رغم أن فكرة مقاطعة المنتجات أمريكية أو داعمة لإسرائيل، ليست فكرة جديدة على مصر- ولا أعلم الكثير عنها في باقي دول الوطن العربي- إلا أنها لم تبد أكثر نجاحاً وتنظيماً وإرادة من تلك الأيام، بسبب الإبادة الجماعية لأهلنا في غزة، خصوصاً مع استرشادنا بحركة مقاطعة إسرائيل (BDS) التي تملك أهدافاً واضحة وعملية وقابلة للتطبيق، والذي يسعى بحسب تعريفه إلى مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات الاقتصادية عليها، بحسب تعريفها، إذ دائماً ما تسبق العاطفةُ العقلَ في حركات المقاطعة، وهو ما يؤدي بها إلى أن تنتهي إلى فورة حماس واحتراق عاطفي لا يفضي إلى شيء.
على الجانب الآخر، ثمة حملات مصرية غير منظّمة، ولكن فعّالة، في إيضاح المنتجات البديلة، وأهمها المنتجات المحلية، ورغم أن كثيراً منها أقل جودة من الماركات والبراندات العالمية، إلا أن المسألة كلها في أن تحظى بالحماية التي تجعلها قادرة على النمو والمنافسة.
بالتأكيد اقتصار المقاطعة على منتجات الفاست فود والمطاعم العالمية أمر غير كاف، فنحن لا نملك في الوطن العربي ومصر بدائل للصناعات الثقيلة والسلع المعمرة، كالسيارات على سبيل المثال، لكنها بداية تشير إلى أن ثمة شيئاً جذرياً يحتاج إلى التغيير.
ولعل حرب السابع من أكتوبر نفسها تحمل إشارة ذات مغزى، إذ نجح المقاتل الفلسطيني، عبر أسلحة محلية الصنع وبإمكانيات بسيطة لكن في الوقت ذاته تطور من نفسها على مدار سنوات طويلة، في هزيمة التقنية الإسرائيلية والغربية المتفوقة، والتي مهما كانت عواقبها، ستظل نصراً عسكرياً يحسب للمقاتل الفلسطيني.
اقتصار المقاطعة على منتجات الفاست فود والمطاعم العالمية أمر غير كاف، فنحن لا نملك في الوطن العربي ومصر بدائل للصناعات الثقيلة والسلع المعمرة، كالسيارات على سبيل المثال، لكنها بداية تشير إلى أن ثمة شيئاً جذرياً يحتاج إلى التغيير
لكني أعرف شيئاً آخر، أن حكوماتنا المصرية والعربية اشترت خرافة السوق الحر والاقتصاد المفتوح، والذي باعته له الدول الرأسمالية الكبرى وصندوق النقد الدولي، التي أقنعتنا، بحسب الخبير الاقتصادي الكوري ها تشون تشانج الذي سأستعين بكتبه في هذا المقال، حيث يقول في كتابه "23 حقيقة لا يخبرونك بها عن الرأسمالية"، أن أحد تلك الأكاذيب هو أننا نعيش عصر ما بعد صناعي، وأن بإمكان البلاد النامية حرق مرحلة التحول الصناعي والانتقال مباشرة إلى اقتصاد الخدمات، ورغم أن الغرب يعيش في مجتمع ما بعد صناعي، بمعنى أن الأغلبية تعمل في المحلات والمكاتب أكثر من عملهم في المصانع، إلا أن الحقيقة أن التصنيع لا يزال يلعب الدور القيادي في اقتصادات الدول الغنية.
وفي كتابه الهام "السامريون الأشرار: الدول الغنية والسياسات الفقيرة وتهديد العالم النامي" والذي ترجمه إلى العربية المترجم الكبير أحمد شافعي، وصدر عن دار نشر "الكتب خان"، يوضح تشانج كيف أن وصفة السوق والتجارة الحرة التي تصفها الدول الغنية للفقيرة، باعتبارها الطريق الذي سلكته تلك الدول من أجل الوصول إلى الرخاء الاقتصادي.
يقول تشانج من خلال بحثه السردي الشائق، إن ما باعته تلك الدول لنا لم يكن سوى أكذوبة، وأن أغلبها في مراحل بنائها لم تتبنّ الاقتصاد الحر، لكنها أعادت تزييف ذلك الواقع لنا، لتخبرنا أنها لم تصل إلى ما وصلت إليه من ثراء وازدهار إلا عبره، بينما الحقيقة أن وصفتهم لنا لا تزيد حياتنا كشعوب فقيرة إلا صعوبة.
حرية السوق وهم، بحسب تشانج، فلكل سوق قواعد وحدود، وإن كانت بعض الأسواق تبدو حرّة، فذلك فقط لأننا نقبل تمام القبول الضوابط التي تؤمنها، بحيث تصبح هذه الضوابط غير مرئية، بل إن تاريخ الرأسمالية كان صراعاً متواصلاً على حدود السوق. ولدينا حالياً المزيد من الضوابط والقوانين المنظمة للسوق بالمقارنة مع الوقت الماضي القريب فضلاً عن البعيد، فتوجد قواعد وقيود للموافقة على المنتج نفسه، كالشهادات الصادرة لمنتجي الأطعمة الحيوية، وعلى آليات الإنتاج، كالقيود على التلوث وانبعاثات الكربون، وعلى كيفيات البيع، كالقواعد المفروضة على تغليف المنتجات بلاصقات تعريفية، وغير ذلك. وهكذا فالتخلص من وهم موضوعية السوق وحريته هو الخطوة الأولى نحو فهم الرأسمالية.
يضرب تشانج المثال الأول ببلاده كوريا الجنوبية، والتي روّجت مدرسة الاقتصاد النيو ليبرالي أن السر وراء المعجزة التنموية الكورية عائد إلى اتباع كوريا إملاءات التجارة الحرة، وهو ما روّج في بلادنا من تحالف يسمّيه تشانج "الثالوث المدنس": صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية، حيث يحثّ ذلك الثالوث الدول النامية ويغويها من خلال القروض والمعونات، فينتهي بها الحال إلى تبني سياسات لا تفيد سوى الشركات العالمية، ويقيد طموح الإنتاج الوطني، الذي لن يستطيع المنافسة في أجواء مصنوعة في الأساس للبضائع والاستثمار الأجنبيين.
فكرة تخدم أغراضها جيشاً من المنظرين وبعض الأكاديميين المدربين الذين يعرفون حدود اقتصاديات السوق الحرة، ويتغاضون عن مخاطرها، ويشكلون، وفق تعبير الكاتب محمد المخزنجي في تعليقه على كتاب السامريين الأشرار: "آلة دعاية وتأثير قويين في الدول النامية، مدعومون بالمال والنفوذ العابر للأقطار، وقد أرادت هذه المؤسسات أن تقنع العالم بأن تحقيق كوريا لمعجزتها الاقتصادية في الستينيات والثمانينيات راجع لتبنيها استراتيجية التنمية الاقتصادية النيوليبرالية، ولم يكُن ذلك دقيقاً ولا حقيقيّاً".
لم تتبع كوريا الجنوبية وصفات السوق الحر، بل مزيجاً من احترام قواعد السوق مع حماية الصناعة الوطنية وتدخّل الدولة في عديد من المراحل، والتصحيح من خلال التدخّل السياسي، وهو شيء أقرب لنظرية كينز الاقتصادية التي سأعرضها بتبسيط مخل، وماينارد كينز هو اقتصادي بريطاني، يكاد أن يكون الاسم الثاني في الأهمية بعد آدم سميث، ونظرته تقف في المنتصف ما بين فكرة الاقتصاد الحر المفتوح أو اليد الخفية للسوق التي تنظم نفسها بنفسها دون تدخّل الدولة، وبين النظريات الاقتصادية الماركسية التي ترى أن الحل هو في تدخل كامل من الدولة وسيطرة تامة على السوق وموارد الإنتاج.
يرى كينز أن الاقتصاد أغلبه قائم على العامل النفسي والثقة بين الموردين والعملاء، عندما تهتز تلك الثقة، يتعرّض الاقتصاد للانهيار، وكي يصحح السوق نفسه بنفسه، ويعود إلى طبيعته وفق قانون اليد الخفية، ستكون تلك عملية بطيئة جداً، أو بحسب تعبيره: "سنموت جميعاً قبل أن يحدث ذلك التصحيح"، وكان اقتراح كينز الذي استفاد منه أول من استفاد الرئيس الأمريكي روزفلت، في أزمة الكساد الكبير التي ضربت الاقتصاد الأمريكي والعالمي في عام 1929، هو أن تتدخّل الحكومات في أوقات الأزمات الاقتصادية، وأن تزيد الإنفاق إلى أن يرجع السوق لطبيعته، فعندما يهتزّ الاقتصاد يدخل السوق في الدورة التالية: تقليل الإنفاق الذي يؤدي إلى انخفاض الاستهلاك وهو ما يعقبه خفض الإنتاج، أي تسريح العمالة وازدياد البطالة، التي بدورها تؤدي إلى خفض الاستهلاك بشكل أكبر، فيدخل السوق في الدورة نفسها، لكن بشكل متفاقم حتى يصل الاقتصاد إلى حالة من الشلل التام.
هنا على الدولة بحسب كينز التدخل بحماية قطاعات الصناعة الوطنية، ومشاريع البنية التحتية لتوفير فرص عمل كي تصحّح من دورة السوق، حتى ولو وصل الأمر إلى أن تهد أحد المباني لإعادة بنائه، ذلك بتبسيط مخلّ بالطبع، ولا ينطبق على ما تفعله مصر الآن من مشاريع بنية تحتية كبيرة، إذ لا يستفيد منها المصريون نتيجة احتكار الجيش لقطاعات الصناعة والزراعة.
الذي فعلته كوريا لتنهض ابتدأ بقرار مدروس لرعاية صناعات جديدة محدّدة اختارتها الحكومة بالتشاور مع القطاع الخاص، تحت حماية جمركية ودعم مالي وخدمات إعلامية وتسويقية في العالم الخارجي من خلال الهيئة الحكومية للتصدير، وكانت الحكومة تمتلك البنوك جميعها، فكان بوسعها تقديم القروض الائتمانية للمشاريع الإنتاجية، كما كانت تقوم بمشاريع كبرى من خلال شركات مملوكة للدولة، كعملاق الصلب الكوري "بوسكو"، وكانت تتبنى موقفا عملياً براجماتياً لا أيديولوجياً من الملكية الحكومية، فلو أحسنت المشاريع الخاصة تؤيدها وتدعمها، وإذا لم تستثمر في مجالات مهمّة تؤسس هي شركات مملوكة للدولة، وإذا ساءت بعض المشاريع الخاصة تعيد هيكلتها.
المعجزة الاقتصادية الكورية نتيجة مسار براجماتي يراعي المصلحة الوطنية، ويمزج ما بين محفّزات السوق وتوجيه الدولة. فالحكومة الكورية لم تقهر حرية السوق كما فعلت الدول الشيوعية، لكنها أيضاً لم تكن تؤمن إيماناً أعمى بالسوق الحرة، مدركة أن الأسواق تحتاج دائماً إلى تصحيح سياسي، فالمعجزة الكورية واقعياً تحققت ليس بالسياسات الاقتصادية النيوليبرالية التي تدعو إليها الدول الغنية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، بل دعمت وحمت إنتاجها الوطني من الاستثمار الأجنبي الذي قيّدته حتى وصلت منتجاتها إلى مرحلة قادرة على التنافس، فسمحت بحرية السوق.
وهذا ما فعلته الدول التي صارت ثرية اليوم حتى تصل إلى ما وصلت إليه، وعلى رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا، فقد استخدمت سلم الحماية لتصل إلى القمة، ثم ركلت هذا السلم حتى لا يستخدمه منافسون جدد، مطلوب أن يظلوا في الأسفل مكبلين بسياسات السوق الحرة وشروط المؤسسات الدولية المُقرضة.
المعجزة الاقتصادية الكورية نتيجة مسار براجماتي يراعي المصلحة الوطنية، ويمزج ما بين محفّزات السوق وتوجيه الدولة. فالحكومة الكورية لم تقهر حرية السوق كما فعلت الدول الشيوعية، لكنها أيضاً لم تكن تؤمن إيماناً أعمى بالسوق الحرة
ولعل ما حدث في أزمة الكساد الكبير، عام 1929، في أمريكا يشرح الوضع.
عاشت أمريكا عشر سنوات من الازدهار غير المسبوق، لكن القائم على بنيان اقتصادي هش ومضاربات في بورصة وول ستريت، والتي بلغت فيها الأسهم مستويات مجنونة لا تعبر عن القيم الحقيقية للشركات، فحدث الانهيار الذي وصل بأمريكا إلى حد المجاعة، حيث فقد أكثر من 30 مليون مواطن أمريكي مصدر دخلهم، وانهار النظام المصرفي وأغلقت البنوك، وعاش أكثر من 2 مليون مواطن أمريكي في مدن خيام للمشردين، حتى جاء روزفلت بإجراءات اتهمت من حلفائه قبل أعدائه، أنها إجراءات اشتراكية لا تتفق مع المبادئ الرأسمالية الأمريكية، كإقامة إدارة الأشغال العامة التي وظفت ملايين الأمريكان في مشاريع البنية التحتية، كبناء الجسور والمدارس والطرق وتنظيم حق الإضرابات العمالية وضمان أجور العمال، وبرامج تضمن الرعاية الصحية الأساسية للفقراء، وتدخّلت الدولة بشكل مباشر في عمل البنوك وقرارات حماية الصناعات والمنتجات الزراعية الوطنية، وغيرها من القرارات التي لا يتسع لها المقال.
ما زال ما فعله روزفلت إلى اليوم محل جدل في أمريكا، حيث يصفه البعض بأنها مجرد سياسات طوارئ، بينما يرى البعض أنه لولا تلك السياسات التي من الجائز أن توصف بأنها اشتراكية لما كانت أمريكا قد عرفت فترة طويلة من الرخاء والثروة لم يسبق لها مثيل في البشرية، وليس مجرد رخاء كاذب لمدة 10 أعوام، قائماً في الأساس على اقتصاد هش، وانهار عندما واجه حقيقة هشاشته.
*****
المخيب للآمال في مسألة المقاطعة التي عرّفتنا بالكثير من المنتجات المصرية، أن القرار السياسي قد لا يملك الإرادة للتحرّر من أوهام السوق، وقد يكون هو أول عقبة في عدم حماية تلك المنتجات، وتركها فريسة للشركات العالمية، التي ستنفذ خياراً من اثنين طالما غابت الحماية، سحق تلك المنتجات أو شراء الشركات التي ستحقق نجاحاً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...