بخار كاد يجعلها تختنق، وهي التي تعاني من التهابات الجيوب الأنفية المزمنة. جزئيات تشبه المعدن شعرت بها تطقطق أسفل أسنانها، وخلال أيام كانت تفقد اتزانها بالكامل.
تلك هي أعراض اللحظات التي أعقبت قيام الطبيب بحشو عصب أسنان دعاء بالزئبق، وقد شعرت بها دون أن تعرف أنها أدخلت إلى أسنانها كميات من السّم الذي يتسرب إلى جسدها وإلى البيئة محدثاً بهما أضراراً جمة.
التلوث داخل عيادات الأسنان والناتج عن حشوات الزئبق أو ما يطلق عليه "الأملجم"، هو أحد أشكال التلوث الذي يشكل خطراً على كل من البيئة وعلى صحة الإنسان. وعلى الرغم من إجراء الأمم المتحدة لاتفاقية "ميناماتا" عام 2017، وهي تقضي بضرورة تقليل استخدام الزئبق في عمليات التصنيع المختلفة ومستحضرات التجميل وعيادات الأسنان، لعواقبه الصحية والبيئية الخطيرة، ما زال يستخدم في بعض الدول الفقيرة ومن بينها مصر، نظراً لرخص ثمنه.
لم تعرف دعاء أنها أدخلت إلى أسنانها كميات من السّم الذي يتسرب إلى جسدها وإلى البيئة.
استكملت دعاء جلسات حشو ضرسها بالأملجم، فهو الخيار الذي بالكاد يتناسب مع قدراتها المادية، ولكنها في كل مرة تخرج من عيادة الطبيب، تعود وكأنها قد حملت معها مرضاً جديداً في رئتيها حسب وصفها، فتجد صعوبة في التنفس، وتشعر بالخمول وآلام في المعدة، وتزداد هذه الأعراض مرة تلو الأخرى، لتتأكد أن السبب واحد وهو هذا الحشو الذي علمت بعد ذلك عن أخطار واحد من أهم مكوناته وهو الزئبق.
الزئبق هو عنصر موجود طبيعياً في الهواء والماء والتربة، لكن منظمة الصحة العالمية تعتبره مادة كيميائية تثير قلقاً كبيراً في مجال الصحة، فالتعرّض له حتى ولو بكميات قليلة، قد يسفر عن المعاناة من مشاكل صحية جسيمة ويخلف آثاراً سامة على الجهازين العصبي والهضمي وجهاز المناعة، وعلى الرئتين والكليتين والجلد والعينين، ويشكل تهديداً لنماء الطفل داخل رحم أمه وفي أولى مراحل حياته.
صداع وإغماء
بعد الحديث مع طبيب الأسنان، اقتنع سيد فرج بأن حشو الأملجم الزئبقي هو الملائم لحالته، فهو الأكثر متانة والذي يمكنه الاستمرار ثابتاً في فمه سنوات، ما جعل الرجل لا يتردد في الموافقة على حشو أسنانه بهذه المادة.
رائحة تشبه رائحة الاحتراق هي تلك التي استنشقها سيد طوال جلسة تركيب الحشوة كما يقول لرصيف22، وقد جعلته يشعر بصداع مفاجئ وإغماء، ولكنه حاول بعد ذلك التحامل على نفسه لكي يتخلص من آلام أسنانه بانتهاء هذه العملية.
يتابع سيد عن حالته: "بعد أيام فوجئت بشعوري بملمس الحشو أسفل أسناني، كما أحسست وكأن أجزاء منه قد ابتلعتها"، وأضاف أن ذلك جعله يتوجه مرة ثانية إلى الطبيب الذي أوضح له أن الحشو صمم أكبر من حجم ضرسه وبدأ في برده ثانية ليكون بمقاس الضرس المطلوب، ومع هذا البرد بدأت رائحة الاحتراق تعود مرة ثانية.
التسمم بالزئبق قد يتسبب بحالات الفشل الكلوي، وانسداد الشرايين، والأمر يتوقف على كمية الزئبق التي استنشقها الشخص وعلى عمره. كذلك فإن آثار حشوات الزئبق على المرأة الحامل مخيفة، إذ يمكن أن يسبب فشلاً تنفسياً وتلفاً بالأعصاب لدى الأجنة
يعيش سيد حالة من الرعب والفزع بعد أن علم من خلال إطلاعه على بعض المعلومات أن الحشو البلاتيني يحتوي على نسبة كبيرة من عنصر الزئبق السام، موضحاً أنه لا يعلم كيف يتصرف، فهل يتوجه إلى الطبيب لإزالة هذا الحشو فيستنشق رائحته مرة أخرى ويصيبه ضرر، أم يتركه وقد يتسرب إلى جسده ويحدث له أيضاً أضراراً وخيمة.
ويختم بقوله إن المريض غالباً لا يعرف ما تركيب المكونات التي سيضعها الطبيب في أسنانه، ومدى ضررها عليه، مشيراً إلى أن الأمر يحتاج إلى توعية المواطنين بصورة أكبر تجنباً لمشكلات صحية خطيرة قد تحدث لهم.
ويتكون حشو الأسنان "الأملجم" أو الحشو البلاتيني من عنصر الزئبق (50٪)، والفضة (22%-32%)، والقصدير (14%) والنحاس (8%) وغيرها من بقايا المعادن.
مشكلات صحية خطيرة
يقول الدكتور محمود محمد عمرو أستاذ السموم لرصيف22 إن أكثر الأعضاء التي يهاجمها الزئبق في جسم الإنسان هي المخ والكلى، مشيراً إلى أنه يسبب الشلل الرعاش، والتهابات خطيرة في الجهاز الطرفي قد تتحول إلى تلف كامل، مما يجعل الشخص الذي أصيب بالتسمم لا يشعر نهائياً بأطرافه.
ويتابع أن حشوات الأسنان وكذلك صناعة بعض الأجهزة الطبية هي من أكثر الاستخدامات التي يدخل فيها عنصر الزئبق، مما يزيد من احتمالية التسمم به عن طريق استخدامها.
ويضيف أن التسمم بالزئبق قد يتسبب بحالات الفشل الكلوي، وانسداد الشرايين، لافتاً إلى أن الأمر يتوقف كذلك على كمية الزئبق التي استنشقها الشخص وعلى عمره. كذلك أوضح أن آثار حشوات الزئبق على المرأة الحامل مخيفة، إذ يمكن أن يسبب فشلاً تنفسياً وتلفاً بالأعصاب لدى الأجنة.
الزئبق هو عنصر موجود طبيعياً في الهواء والماء والتربة، لكن منظمة الصحة العالمية تعتبره مادة كيميائية تثير قلقاً كبيراً.
تصريف في البيئة
يقول الخبير البيئي مصطفي الشربيني لرصيف22 إن الزئبق المستخدم في حشوات الأسنان هو واحد من أكبر الملوثات البيئية، وذلك حتى بعد وضع آخر حشو زئبقي داخل الفم.
ويلفت الشربيني، وهو رئيس الكرسي العلمي للبصمة الكربونية والاستدامة في جامعة الدول العربية، إلى أنه سبق أن أجريت اختبارات لمياه الصرف الصحي الناتجة عن عيادتين لطب الأسنان، ووجد الباحثون في جامعة إلينوي أن بهما مستويات عالية من الزئبق الميثيلي وهو معدن سام على الدماغ والجهاز العصبي.
ويشير إلى أن جزيئات الزئبق الصغيرة التي تنتهي في مياه الصرف الصحي لعيادات الأسنان تتعرض للبكتيريا التي تقلل الكبريتات وتحول الجزيئات إلى ميثيل الزئبق، ثم تتسرب إلى المياه والأراضي الزراعية، وبالتالي تضر بالتربة والمياة العذبة التي تسقى بها الأراضي، فتنتج ثماراً محملة بالزئبق السام. كما أن إزالة حشوة الأسنان تولد سحابة من جزيئات الزئبق بحجم الميكرون أو أقل من الميكرون والتي تعلق في الهواء لمدة 10 دقائق تقريباً وتالياً تساهم في تلوثه أيضاً.
ويلفت أيضاً إلى دراسة أجرتها وكالة حماية البيئة، أثبتت أنه يتم تصريف بين 6 إلى 35 طناً من الزئبق في البيئة بسبب حشو الأسنان، وهو أعلى بكثير من الحد الآمن المسموح به وفق الوكالة.
بينما شدد الدكتور ماهر عزيز استشاري البيئة وعضو اللجنة القومية لتغير المناخ إلى أنه لا يجب استخدام مركب الزئبق على الإطلاق حتى ولو بكميات قليلة لأنه عنصر سام وخطر على كل من الإنسان والبيئة، مشيراً إلى أنه في حال تلف أو تحطم جهاز يحتوي على حشوة زئبقية، تتحرر قطرات صغيرة من الزئبق يمكن أن تتبخر وتدخل إلى طبقة الغلاف الجوي وتساهم ولو بنسبة قليلة في ظاهرة الاحتباس الحراري.
كما أضاف أنه يمكن أن ينتشر الزئبق في البيئة المائية مباشرة عن طريق الصرف الصحي، ونتيجة لهذا يؤثر على الكائنات الحية في النظم البيئية المائية، وذلك بعد امتصاص هذه الكائنات له من الماء، مما يتسبب في تراكمه في سلسلة الطعام بما في ذلك الكائنات البشرية عن طريق تناول الأسماك الملوثة.
وأشارت دراسة صادرة عن شبكة إزالة الملوثات الدولية IPEN إلى أن "الزئبق من أكبر الملوثات في العالم، وعندما ينطلق في البيئة يتبخر وينتقل عبر تيارات الهواء ثم يعود إلى الأرض، وعندما يستقر في البيئة يصبح جزءاً من السلسلة الغذائية (...) مما يمكن أن يضر بصحة الإنسان بصورة كبيرة".
الأطباء أيضاً عرضة للخطر
ويوضح الشربيني أن طبيب الأسنان ومساعديه يتعرضون هم أيضاً لأشكال من التسمم بالزئبق، لذا يناشد بضرورة اتخاذ خطوات فورية وتدابير وقائية مناسبة لتجنب أبخرة هذا العنصر، من أجل منع المخاطر الصحية المحتملة للعاملين في طب الأسنان، موضحاً أن التعرض المزمن للزئبق لدى أطباء الأسنان ومساعديهم كان مرتبطاً بالاضطرابات الإنجابية والحساسية وتأثيرات ملموسة على الجهاز العصبي.
جزيئات الزئبق الصغيرة التي تنتهي في مياه الصرف الصحي لعيادات الأسنان تتسرب إلى المياه والأراضي الزراعية، وبالتالي تضر بالتربة والمياة العذبة التي تسقى بها الأراضي، فتنتج ثماراً محملة بالزئبق السام
بينما يوضح الدكتور أحمد ناصر وهو أستاذ مساعد في الجامعة الحديثة للتكنولوجيا والمعلومات في حديثه لرصيف22، أن خطورة الزئبق تتمثل في رائحته أثناء الاستخدام فقط، مشيراً إلى أنه في حال كان صلباً فهو آمن، لذلك حين يقوم طبيب الأسنان بفتح علبة الزئبق يضع على أنف المريض كمامة لكي لا يتسلل رذاذ الزئبق إليها، وبالتالي يصبح في مأمن.
يتابع أنه بمجرد وضع الزئبق في السبيكة التي تثبت داخل الفك أيضاً فإنها تجف، ومن ثم تصبح آمنة، مشيراً إلى أنها تزداد صلابة وجفافاً مع الوقت، على عكس الحشوات الحديثة التي تكون صلبة في بداية تركيبها ثم تضعف بمرور الوقت.
وجدير ذكره أن عدداً من الجمعيات والمؤسسات العلمية، ومنها الجمعية البريطانية لطب الأسنان، تشير إلى أن حشو الأسنان بالزئبق آمن، باستثناء حالات يثبت فيها تعرض بعض المرضى لحساسية من الزئبق، حينها يتعين استبداله بمادة أكثر ملاءمة لهم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...