في العام 2010 شاهدت في مهرجان تطوان لسينما البحر المتوسط، فيلماً للمخرج حسن بنجلون بعنوان "المنسيون في التاريخ"، أذكر حتى اللحظة الخوف الذي انتابني مع نهاية الفيلم، بالرغم من أنه لم يكن فيلم رعب، بل كان على العكس من ذلك فيلماً إنسانياً عن البطالة والهجرة السريّة وتجارة الرقيق، عن الفقر والفقراء والمهمشين الذي تقتلهم الحياة وتسحقهم تحت أقدامها، وكان الفيلم من بطولة الفنانة الشابة مريم أجادو القادمة من المسرح في ثاني تجربة لها مع المخرج حسن بنجلون بعد الفيلم التلفزيوني "المطمورة"، إلى جانب النجم المغربي أمين الناجي صاحب الأداء المميز في كل أدواره.
استطاع كلّ من مريم وأمين تجسيد دوريهما بشكل لا يوصف، لدرجة صدق كلّ من حضر الفيلم معاناتهما وشعر بالموت معهما. منذ ذلك الفيلم حُفر في رأسي وحتى في قلبي اسم المخرج المغربي حسن بنجلون، وبدأت رحلة بحثي عن أفلامه.
المرة الأولى التي التقيته وجهاً لوجه كانت في مهرجان الرباط لسينما المؤلف. لا يحتاج الدخول لأعماق الرجل وقتاً طويلاً فهو واضح الخطى يمشي ملكاً، ولكنه برغم ذلك شديد التواضع، وهذا ليس غريباً على الإخوة المغاربة، فمعظم المخرجين والمخرجات الذين تعرفت عليهم كانوا على تلك الشاكلة.
أفلام حسن بنجلون
تميزت أفلام حسنبن جلون بكونها تنتمي لتيار سينما المؤلف، فهو فنان مسكون بالأفكار التي تتملكه ولا تنتهي منه الا بإخراجها للعلن. ليس هذا فحسب، بل هو أيضاً مُخرج لا تحكمه شروط الإنتاج، فغالب أفلامه لم تستند على الدعم الخارجي، الأمر الذي جعله حراً تماماً في اختيار مضمونها، سواء على الصعيد السياسي أو الاجتماعي أو الفني، ولا يثنيه عن عزمه هذا حتى ولو كان بطل أو موضوع الفيلم محلياً لا يحقق الشهرة المطلوبة للمخرج والمنتج؛ ففي فيلمه “القمر الأحمر” الذي قدّمه عام 2013، أصر على تقديم عبد السلام عامر الموسيقار المغربي الذي على الرغم من أهميته لم يكن معروفاً حتى في المغرب، بل كان منسياً ومجهولاً بسبب أفكاره اليسارية والثورية، ومع ذلك أصرّ بنجلون على تقديمه باعتباره أحد أهم الموسيقيين، بل إنه كان يريد عبر ذلك الفيلم أن يعيد له الاعتبار.
أما في فيلمه المعنون "من أجل القضية" (2019) الذي قام ببطولته الممثل الفلسطيني رمزي مقدسي، فقد اقتبس الجزء الأساسي منه عن قصة شخصية حصلت معه منذ سنوات، تحديداً في عام 1972، أثناء رحلته البرية برفقة صديقه بين حدود تشيكوسلوفاكيا والنمسا.
وتدور أحداث فيلم "من أجل القضية" حول موسيقي فلسطيني يعيش في المغرب، ويقرّر السفر بجولة برفقة صديقته الفرنسية اليهودية للمشاركة في إحياء حفلات في الجزائر، لكنه أثناء تلك الرحلة البرية يتعرض للكثير من العقبات، تحديداً عند الحدود المغربية الجزائرية، في لفتة من المخرج لتلك المفارقة التي تسمح لأهواء بعض الموظفين المناوبين على تلك الحدود بمنع دخول بعض المواطنين العرب بسهولة بينما تسمح لغيرهم وخاصة من أصحاب الجنسيات الغربية بالدخول بيسر .
تتميّز أفلام حسن بنجلون بكونها تنتمي لتيار سينما المؤلف، فهو فنان مسكون بالأفكار التي تتملكه. ليس هذا فحسب بل هو أيضاً مُخرج لا تحكمه شروط الإنتاج، فغالب أفلامه لم تستند على الدعم الخارجي، الأمر الذي جعله حراً في اختيار مضمونها
كما أن الفيلم الذي كتبه بنجلون كعادته لم يقتصر على موضوع الحدود ومعاناة الشاب الفلسطيني لتجاوزها، وهي قضية ستبدو مع نهاية الفيلم أنها مختلّقة أصلاً لأن الجزائر في حقيقة الأمر تسمح لفلسطينيي 48 بالدخول إلى أراضيها دون تأشيرة. بل إنه حاول أيضاً طرق باب فلسطين حين استثمر أحد مشاهد الفيلم (مشهد الزفاف الذي تُجمع فيه الأموال) ليمرّر مقولة "الدول العربية تستفيد وتستغل القضية الفلسطينية"، بل وأكثر من ذلك تسرق أموال شعوبها بحجة تلك القضية. وعلى الرغم من أن الفيلم لم يكن سياسياً أو حتى مناهضاً لقضية بعينها، لكن بنجلون انتظر ما يقارب ثلاث سنوات للحصول على دعم له من المركز السينمائي المغربي.
