وسط هتافات "Ceasefire Now" المتردّدة من حولي، وجدت نفسي غارقاً وسط حشود المتظاهرين، كشبح يمشي بينهم دون أن يُرى. في كل خطوة للمظاهرة شعرت بوطأة اليأس تدوس قلبي وتزفر شهيقي، وازداد الشعور بالغرق والتشبّح. ينقبض حلقي وأكاد أختنق لقلة الأكسجين في الهواء من حولي، وجلّ إرادتي في تلك اللحظة هو ضمّ صوتي إلى صرخة النجدة التي تجتاح حناجر المتظاهرين، لكن الحصار الذي أغرقني كَتَمَ صوتي، ولم أسمع شيئاً يصدر من بين شفتي.
تزاحمت الهتافات الحماسية من حولي، وصارعت أصوات داخلية تئن في آذاني. سيمفونية من أصوات الطائرات والقذائف والصواريخ التي تمزّق سماء المخيم. بين زفير الهواء، تتسلل شهقات بكاء أطفال من كل الأرجاء تخنقني.
خارج ضوضائي تستمر المظاهرة، والهواء يشتعل حماساً. ربما لو تمكنت من الهتاف معهم، لصدر بكاء طفل عن أوتار صوتي. ربما حينها تمكّنتُ من التحرّر من هذه الأصوات. ظل حلقي زقاقاً ضيّقاً، وبقي الصوت عالقاً دون ملجأ أو مفر. بكاء الأطفال أصبح همسات شبحية في أذني، طغت على النداء الجماعي لوقف النار.
اجتاحني اليأس. ابتلّت عيناي ودموعي تهطل دون سيطرة. كل دمعة احتجاج صامت على نشاز صوت القذائف. تعثرت خطواتي، ووقعت أرضاً كما لو كنت دمية متحرّكة تم قطع خيوطها. دُوار في رأسي، وضباب رمادي بدّل أفكاري.
تمالكت فركشتي برويّة، وواصلت شاقاً طريقي الصامتة بين المتظاهرين دون تأنيب ضمير، كذلك دموعي واصلت انهمارها دون اكتراث، تشقّ طريقها عبر خدودي وكأنها تعرف مستقرّاً لها.
ترددت الهتافات في العاصمة الأوروبية، وكانت بمثابة خلفية مؤرقة لرحلتي المنفردة عبر الحشود. وحيد بين جموع. في تلك اللحظة، أصبح الحشد ملجأً وسجناً في ذات الوقت، وكل خطوة كانت بمثابة تذكير بالمسافة التي لا يمكن التغلب عليها بين التوق للخلاص والحاجة للمقاومة... مجاز
ترددت الهتافات في العاصمة الأوروبية، وكانت بمثابة خلفية مؤرقة لرحلتي المنفردة عبر الحشود. وحيد بين جموع. في تلك اللحظة، أصبح الحشد ملجأً وسجناً في ذات الوقت، وكل خطوة كانت بمثابة تذكير بالمسافة التي لا يمكن التغلب عليها بين التوق للخلاص والحاجة للمقاومة.
أصبح حضوري مجرّد ظل في سيمفونية الأصوات، تنهداتي الصامتة التي اِبْتَلَعها نشاز الصرخات الحماسية من حولي أصبحت خلفية موسيقية. لا. لم يكن النشاز للصرخات الحماسية، بل نشاز الطائرات، أو نشاز بكاء الأطفال، أو سيمفونياتهما. لا. بدا وكأن كل دمعة تسقط تحمل معها ثقل قصة لم تُسمع، ولكن هذا هو حال الأشباح عامةً، تحمل قصصاً ليس لها صوت.
بلحظة خلاص يسوعية، تمكّنت من الانسلاخ عن ضوضائي. نظرت حولي، خارج حدود المظاهرة: مقاهٍ ومطاعم تملأ حواشي الطريق. نظرت إلى فيترينة أحد المقاهي وتابعت وجوه قاطنيه. يحدقون بنا باستغراب كما لو كنا مسيرة سيرك أو مسرح راقص. شعرت بثقل نظراتهم، وحدّقت بها أيضاً. أحدهم عاد لقراءة جريدته عن أخبار الشرق الأوسط الدامية، وأخرى إلى حاسوبها لتبيع سهماً آخر قبل أن ينهار. ماذا يشرب هؤلاء؟ كيف يمكنهم مواصلة حياتهم كما لو أن الطائرات لا تحوم في سمائهم؟ كيف يمكنهم احتساء هذه القهوة كما لو أن الماء لم تقطع عنهم أبداً؟
حسناً، لن أواصل درب الآلام هذه ما دام صوتي يخونني. دموعي لن تشفي غليلي ولن تضيف للمظاهرة شيئاً. عليَّ إيجاد عزاء آخر. سأبحث عنه داخل جدران المقهى، إلى جانب أبي الجريدة وأم الأسهم. تركت المظاهرة ودخلت المقهى ماسحاً دموعي بحطّتي. اخترت طاولة قريبة منهما، من أبي الجريدة وأم الأسهم، وعمّرتها. أشرت للنادل على فنجان الاسبريسو في المينيو. أريد أن أشرب القهوة بتلذُّذ، أريد أن أرتشفها، أريد أن أحتسيها.
