شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!

"قالوا لنا عام 1948 نحن ذاهبون كي نحاربهم، ونعيد لكم البلاد"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والتاريخ

الأحد 12 نوفمبر 202312:26 م
Read in English:

"I’ve seen the Nakba with my own eyes in 1948 and now I see it again"

تتوالى النكبات والمجازر يوماً بعد يوم في غزة وفلسطين. نعيش حرب إبادةٍ منظمة ومقسّطة من زمن إلى زمن، وآخرها ما يحدث في غزة من حربٍ صهيونيةٍ إجرامية بكل المقاييس.

الزمن يستعيد نفسه، منذ الـ1948 وحتى اليوم، مع كلّ التواريخ والمعارك التي مرّت على الشعب الفلسطيني، ومع اختلاف جغرافيّة لجوئه، حيث لكلّ منفى نكبته الخاصة، من نكبة اللجوء في المخيمات إلى نكبة اللجوء والعدوان الوحشي في الوطن.

في المخيمات الفلسطينية في لبنان، وتحديداً في مخيم نهر البارد، يعيش الكثير من الشهود. الشهود على هذه النكبات والمجازر التي مرّت عبر الأجيال. فالجيل الأول لنكبة 1948، أي جيل الناجين منها، لا يزالون يذكرون تفاصيلها، وكيف وقعت؟ وماذا حصل لهم في أثناء الخروج وقبله؟

تشير الإحصاءات الخاصة بالسكان في المخيم، إلى أنّ أكثرية الذين عاشوا النكبة قد توفوا، وقلة منهم لا يزالون على قيد الحياة، ومنهم الشاهدة الجدّة غزالة حسين عبد الرحيم (80 عاماً، من مواليد 1936، في قرية صفورية/ قضاء الناصرة).

تقول الحاجة غزالة، لرصيف22: "كنّا في قرية صفورية نعيش في أمانٍ وسلامٍ. كان عمري 9 سنوات. كنا نحبّ الناس والضيوف ونهتم بالكرم. عند دخول اليهود، أذكر أني كنت صائمةً. كان ذلك في شهر رمضان. كنّا جالسين في باحة الدار تحت العريشة، وأفطرنا وبعد الإفطار مباشرةً، شعرنا بصوت الطائرات فوقنا. دخلوا علينا. كان بيتنا بجانب الجامع. ثلاثة من العائلة استشهدوا أمام ناظري بضربة الطائرة الصهيونية. بعد ذلك، إخوتي قالوا لأبي: يجب أن نخرج، يبدو أن الصهاينة دخلوا البلد. والدي رفض الخروج، وتمسّك بأرضه. أخي الأكبر ألحّ على أبي، وتجادل معه من أجل الخروج، فخرجنا بلا أي أغطية وبلا أغراض البيت. خرجنا هاربين. جلب أبي معه عباءته فقط. خرجنا أنا وأخي أحمد وأخي محمد وأخي حسن وأخي أبو المهدي. أبو المهدي كان عمره ثلاثة أشهر فقط".

"كنّا أطفالاً. كنّا نبكي. نمسك بعباءة والدنا ونبكي. التقينا في الطريق بالجيش العراقي. قالوا لنا: لا تبكوا، نحن ذاهبون كي نحاربهم، ونعيد إليكم البلاد. قلنا لهم: إن شاء الله، وتابعنا المشي حتى جنوب لبنان"

