المقدّر في التاريخ المذكور نحواً من 87 سنةً أو أكثر بقليل (...) ولم يذكر المؤرخون الموثوقون اليمنيون الذين عاصروا وصول البرتغاليين إلى الهند هذه القصة المختلقة ومن أشهرهم عفيف الدين عبد الله الطبيب بامخرمة الشيباني الشافعي (1465م-1540م)، ووجيه الدين عبد الرحمن الشيباني المعروف بابن الديبع (تـ1537م)".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

‎من يكتب تاريخنا؟

من يسيطر على ماضيه، هو الذي يقود الحاضر ويشكّل المستقبل. لبرهةٍ زمنيّة تمتد كتثاؤبٍ طويل، لم نكن نكتب تاريخنا بأيدينا، بل تمّت كتابته على يد من تغلّب علينا. تاريخٌ مُشوّه، حيك على قياس الحكّام والسّلطة.

وهنا يأتي دور رصيف22، لعكس الضرر الجسيم الذي أُلحق بثقافاتنا وذاكرتنا الجماعية، واسترجاع حقّنا المشروع في كتابة مستقبلنا ومستقبل منطقتنا العربية جمعاء.

Website by WhiteBeard
Popup Image