ومع بداية العام 2022، عاد للمشاركة في مهرجان تطوان لسينما البحر المتوسط من خلال فيلمه "حبيبة" الذي يلعب بطولته كل من عبد الفتاح النكادي، وفاطمة الزهراء بلدي، وجمال العباسي، وعبد الغني الصناك، وسعاد العلوي، مستثمراً هذه المرة الحجر الصحي الذي طبق بشدة في المغرب بسبب وباء كورونا، فكتب فيلمه "حبيبة" الذي تدور قصته حول الحب الذي نشأ بين أستاذ الموسيقى وطالبته التي فقدت المأوى والعمل بسبب الحجر الصحي الذي أدى الى إغلاق جميع المرافق الحيوية، وبالتالي منع التنقل بين المدن، لكن ذلك الحب على طهارته سيصطدم بالواقع. وقد شارك الفيلم لاحقاً في مهرجان الأقصر للسينما الإفريقية.
وها هو اليوم يعود بفيلمه "جلال الدين" الذي كان حاضراً في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي ضمن مسابقة آفاق السينما العربية، من بطولة ياسين أحجام، وفاطمة الناصر، وفاطمة زهراء بلادي، وأيوب اليوسفي، وتدور أحداثه بشكل مختصر حول جلال الدين اليتيم الذي تزوج بعد قصة حبّ، وهرب برفقة زوجته من تونس للمغرب، وأنجبا طفلاً، وبعد أن أصبح ثرياً وامتلك مزرعة للخيول تمرضت زوجته وأصبحت عاجزة عن إشباع رغباته، فشجعه ذلك على إيجاد المتعة مع غيرها.
قابل جلال الدين ربيعة التي تعمل في مركز للساونا والتدليك (كغطاء للعمل في الجنس) ونشأت بينهما علاقة. وحين ماتت زوجته وارتبط ابنه بمحض الصدفة بربيعة، اعتزل الحياة العامة وانضم لأحد زوايا مشايخ الصوفية (مولاي عمر) بحثاً عن اليقين والصفاء الذهني والتسامي الروحاني، تاركاً خلفه كل شيء، المنزل والمزرعة والعائلة، إلى أن قطع تلك العزلة وصولُ حفيدة.
وبرغم أن الفيلم لا يبدو من الأفلام التي تجذب جمهور السينما من الشباب أو تلفتهم على اعتباره فيلماً فلسفياً إلى حد ما، ويدخل في عالم الصوفية والتسامح، وهي مواضيع لا تلامس الواقع وبشاعته، إلا أنه كان حلماً ومادة ملحة على المخرج فأصر على كتابتها وإخراجها.
يعود حسن بنجلون اليوم بفيلمه "جلال الدين" الذي تدور أحداثه بشكل مختصر حول جلال الدين اليتيم الذي تزوج بعد قصة حبّ وهرب برفقة زوجته من تونس للمغرب
يقول حسن بنجلون لرصيف22: "كانت لدي تراكمات نشأت منذ طفولتي، حيث ترعرعت في عائلة يزورها المتصوفون باستمرار، وكنت أيضاً أرتاد الزوايا وغيرها، وأردت أن أتكلم عن ماهية السعادة والحقيقة، وما هو التسامح. وأنا شخصياً أنتمي إلى مجموعه اسمها (كامتوهوم) وهي مجموعة عالمية تضم جنسيات مختلفة وديانات، وتجتمع في إطار الطقوس الصوفية لتبحث عن الحقيقة والحب، وتتساءل حول ماهية السعادة وغيرها من الأسئلة. وكنت قد اطلعت على العديد من الكتب حول الصوفية، مما يعني أن التراكمات بدأت منذ الطفولة في المنزل واستمرت بعدها، وهذا هو السبب في اهتمامي بموضوع الفيلم الذي استغرق مني ما يقارب 6 سنوات، أي قبل أن أنجز فيلم (حبيبة) وأفلامي التلفزيونية والوثائقية، كنت في تلك السنوات أبحث عن إجابات لبعض التخمينات التي كانت بداخلي تجاه بعض المواضيع الحياتية.
بات واضحاً اليوم أن حسن بنجلون المسكون بالفن والسينما لن يمل أو يتكاسل عن تقديم هواجسه وأفكاره حتى وإن كانت غير جماهيرية بالنسبة للبعض، وهو حين يفعل ذلك لا يكترث لحسابات شركات الإنتاج المقيدة بالربح والخسارة، ومقولة "الجمهور عاوز كده".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 7 ساعاتالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت