المغامرة والتحدي وركوب الصعاب والإيمان بالقدرات العجيبة للفن، وتحديداً السينما، هي ما يلخص مسار المخرج السينمائي المغربي طارق الإدريسي، الذي شدّ الانتباه في الدورة 23 من المهرجان الوطني للفيلم في طنجة، المنظمة من 27 تشرين الأول/أكتوبر إلى 4 تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، بفيلمه الروائي التخييلي الطويل "إيقاعات تامزغا" (sound of berberia).
يدخل الفيلم في إطار سينما الطريق (Road movie)، حيث رحل مع المشاهدين في شمال إفريقيا عبر سفر فني بحثاً عن الإيقاع الأمازيغي الأصيل والخالص، مقدّماً متعةً سينمائيةً متكاملةً ومتناغمةً تجمع بين الصورة والحوار والتمثيل والموسيقى وتعدد اللغات واللهجات (الريفية والعربية والإسبانية والفرنسية ولهجة التماشقية التي يتحدث بها الطوارق في مالي).
سفر فني بحثاً عن الإلهام
ينقلنا فيلم "إيقاعات تامزغا" على مدى تسعين دقيقةً في رحلة فنية لـ"كينو"، الموسيقي الشاب الأمازيغي القادم من إسبانيا والشغوف بفكرة البحث عن الموسيقى الأمازيغية الأصيلة، حيث سيقوده هذا الشغف والبحث عن الإلهام إلى مسقط رأسه، الحسيمة، للقاء صديقه "فؤاد"، الذي سيهرب من مشروع الزواج المرتب له من قبل والدته لمرافقة صديقه في رحلته المليئة بالمغامرات في شمال إفريقيا انطلاقاً من المغرب، مروراً بالجزائر وتونس ومنطقة الساحل وليبيا وحتى حدود مصر.
يرحل مخرج الفيلم مع المشاهدين في شمال إفريقيا عبر سفر فني بحثاً عن الإيقاع الأمازيغي الأصيل والخالص، مقدّماً متعةً سينمائيةً متكاملةً ومتناغمةً تجمع بين الصورة والحوار والتمثيل والموسيقى وتعدد اللغات واللهجات
خلال هذا السفر الفني ستجمعهما الصدفة بالشابة "أمينة" الصحافية التي سيكون لها دور مهم في هذه الرحلة، ففيما يبحث "كينو" مع صديقه عن إلهام موسيقي لا متناهٍ يكسران به كل الحدود وينفذ إلى الأعماق، تسعى الصحافية في تكتم تام على هويتها إلى إجراء مقابلة حصرية مع أحد محاربي الطوارق.
وحينما يكتشف "كينو" وصديقه "فؤاد" حقيقة "أمينة"، بعد وقوعهم في قبضة إرهابيي القاعدة في شمال إفريقيا، يكون الوقت متأخراً، وليس أمامهما إلا إكمال الطريق معها برغم كل الصعاب، إلى أن يتم إنقاذهم من طرف رجال الطوارق الذين يعتنون بهم ويحمونهم من بطش الإرهابيين، الذين كانوا يرغبون في التنكيل بهم أو الحصول على فدية لإطلاق سراحهم.
كسر الحدود عبر الموسيقى
شكلت الموسيقى العنصر الأساسي في فيلم "إيقاعات تامزغا"، الذي أبدع فيه المخرج طارق الإدريسي وأعطى نقلةً نوعيةً للسينما المغربية، كما تولّد عن هذا الفيلم ألبوم أمازيغي فريد من نوعه وفرقة موسيقية صارت تقوم بجولات فنية في الخارج، وتقدّم عروضاً موسيقيةً وأغاني أصيلةً لها وأخرى لموسيقيين كبار أمثال تيناروين وإيدير.
و"تامزغا" المتضمَّنة في عنوان الفيلم، تعني لدى ناشطي الحركة الأمازيغية وحدةً ترابيةً تمثّل أرض الأمازيغ في شمال إفريقيا والمغرب العربي، وتمتد من واحة سيوة في مصر شرقاً حتى جزر الكناري غرباً، ومن سواحل البحر الأبيض المتوسط شمالاً حتى نهر السينغال جنوباً، وهي الرقعة الجغرافية التي تضم بشكل كامل ست دول عربية هي: المغرب وليبيا وتونس والجزائر وموريتانيا، وبشكل جزئي جزر الكناري ومصر (واحة سيوة) ومالي والنيجر.
لقد كانت الموسيقى في هذا الفيلم ذريعةً للحديث عن قضايا الهوية والحدود والانتماء، فعبر قصة موسيقيَين يبحثان عن الإيقاع الأمازيغي الخالص في شمال إفريقيا، وبين التفكير في الحدود الواقعية والمتخيلة، أماط المخرج اللثام عن الكثير من الأفكار والأوهام حول الهوية، حيث يقول في تصريح لرصيف22، بأنه "لا توجد هوية خالصة، فبرغم الأبحاث والدراسات التي يمكن إجراؤها حول هذا الموضوع، فإنه يظل سؤالاً معقّداً، وصراعاً مستمراً في داخلنا، بسبب الحدود التي نضعها والتناقضات التي نحملها".
ويضيف الإدريسي، ابن مدينة الحسيمة المعروف بعمله على الذاكرة الجماعية والتراثية للأمازيغ في شمال المغرب، أن أقوى سلاح يمكن أن نكسر به الحدود هو الفن، ولكن إلى أي حد يمكن للفن أن يكسر كل الحدود وأن يحارب التطرف والعنف؟
هذا ما يجيب عنه هذا الفيلم الذي اختار الموسيقى، اللغة العالمية، إلى جانب الصورة السينمائية لينفذ إلى أعماق الجمهور، وينقل التراث والثقافة الأمازيغية الأصيلة، ويساهم في محاربة الأيديولوجيات وكل أشكال العنف والتطرف، مثلما فعل في أفلامه الوثائقية الناجحة عن منطقة الريف في شمال المغرب التي تعرضت للقصف بالغازات السامة من طرف الإسبان للقضاء على المقاوم عبد الكريم الخطابي وأتباعه مثل فيلميه: "أرهاج" (2007)، و"الريف 58- 59" (2014)، والعودة إلى الأصول بالنسبة إلى المهاجرين في "رحلة خديجة" (2017)، قبل أن يعمل على إخراج مسلسل تلفزيوني أمازيغي يحمل عنوان "مغريضو"، عُرض قبل سنتين على القناة الأمازيغية المغربية، وحقق نسبة متابعة مهمةً بسبب جرأته في طرح القضايا الحساسة في ريف المغرب وتكسيره التابوهات، بالإضافة إلى التقنيات العالية الموظفة فيه على مستوى التصوير.
تمويل تشاركي لإنجاز الفيلم
لم يُكتب للمخرج طارق الإدريسي القيام بهذا السفر الفني برفقة قريبه على أرض الواقع بسبب الأوضاع المتأزمة التي عرفتها المنطقة آنذاك (تهديدات القاعدة في منطقة مالي والإرهاب واختطاف الرهائن والربيع العربي)، فاختار القيام به بشكل فني عن طريق السينما التي هاجر بشكل غير شرعي، وهو شاب، من أجل دراستها في إسبانيا، فاشتغل طوال ست سنوات على هذا العمل السينمائي الضخم، الذي كتب السيناريو الخاص به وأخرجه وأنتجه برفقة صديقه عبد الرحيم هربال.
ينقلنا فيلم "إيقاعات تامزغا" في رحلة فنية لـ"كينو"، الموسيقي الشاب الأمازيغي القادم من إسبانيا والشغوف بفكرة البحث عن الموسيقى الأمازيغية الأصيلة، حيث سيقوده هذا الشغف والبحث عن الإلهام إلى مسقط رأسه
وعانى من أجل أن يرى النور، لأن الدعم الذي منحه إياه المركز السينمائي المغربي والمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية لم يكن كافياً لإنجاز هذا الفيلم الضخم، كما صرّح المخرج طارق الإدريسي، وهو ما اضطره عام 2017، بعدما قدّم كل ما لديه إلى اللجوء لطلب تمويل تشاركي عبر منصة "ulule" الرقمية، فكانت الاستجابة كبيرةً لثقة الناس به وبعمله.
وهو ما شجعه على المضي قدماً لإتمام هذا العمل السينمائي، ويكون بذلك أول مخرج سينمائي مغربي يلجأ إلى هذا النوع من الدعم، حيث تُوّج بالجائزة الوطنية للثقافة الأمازيغية التي يمنحها المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، وبالجائزة الكبرى "دون كيشوت" التي تمنحها الجامعة الوطنية للأندية السينمائية في المهرجان الوطني للسينما في طنجة، فيما لم يمنحه محكّمو هذه الدورة من المهرجان في فئة الفيلم الطويل سوى تنويه خاص، برغم أصالة الموسيقى المقدمة فيه، وروعة التصوير، وتميز وتنوع كاستينغ الفيلم الذي جمع بين ممثلين مغاربة وأجانب وعرب على رأسهم الموسيقي طارق فارح، ومحمد سلطانة وعواطف الحميدي، وعز العرب الكغاط وآخرون.
ويُنتظر أن يحظى فيلم "إيقاعات تامزغا"، الذي لا يتوخى منه مخرجه ولا منتجه الربح المادي، بالاهتمام في المهرجان الدولي لسينما المؤلف في الرباط، الذي يدخل غمار المنافسة فيه، والمنظَّم بين 10 و17 تشرين الثاني/نوفمبر الجاري.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون