شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
من نافذة حنين قيشاوي ترى الكون

من نافذة حنين قيشاوي ترى الكون

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والتنوّع

الخميس 9 نوفمبر 202311:00 ص

الواحدة بعد منتصف الليل، القاهرة، وأنا الذي أعتاد بأن يُطل من نافذة الشرفة في هذا التوقيت يومياً. حيث ينقطع التيار الكهربائي عن الحي، فأخرج لتأمل سكون الأشياء في ساعة الصمت، وأنير ضوء هاتفي لكي أكتب على شُعلته في مدونتي. ما يدور في أفكاري عن سر الوجود. قد سميتُها "في النافذة أرى الكون"، كوني أتخيل أنني في هذه اللحظات أنظر للكرة الأرضية من أعلى نقطة، حيث أحلّل وأفسّر أسباب نزاعات الخلق، دوافع الشهوات، هواجس العقل الباطن، مستمعاً في صحبة ذلك لكلمات محمود درويش: "لم تبقَ للموتى سوى الحجج الأخيرةِ. لا مكانَ لنا هنا".

تناولت القلم وشرعتُ في كتابة السطر الأول من فكرة اليوم. لكنني توقفت خلسة حينما جاءني إشعار عبر رسائل الماسنجر من حنين قيشاوي، الشابة الفلسطينية التي قد راسلتها منذ الصباح لكي أجري معها حواراً صحفياً عن أوضاع النازحين تحت القصف الفوضوي الذي يُمطر منازلهم بالقنابل وقلوبهم بالفزع. شكرتني على الاهتمام. ومن ثم أبلغتني برسالة مقتضبة قبل أن أسأل: "قد تكون كلماتي الأخيرة".

أغلقت المدونة، لا مجال الآن للتأمل في الكون. انتبهت لصمت حنين بعد رسالتها،. وتردّدت أناملي في السؤال. لم أجر من قبل حواراً مع إنسان ينتظر الموت. وجدتني أتخيل ذاتي في منزل محاصر، يقصف كل ما حوله بالأحزمة النارية، تهتز الجدران، ترتجف المشاعر، ويصرخ من لا يزال قادراً على التعبير، ومن ثم تنتهي الغارة، فأمسك هاتفي لأجد رسالة تسألني: صِف لي شعورك أثناء القصف؟

"الغارة بتستغرق أقل من دقيقة، وأكتر من زمن. نزلت عنا ولا حوالينا. الشعور الأول: ممكن علينا، الشعور التاني: لا لسة عايشين، الشعور التالت: أنه الحمدلله نزل على غيرنا، الشعور الرابع:  البحث عن مكان القصف والقلق ع اللي بنعرفهم"... حنين قيشاوي... نازحة من غزّة

غابت حنين لثوانِ وشردت أنا في التخيل، ونسيت السؤال أو خجلت، حتى عاودت الكتابة على شاشة المحادثة، وكان أول ما لمحته عيناي من رسالتها أنها اتجهت صوب النافذة لالتقاط شبكة الإنترنت. كم كانت إشارة قاسية، بأني هذه الليلة سأرى الكون من نافذة "قيشاوي" المُطلة على الرِكام، الجثث، الضباب، أو في غضّ البصر.

"أنا حالياً واقفة ع الشباك عشان أقدر أحكي ع النت، مقطوعة سبل التواصل بالراحة، بكتب شعوري بحالة لا شعورية، بقمة الاتزان لكن بعدم تقبل الواقع. انتهت قدرتي على التحمّل، بتُّ مجرد جسد ينتظر دوره بأبشع وأقسى أنواع الموت. لما بعلى صوت الطيران فوقنا بنطلع ببعض نظرات صامتة أخيرة. العتمة بكل مكان، بس ممكن تضوي بلحظة لون برتقالي بعدها صوت واهتزاز.

لما بعلى صوت الطيران فوقنا بنطلع ببعض نظرات صامتة أخيرة. العتمة بكل مكان، بس ممكن تضوي بلحظة لون برتقالي بعدها صوت واهتزاز... حنين

الغارة بتستغرق أقل من دقيقة، وأكتر من زمن. نزلت عنا ولا حوالينا. إحنا بخير؟ طيب البقية بخير؟ أقل من ثانية أكتر من شعور. الشعور الأول ممكن علينا، الشعور التاني لا لسة عايشين، الشعور التالت أنه الحمدلله بس شعور أناني نزل على غيرنا، الشعور الرابع البحث عن مكان القصف والقلق ع الي بنعرفهم. قبل ما تجي الإجابات بيكون صار موعد الغارة التانية والغارة يلي بعدها. حيث تدسّ رعب الحرب كلها أسفل وسادتي. وعلى وقع المجازر أفتح عيني وأغمضها".

شجّعتني رسالتها على الحديث معها، أمهلت عقلي ثواني للتفكّر في صياغة السؤال، وقبل أن أشرع في الكتابة أرسلت حنين صورة لمنزل مهشّم وعادت لتعلق عليها.

"هاد بيتي... التفاصيل والذكريات والأشياء جواه كل ما أتذكرها بحس شي جواتي هيك بغلي. انقصف وطلعنا بخير أنا وأهلي، بيتنا راح وجيرانا استشهدوا، بعد ساعات لجأنا لبيت آخر وقع علينا. استشهدوا وانصابوا أشخاص كانوا معي بنفس الغرفة. وحالياً أنا نازحة في بيت تاني بجنوب قطاع غزة، حسب ما طلب منا الاحتلال نتوجه.

قبل النزوح كنت ألحظ العديد من الأشياء التي أنفقنا عليها مصروفنا في البيت، ملابسي تفاصيل حياتنا، كيف أحملها؟ كنت أتخبّط بين متسع في الحقيبة لملابس أو أشياء عزيزة عليّ في حال اضطررنا للخروج أي ينفعني منهم أكثر، ثم أنهي التفكير لأنني لا أملك حقيبة لكل مايخطر لي حمله".

لا أفهم لِما عقلي ينتابه كل هذا الارتباك، لم أستطع صياغة سؤال واحد حتى اللحظة، بدا لي أنني بحاجة لفنجان من القهوة لكي يمنحني نذراً من الإفاقة. اتجهت على ضوء هاتفي نحو المطبخ، وأشعلت النيران وبدأت في تحضير القهوة والفنجان. ووضعت الهاتف في زاوية تنير لي، وفي الوقت ذاته تراقب عيناي محادثة حنين حتى أعود لمحاورتها. لم تنتظر قيشاوي التي أدركت أن المصدر الذي تجرفه الحياة إلى الموت، ليس لديه الوقت سوى لأن يُخرج ما في جعبته من فتات حكايته المتناثرة، دون تنميق أو ترتيب، ومن ثم تتركها لألملم أشلاءها وأصيغها في قصة أكملت سردها لي.

"قبل الحرب، كنت بعمل وحياتي طبيعة ما بين أصحاب وعيلتي الصغيرة، إلي صديقة بمصر كنت بجمع فلوس عشان أسافر وأشوفها وهي قلبها متقطع. صداقتنا قديمة منذ 2013، صداقة إلكترونية لكن أقوى مما تتخيل.

الآن أقضي يومي بتلبية الاحتياجات اليومية والاتصالات والقلق والطهي وشحن الهواتف لمدة طويلة. الأكل بنوفر عشان يقعد مدة أطول، يعني الفطور والعشا بناكل بسكويت، تمر، أي شي يشبع بس ما بهلك غاز. ولأنه ما في كهربا من شهر وما في أصلاً نعبي غاز، بالتالي بنطبخ عالنار. ما في كهربا بالتالي المية مقطوعة. بنعبي ع طريق ماتور مرة بالأسبوع ومرات ما بنفع. إحنا محرومين نسمع نبرات صوت حبابينا لولا SMS بنطمن ع بعض والنت والشحن كل وين و وين لما تتزبط الأمور. النوم وراحة البال بطلنا ندوقهم. ما بنعرف ولا بنشوف أخبار. ولو حدا مات ما بنعرف إلا بعد وقت كتير، ولو متنا بتهيألي يمكن ما حدا يدرى فينا. مرات ما بنحس بالقصف من كتر اللخمة بتفاصيل الحياة، حتى الناس اللي ولادها ماتت مش عارفة تحزن ولاتعيش رفاهية الفقد.

أعتقد أنني خلال الشهر الماضي عرفت من الأموات أكثر مما عرفت من الأحياء. تعوّدت أشكال الموت كلّها، لكنّي لم أتصالح مع الفقد، وهما مختلفان جدّاً، فالموت يصيب الميّت والفقد يصيبنا نحن. حنين قيشاوي... نازحة من غزّة

أعتقد أنني خلال الشهر الماضي عرفت من الأموات أكثر مما عرفت من الأحياء. تعوّدت أشكال الموت كلّها، لكنّي لم أتصالح مع الفقد، وهما مختلفان جدّاً، فالموت يصيب الميّت والفقد يصيبنا نحن. كنت أظن أن هذا القدر من الموت سيجعلني أقدر على توقّعه وأصلب عند سماع أخباره، فرغم ما رأيناه من أشكال للموت سواء كان بصاروخ أو قديفة، سريعاً أو بطيئاً، في أرض فارغة أو تحت أسقف إسمنتية، ما زالت تنال منّا قصّة لا نعرف صاحبها وفقدٌ لم يصبنا".

لن يفهم الآمنون في أسرابهم شعور أن تخرج من عيني دمعات ويضطرب تنفسي لمشهد فقد. لم يعيشوا، مهما شاهدوا من مقاطع فيديو، شعور أن أكتب رسالة لأحدهم: كيفك؟ وأنا أضع في هذه الـ كيفك أقصى ما لدي من شعور بالرغبة في معرفة أخبار هذا الشخص وإمكانية بقائه على قيد الحياة. أن يحدث كل هذا فلا تظن أن ثمة شيئاً مختلفاً يطرأ على حياتي المحكوم عليها بالموت الإجباري.

عدتُ للنافذة، أحتسي القهوة، وأتمعّن في رسائل حنين، أرتب الكلمات لمواساتها والشد من أزرها واستكمال الحديث معها. لكنني لما أرسلت. ظهر لي أن الرسالة لم تصل. فأدركت أن الاتصال قد انقطع. وشككت أن القصف قد عاد، أو أن التوغل البري باغت منزلهم بقذيفة. تصدعت في رأسي الأفكار الشاذة حتى الانفجار. انفجار وهمي، لا يخلف ركاماً، ولا جثثاً، ولا عتمة، ليس له لون أو شعور، ولا يسبب اهتزازاً أو فزعاً، لأنه لا يشبه انفجار نافذة حنين التي ترى الكون.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

نرفض أن نكون نسخاً مكررةً ومتشابهة. مجتمعاتنا فسيفسائية وتحتضن جماعات كثيرةً متنوّعةً إثنياً ولغوياً ودينياً، ناهيك عن التنوّعات الكثيرة داخل كل واحدة من هذه الجماعات، ولذلك لا سبيل إلى الاستقرار من دون الانطلاق من احترام كل الثقافات والخصوصيات وتقبّل الآخر كما هو! لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا مسيرتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم، فكل تجربة جديرة بأن تُروى. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard
Popup Image