ما إن لمس الفنجان شفتي، حتى تسلل وجه مألوف إلى مجال رؤيتي، وكأن ضباباً تلاشى وكشف تعابير وجهها يتجسّد أمامي. إنها ليلى. لابد أنها هي. لا. لا يمكن أن تكون هي. ما لليلى وللمقاهي التي تحد شوارع المظاهرات؟ ما لليلى ولأوروبا، وما لليلى والحاضر؟ تمعنت في وجه الفتاة التي تجلس في الطرف الثاني من المقهى وحاولت رسم حياة ممكنة لليلى قد تفسّر حضور وجهها هنا الآن.
لا يمكن أن تكون ليلى. ليلى استشهدت عندما كنا أطفالاً.
رفعت فنجان القهوة مجدّداً إلى شفتي، ورأيت نقاط ماء تسقط في داخله لتُحدث زوبعة هامشية. تبسّمت لهذه المجازية السخيفة التي تسللت عبر دموعي، واحتسيت رشفة أخرى من الفنجان. فجأة تسلّل وجه آخر إلى مجال رؤيتي. أحمد. أحمد الذي كنت ألعب معه في الحوش. أحمد الذي، عندما سافرت، تركته طفلاً يعتني بأخيه الصغير، كما لو كان بنفسه أماً وأباً وأخاً وأختاً. أحمد الذي سمعت خبر استشهاده في العدوان الأخير.
أريد أن أشرب القهوة بتلذُّذ، أريد أن أرتشفها، أريد أن أحتسيها، لعلي أرى أصدقاء آخرين. ارتفعت أصوات المظاهرة خارج المقهى مجدداً: "Ceasefire Now".
أحدهم عاد لقراءة جريدته عن أخبار الشرق الأوسط الدامية، وأخرى إلى حاسوبها لتبيع سهماً آخر قبل أن ينهار. ماذا يشرب هؤلاء؟ كيف يمكنهم مواصلة حياتهم كما لو أن الطائرات لا تحوم في سمائهم؟ كيف يمكنهم احتساء هذه القهوة كما لو أن الماء لم تقطع عنهم أبداً؟... مجاز
نظرت حولي أبحث عن أبي الجريدة، قد يكون لديه خبر وقف إطلاق النار. لكن مكانه وجدت أبا السعيد يحمل جريدة. أبو السعيد بائع الفول الذي كان يجوب المخيم بعربة فارغة. أبو السعيد الذي كان يقرأ الجريدة دون قهوة، وينادي بما قرأه وبأسماء الشهداء وكأنه راديو بشري. أبو السعيد لم يستشهد. أعرف هذا جيداً. لو كان استشهد لأخبرني أحدهم، ثم إن ليلى كانت تقول إن أبا السعيد سيقبرنا جميعاً قبل أن يستشهد. هو مدير العلاقات العامة والأخبار الإقليمية في المخيم، كيف له أن يستشهد؟ أعاد أبو السعيد البسمة إلى شفتي.
التفت إلى الجهة الأخرى فلم أجد أم الأسهم ولا حاسوبها. ربما انضمت إلى المظاهرة، ربما انتهت من بيع الأسهم، أو شرائها، أو تصويبها. في تلك اللحظة اقتربت من طاولتها الخالية فتاة ثانية تحمل حقيبة حاسوب ومظلة. غريب، لم أكن أعرف أنها قد تمطر اليوم. يبدو أنها تعرف أخبار حالة الطقس أفضل مني. تركتُ مظلتها ورفعت عيني إلى وجهها. إنها ميساء. ميساء. ميساء. الصحافية التي كنا نقف خلفها عندما كنا صغاراً، بينما كانت تقف هي أمام الكاميرا وتعلن أسماء الشهداء. أحمد كان يقول إنّ صوتها عندما تنطق أسماء الشهداء هو صوت ملاك رباني لا يسمعه الأشرار. لا أعرف إن كان على حق، لكن ميساء ميساء مثل أبي السعيد، لا يمكنها الاستشهاد. من سيعلن أسماء الشهداء إن استشهدت هي؟
الصمت يخيّم على المقهى. لا أحد يتكلم. حتى صوت المظاهرة تلاشى، ثم من باب المقهى يدخل وجهٌ مألوف آخر. يحدق بوجهي وبوجوه الآخرين مستغرباً، كما لو كنّا أشباحاً تقطن طفولته.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون