لا شيء يختلف ظاهرياً في بيوت العزاء هذه عن مشهد العزاء التقليدي في الأردن وبلاد الشام، رجال يستقبلون المعزيين بالقهوة السادة، نساء يمسكن أجزاء المصحف ويقرأنها لوهب الآيات لروح الميت، أدعية طويلة مع "آمين" جماعية، وصوت عبد الباسط عبد الصمد أو الشيخ مصطفى اسماعيل في الخلفية يرتل "يا أيتها النفس المطمئنة".
ما يختلف فعلاً هو أن بيوت العزاء هذه تقام لشهداء غزة خارج غزة، ومن أقرباء وغرباء على السواء.
ليست كل بيوت العزاء المفتوحة هي للعائلات الغزاوية الممتدة عبر النهر، فكثير من العشائر الأردنية فتحت خيماً للعزاء، وكذلك تواظب كل المدن في الأردن على أداء صلاة الغائب في المساجد بعد كل جمعة عن أرواح الشهداء في غزة. أيضاً هناك خيم العزاء الضخمة في مخيمات اللاجئين، وتحديداً في مخيم غزة شمال المملكة والذي تربط الكثير من أهله علاقات قربى وثيقة بمن هم في القطاع.
رصيف22 زار بعض هذه البيوت، وكان هذا التقرير.
بيت عزاء لكل شهيد
استشهد الكثير من أقارب والدة رؤى فرحان في الحرب الأخيرة وهم من عائلة "أبو دقة"، عن هذه الكارثة تقول لرصيف22: "منذ بداية الحرب، وكلما كنا نتلقى خبر استشهاد أحد أقاربنا كانت العائلة تقيم عزاء لمدة يوم واحد، لكن بعد أن اشتدت وتيرة الحرب وكثر الشهداء، استبدلنا فكرة العزاء بفكرة التبرع والزكاة".
كثير من العشائر الأردنية فتحت خيماً للعزاء، وهناك خيم العزاء الضخمة في مخيمات اللاجئين، وتحديداً في مخيم غزة في شمال المملكة والذي تربط الكثير من أهله علاقات قربى وثيقة بمن في القطاع
وتضيف: "بصراحة، في هذه الأوضاع الموجعة حتى الحزن على الشهيد يتم تأجيله، لهذا أجلنا أي تعبير حقيقي عن حزننا على شهداء عائلتنا إلى حين انتهاء الحرب، ونكتفي بأداء صلاة الغائب عن أرواحهم، فالناس في الحزن مذاهب".
وتروي رؤى تجربتها وعائلتها خلال اليومين اللذين انقطعت خلالهما خطوط الإنترنت والاتصال عن غزة، تقول: "مع انقطاع الاتصال شعرنا أن أقاربنا في غزة انقطعت حياتهم، وأذكر عند عودة الشبكة، عاد الأمل فور استقبالنا رسالة على جروب العائلة على واتساب من عمتي التي تقطن في غزة، كانت رسالة مقتضبة وقصيرة من كلمتين، كتبت فيها (أنا عايشة) فقط".
أحزن بالنيابة عن نساء غزة
تواصلنا مع الستينية الأردنية مها الطيرواي التي تسكن العاصمة عمّان، وخصّصت في منزلها أياماً ثابتة في الأسبوع للراغبين بتقديم واجب العزاء في شهداء غزة.
ليس لدى الطيراوي أي أقارب في القطاع، وبيت العزاء الذي تستقبل به المعزين هو لكل شهداء غزة، تقول: "اليوم كل الأردنيين غزاويين".
مها: "أفتح بيتي للعزاء بالنيابة عن النساء اللواتي لم يستطعن ذلك عن أحبّتهن بسبب ظروف الحرب".
وتبرر هذه الخطوة بأنها "تقلل من حدة الشعور بعجزها عن التضامن مع النساء الغزيات اللواتي فقدن أزواجهن أو أبنائهن في الحرب، والمحرومات بسبب ظروفها من تلقي التعزية على أرواح من فقدن من أحبتهن".
تضيف: "أعلم أن كثيراً من الغزاويات لا يقبلن التعزية بشهدائهن، لكنني أعلم أيضاً بأنهن بحاجة لتخصيص ولو يوماً واحداً فقط للبكاء".
صلاة الغائب في مدن الأردن
عمر النسور شاب أردني عشريني، يواظب منذ أول جمعة بعد "طوفان الأقصى"، على الاستيقاظ مبكراً والخروج من منزله في مدينة السلط، باتجاه العاصمة عمّان، وتحديداً إلى المسجد الحسيني الكائن في منطقة وسط البلد، للمشاركة في أداء صلاة الغائب جماعة عن أرواح شهداء غزة.
يقول: "مثلي مثل غيري من الأردنيين، نشعر أننا غزاويون منذ بدء الحرب الشرسة على القطاع، ومثلي مثل غيري عاجز عن عن التضامن الحقيقي مع أهل غزة، لذا أخفف ثقل العجز الذي يتملكني من خلال مشاركتي في صلوات الغائب عن أرواح الشهداء، أشعر في تلك اللحظة أنني أسد مكان جريح من غزة فقد أحد من أسرته في الحرب وغير قادر على الصلاة عن أرواحهم، وهذا أضعف الإيمان".
لم آخذ عزاء عائلتي بعد
"لا لم أفتح بيت عزاء، ولم أؤد صلاة الغائب، أنا وصلت مرحلة التخدير"، هذا ما جاء على لسان الثلاثينية شيرين زقوت، ابنة غزة التي تعيش في الأردن مع أبنائها منذ العام 2016، كانت هذه كلماتها لتحاول تقريب الحالة النفسية التي تعيشها منذ سماعها لخبر استشهاد بعض أبناء من عمومتها، ومن جهة أخرى تحفزها لسماع أي خبر يتعلق بأفراد أسرتها الذين ما يزالون في غزة.
عمر النسور: "أصلّي الغائب في كل جمعة عن الشهداء، أشعر في تلك اللحظة أنني أسد مكان جريح من غزة فقد أفراد أسرته في الحرب وغير قادر على الصلاة عن أرواحهم، وهذا أضعف الإيمان"
تقول: "صديقاتي ينصحنني بأن أهيّىء نفسي لأي شيء، لكن هذا أمر أرفض حتى أن أتخيله".
وتضيف: "عندما أتصل بشقيقاتي في غزة، يبلغنني أنهن يتمنين الموت، ليس حباً في الموت، فنحن عائلة تحب الحياة، لكننا فقدنا الأمل، أشفق على أهلي الذين ينتظرون الموت، وغير القادرين على الحزن على أقاربنا الشهداء، بالتالي وكغيري من أهل غزة سأؤجل حزني على أقاربي الشهداء حتى إشعار آخر، وحتى أطمئن على حياة أسرتي".
التخدير أو البلادة التي تصفها شيرين قد تكون خط الدفاع الأخير قبيل الانهيار التي تعيشه في خوف متواصل من أن تسمع خبراً سيئاً عن أهلها، تقول: "كل شيء يذبحني نفسياً، مثل عندما أسمع أختي وهي تقول لي بطلنا نحلم ببكرا، حلمنا صار بس لليوم إذا كنا حنعيش لكمان ساعة؟ أو عندما أسمع جملة: لساتنا عايشين يا شيرين".
وعن أقسى ما سمعته تقول: "عندما قال لي والدي ما تزعلي بابا إذا استشهدنا، على الأقل عنا إنت حتى تدعيلنا، ليس مثل عائلات كاملة شطبت كلها من السجل المدني في غزة"
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...