وتضيف: "كنّا أطفالاً. كنّا نبكي. نمسك بعباءة والدنا ونبكي. التقينا في الطريق بالجيش العراقي. قالوا لنا: لا تبكوا، نحن ذاهبون كي نحاربهم، ونعيد إليكم البلاد. قلنا لهم: إن شاء الله، وتابعنا المشي حتى جنوب لبنان. وصلنا إلى الناقورة، وفي 'كفر كنّا' كانوا يشتغلون بالقمح. ذهبنا وجلسنا بين الزيتون وطلبنا الأكل. أبي كان معه قروش أطلعها من جيبه، وذهب واشترى لنا الأكل، واشترى طنجرةً وصينية نحاس للعجين. جلسنا تحت الزيتون، وبدأت أمي تعجن وتعدّ لنا الخبز. بعد ذلك قاموا بنقلنا إلى القرعون في البقاع. جلسنا قرب النهر. وضعونا في البركسات، جلسنا وبدأوا بإحضار الحمص لنا. أبي أُصيب بالسخونة. انتقلنا إلى غرفة ثانية مع إخوتي كي يتسنى له النوم. كنت أنا البنت الوحيدة بينهم. أمي قالت لأبي نم في اتجاه القبلة كي تُشفى. راح أبي يوصينا: كونوا أقوياء، كونوا أقوياء، ونحن جالسون معه".

تتابع: "ظللنا ننظر إليه حتى أدار وجهه ومات. مات أبي أمام عيوننا. بدأنا بالبكاء عليه، وصرنا نقول: يجب أن ندفنه في فلسطين وليس هنا. كيف نحفر له قبراً هنا؟ يجب أن يُدفن في فلسطين. لا أنسى أبداً تلك المشاهد من زمن النكبة. كان أبي يقول دائماً: حين أموت أعيدوني إلى فلسطين، وادفنوني هناك. أريد أن أموت في فلسطين، ودُفن أبي في القرعون في البقاع. بعد ذلك قاموا بنقلنا إلى مخيم نهر البارد، حيث كانت الخيم عبارةً عن شوادر مركبة ومجهزة لنا".

ولا تزال النكبة مستمرةً حتى اليوم منذ العام 1948، لا منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي. تبدي الحاجة غزالة عبد الرحيم رأيها بما يحصل في غزة اليوم، قائلةً: "العدوان الوحشي اليوم على غزة إجرام صهيوني كبير. الله يحميهم. هذا العدو الصهيوني المستمر في عدوانه، يجب أن نقاومه ونقاتله مثلما قتلنا، فما ذنب الأطفال والنساء والشيوخ لكي يُقتلوا على يد الصهاينة هكذا؟ حين أتابع على التلفاز ماذا يحصل، أبكي وأُغلقه. هذه حرب إبادة مستمرة. ولا يزال العرب صامتين، ولم يفعلوا شيئاً، ونحن نُذبح كل يوم".

"ظللنا ننظر إليه حتى أدار وجهه ومات. مات أبي أمام عيوننا. بدأنا بالبكاء عليه، وصرنا نقول: يجب أن ندفنه في فلسطين وليس هنا. كيف نحفر له قبراً هنا في القرعون؟"

وعن الرجوع إلى فلسطين وتحريرها تقول: "سأفرح كثيراً، سأعود إلى فلسطين، وأموت في أرضنا. في كل وقت أدعو لأهل غزة بالنصر: يا رب انصر أهل غزة لنفرح معهم بالنصر، وندبك الدبكة الفلسطينية على أرضنا إن شاء الله".

حكاية الحاجة غزالة كباقي الحكايات، وهي الشاهدة على المجزرة والناجية منها؛ هي روح التفاصيل التي تنطق ولا تزال تنبض في الذاكرة. أطال الله بعمرها، وعمر ذاكرتها كي لا تنسى. بلغت من العمر 80 عاماً، ولا تزال تحلم بالعودة إلى قريتها صفورية، وإلى البيت نفسه، وعبر الطريق عينها، لأنّ الأرض كالأم حين تعانق صغارها، تبعث الدفء والحنين. تبدو الحاجة غزالة شامخةً كشجرة الزيتون وهي تروي سيرة البلاد، وممتلئةً بالتفاصيل والذكريات والأمكنة. تفوح منها رائحة فلسطين، هي التي رأت بأمّ العين النكبة بمشاهدها الدموية، ولا تزال حتى اليوم تشاهد المشاهد نفسها في غزة والضفة والقدس، لكن هذه المرة من بعيد، وعبر شاشة التلفاز.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image