حاول أن تفكر معي كم تجربة شخصية ترتبط في ذهنك بأغنية ما تميّزها؟ تخيل الطريقة التي يربط ذهنك بها أماكن أو عادات معينة بالأغاني ليعيد ترديدها كلما استعدت هذه التجارب أو الذكريات. حتى أنه أحياناً يربط العقل تلك الأحداث المختلفة بمجموعة أغاني عمداً حتى يسهل تذكّرها، وفق دراسة أجرتها كيلي جاكوبوفسكي، الباحثة الموسيقية بجامعة دورهام، لذلك يمكن للموسيقى والغناء أن يشكلا جوهر الذاكرة البشرية بشكل أو بآخر، والحديث عنهما ليس موسيقياً تماماً، أو فنياً عموماً بل أكثر تجاوزاً، الموسيقى كانت وربما لا تزال الشيء الأكثر سحراً والتصاقاً بتاريخ البشر، وهو ما يجعل حديثنا هنا عن السينما الغنائية يحتاج إلى كثير من الاهتمام وإعادة التفكير فيما يمثل هذا الفن لكل إنسان سواء بوعي أو دون وعي.
قبل شهر خرجت النسخة الجديدة من دورة مهرجان الإسكندرية لدول البحر المتوسط للسينما، استبقها الناقد زين خيري بإجراء استفتاء شارك فيه عدد من النقاد المصريين لاختيار "أفضل مئة فيلم غنائي في السينما المصرية"، كان هناك بعض الجدل الخفي بين عدد من النقاد على التصنيفات والأفلام والسياق العام للاستفتاء وعلى تعريف الفيلم الغنائي عموماً.
فيلم "يوميات سكر... صاحب الظل الطويل" الذي رُوِّج باسم "سكر" يقدّم في إطار موسيقيّ وعائلي، تقع الأحداث داخل ملجأ للأيتام، حول فتاة صغيرة تُدعى سكّر تعيش رفقة مجموعة كبيرة من الأطفال. وتدير الملجأ سيدة غليظة وتابع لها ذو نوايا سيئة
وبعد أيام قليلة من المهرجان، استقبلت عُرض فيلم "سكر" المأخوذ عن رواية Daddy long legs المترجمة إلى العربية باسم "صاحب الظل الطويل" والتي قدمت في أعمال مسرحية ناجحة منها مسرحية وفيلم غنائي حملا الاسم نفسه.
من خلال هذا الفيلم الاستعراضي الغنائي - كما يقدم نفسه- يمكننا البحث عن إجابة لسلسلة من الأسئلة المتراكبة: ما هي السينما الغنائية؟ ولماذا يحتاج إليها الجمهور؟ وما الذي نفتقده بعدم وجود أفلام مثل "سكر"؟
فيلم "يوميات سكر... صاحب الظل الطويل" الذي رُوِّج باسم "سكر" يقدّم في إطار موسيقيّ وعائلي، تقع الأحداث داخل ملجأ للأيتام، حول فتاة صغيرة تُدعى سكّر تعيش رفقة مجموعة كبيرة من الأطفال. تدير الملجأ سيدة غليظة وتابع لها ذو نوايا سيئة، سيناريو وحوار هبة مشاري وإخراج تامر مهدي، ويحكي الفيلم كما الرواية قصة الفتاة اليتيمة التي تعيش في ملجأ ويتبناها شخص لم تر سوى ظله وتظل تتواصل معه بالرسائل.
كيف بدأنا ولم توقفنا؟
في كتابه "الفيلم الغنائي في السينما المصرية" يعرف الناقد محمود قاسم الفيلم الغنائي بأنه الذي يتضمن أغنيات أياً كان الشكل الذي قُدّمت فيه الأغنية سواء كانت فردية، أو في إطار دويتو (غناء ثنائي) أو استعراضات متباينة الضخامة، ولا بد أن يكون هذا الفيلم ناطقاً في المقام الأول، ثم لا بد أن تصاحب الأغنيات موسيقى". بينما يضع الموسيقي فيكتور سحاب شروطاً مختلفة في كتابه "أضواء على السينما الغنائية العربية"، إذ قال: "لا بد أن يحتوي الفيلم على ما لا يقل عن أربع إلى خمس أغنيات كما على الأغاني أن ينتجها مؤلفين محترفين"، حتى تدرك مدى الفارق بين التصنيفين. واعتبر أنه لا يوجد سوى أربعين فيلماً غنائياً فقط في السينما المصرية منذ نشأتها؛ بينما اعتبر قاسم وجود أكثر من ضعف هذا العدد وفقاً لاختلاف التعريفات.
يرى زين خيري أن السينما المصرية كان لها تاريخ شخصي مع الفيلم الموسيقي، جاء من تركيبتها الشخصية والسبب في ذلك أن السينما الغنائية المصرية كانت وريثة سنوات طويلة من المسرح الغنائي والأوبريتات واستعراضات التياتروهات الراقصة
إذن لدينا منذ زمن بعيد سجال كبير يبدأ من تعريف الفيلم الغنائي أساساً. لم يتفق الجميع على نمط ما يميّزه سوى أن الفيلم الغنائي هو النوع الذي ترتبط فيه الأغاني التي تغنيها الشخصيات بخط القصة، بحيث تُستخدم الأغاني لتطوير الحبكة أو تطوير شخصيات الفيلم".
في الموسوعة الضخمة لـ"تاريخ السينما العالمية" التي أشرف عليها جيوفري سميث وترجمها هشام النحاس، جاء ضمن فصول "المجلد الأول" خاطرة سريعة تقول بأن الموسيقى عنصر فني مهم في ذروة عصر الميلودراما الشعبية وعروض الغناء. فالسينما كان عليها منذ البداية أن تستخدم أنماطاً متنوعة من الموسيقى، وحتى في فترة السينما الصامتة، لذلك ظهرت معالجات سينمائية للأوبرات الشهيرة في أفلام كان يتم توزيعها وعرضها مع موسيقى معدة خصيصاً للفيلم، هذا التنوع الموسيقي احتاجته السينما دائماً لأنه ملائم لاختلاف أدوات السرد التي تساعد على حكاية القصص بشكل مختلف ومرغوب.
قال الناقد سمير فريد أن "السينما المصرية نطقت لكي تغني"، فإن أول ثلاثة أفلام مصرية ناطقة (أنشودة الفؤاد/ أولاد الذوات/ الضحايا) كان الغناء عنصراً مهما فيها، سواء كان المغنون من أبطال الفيلم أو من خارجه كأصوات فقط شاركت بالغناء
في السياق ذاته يقر الكتاب أن السينما المصرية تحديداً أنتجت "الفيلم الموسيقي الخاص بها". يتقاطع ذلك ما يراه زين خيري وهو أن السينما المصرية كان لها تاريخ شخصي مع الفيلم الموسيقي، جاء من تركيبتها الشخصية "والسبب في ذلك أن السينما الغنائية المصرية كانت وريثة سنوات طويلة من المسرح الغنائي والأوبريتات واستعراضات التياتروهات الراقصة، وبالتالي عملت السينما المصرية في البداية على نسخ تلك الاستعراضات والمسرحيات الغنائية بشكل ما".
حتى إذا كانت هناك جدالات مستمرة حول تعريف الفيلم الغنائي فإننا أمام حقيقة يقرها القديم والحديث تقول إن الفيلم الغنائي المصري له خصوصية واضحة، جاءت من تاريخ طويل للغناء والاستعراض الذي سبق وجود السينما واستغلته السينما المصرية فيما بعد حتى أن الناقد سمير فريد قال: "السينما المصرية نطقت لكي تغني"، فإن أول ثلاثة أفلام مصرية ناطقة (أنشودة الفؤاد/ أولاد الذوات/ الضحايا) كان الغناء عنصراً مهما فيها، سواء كان المغنون من أبطال الفيلم أو من خارجه كأصوات فقط شاركت بالغناء. والأفلام الثلاثة جاء بعدها مباشرة فيلم "الوردة البيضاء" وهو يعتبر البداية الحقيقية للسينما الغنائية المصرية، وقد رسّخ ريادة الموسيقي محمد عبد الوهاب لهذا النوع.
ثمة ريادة للفيلم الغنائي باختلاف معايير الاختيار الغربية والعربية يمكن أن تجد مكانها أثناء الحديث عن فيلم "أنشودة الفؤاد"، الذي يمثل - ربما- أول فيلم موسيقي مصري بالمعنى العام لهذا التصنيف، وتأكد ذلك في صناعة "الوردة البيضاء".
كانت أم كلثوم رائدة فيما يخص تقديم نموذج الفيلم الغنائي، قدمت سبعة أفلام في تاريخها ثم ابتعدت من دون إبداء أسباب واضحة، واكتفت بحفلات المسرح والأغنيات الطويلة، استغل موسيقيون غيرها ما قدمته من أجل الوصول إلى عدد أكبر من الجمهور، ما يمكن أن نعتبره نقطة ذكاء وتحوّل في هذا التوظيف السينمائي الغنائي. ومن تلك البداية حتى الفيلم الأخير الذي يعرض في الصالات الآن "سكر"، يبدو أن السينما المصرية عاشت بداياتها وريادتها من خلال الفيلم الغنائي بشكل خاص، وعلينا إدراك ذلك في وقت لم يعد هناك رواد حقيقيون لهذا النوع، فقط تجارب مبتسرة لمطربين ونجوم لا تمثل أعمالهم مشروعات حقيقية وكبيرة.
للمخرج تامر مهدي تركيبة خاصة يمكنك أن تفهمها لو كنت تتابع عالم الإعلانات التي ترك خلاله بصمة استعراضية كبيرة، ستظهر في الفيلم بالطبع، ثم في اختياراته لطاقم عمل الفيلم الذي كان أغلبه ممثلين في ظهورهم الجديد
أسباب كثيرة جعلت هذا النوع يكاد يتوقف، على رأس تلك الأسباب تكاليفها الكبيرة واحتياجات الفيلم الاستعراضي والغنائي التي لم يعد يحتملها كثيرٌ من المنتجين، لكن هذا النوع من الأفلام يظل مهماً ومرغوباً من المشاهدين "خصوصاً في الحالة المصرية" كما يقول المخرج تامر مهدي، الذي قدم فيلمه الطويل الأول "سكر" في حوار مع رصيف22: "المصريون أولى بصناعة الفيلم الغنائي".
سنوات في انتظار الفرصة
لا يكتمل الحديث عن فيلم "سكر" من دون الحديث عن مخرجه ومعه، لمهدي تركيبة خاصة يمكنك أن تفهمها لو كنت تتابع عالم الإعلانات التي ترك خلاله بصمة استعراضية كبيرة، ستظهر في الفيلم بالطبع، ثم في اختياراته لطاقم عمل الفيلم الذي كان أغلبه ممثلين في ظهورهم الجديد، يقول إنه بالصدفة كانوا جميعاً أول اختيار له، وجوهر تركيبته يظهر في تجربته الشخصية التي بدأت قبل سنوات بعيدة كان يعمل فيها في إنتاج الموسيقى منذ دخوله للجامعة ثم عمله في المسرح.
كلما حاولت الضغط على مهدي في حواري معه كي يعطيني مفتاحاً واضحاً لحبه للموسيقى الذي سبق عمله في الإعلانات ثم السينما، يكتفي بأن يقول إنه يرى الأغنيات صوراً، كل أغنية يسمعها يراها في شكل بصري متخيل. سنوات طويلة عمل فيها مهدي على صناعة أعمال فنية قصيرة حاول من خلالها التدرب على صناعة صورة من واقع أغنيات متعددة.
يدرك مهدي جيداً التاريخ الطويل للسينما الغنائية في مصر، قدم فيلمه الأول "ظل راجل"، وعمل قبله مخرجاً مسرحياً، لكن لم يستوعبه سوى الإعلانات التي قدم من خلالها عالم الغناء والاستعراضات بشكل مستمر وأكثر رحابة وحرية. سنوات طويلة تردد خلالها في تقديم فيلمه الطويل الأول. لهذا السبب جاء مشروع نسخة ممصرة من فيلم أجنبي daddy longs legs، عن رواية الكاتب الأمريكي جين ويستر ليقدمه في قصة عربية من إنتاج شاهد.
يقول مهدي لرصيف22 إن هذه المشروعات التي تمثل هوسه، أي الأفلام الغنائية، هي مشروعات "جبانة" بلغة السينما، لا يستمر فيها المنتجون طويلاً بسبب تكاليفها الكثيرة، حتى أن هذا المشروع الجاد "سكر" الذي توفرت له كل العوامل اضطر أن يقبل العمل عليه سريعاً قبل تأجيله.
اختار مخرج الفيلم تامر مهدي أن يكون الفيلم باللغة العربية الفصحى التي ربما نساها هذا الجيل، وعلى الرغم من ملاحظة أخطاء في النطق لبعض الشخصيات، فإنه يبرر ذلك بأنهم أرادوا أن تكون "فصحى بسيطة يفهمها الجميع"
يعمل مهدي كمخرج إعلانات، يعرفه غالبية الصنّاع. أثناء الحوار حاولت مواجهته على استحياء بملاحظة تقال عنه دائماً ربما دون أن يدري بأن "إعلاناته مكلفة جداً على الإنتاج، دائماً يصنع ديكوراً ضخم اًجداً وسينمائياً" لعمل مشهد في إعلان لا يأخذ سوى ثوان على الشاشة، لم يكذّب الرجل ذلك، بل برر الأمر بأن ذلك جزء جوهري من عمله في الإعلانات بدلاً من السينما التي يحبها أيضاً: "تحدّ هو سرد قصة في دقيقة أو أقل، بمعايير أقل" تسمح له بإنتاج الاستعراضات الغنائية المصاحبة بأكبر قدر ممكن من الحرية رغم صعوبتها.
في الفيلم ستجد تلك التأثيرات ظاهرة بالفعل، ديكورات فخمة وهوليودية، استعراض في كل أغنية، حتى تنميط الشخصيات بين الأشرار والطيبين، لا يشغله سوى سرد قصة بسيطة صالحة يفهمها الجميع، حتى أني عند مشاهدة الفيلم للمرة الأولى منذ زمن لم يكن معي في السينما سوى أطفال مدرسة في مدينة الشيخ زايد، وقد قررت المدرسة أن يشاهد الأولاد هذا الفيلم العربي الغنائي الممتع.
النقطة الأكثر قوة في الفيلم هي اختيار خروجه بالعربية الفصحى. يخبرني مهدي أنهم كانوا يريدون عمل فيلم عربي للأطفال يتحدث بالعربية الفحصى التي ربما نساها هذا الجيل، وعلى الرغم من ملاحظة أخطاء في النطق لبعض الشخصيات، فإنه يبرر ذلك بأنهم أرادوا أن تكون "فصحى بسيطة يفهمها الجميع، ما جعلهم يتنازلون نسبياً عن التدقيق الزائد عن الحد وراء الأطفال الصغار، وأحياناً كسر الفصحى بعامية عن طريق البطل المحوري في القصة بلاليكا (محمد ثروت) الحصان الرابح في الفيلم عموماً.
بينما نقطة الضعف الوحيدة في الفيلم هي أن الصناع قرروا أن يأخذ شكل السلسلة بعد انتهاء تصويره، وبعد أن جاءت مدته ثلاث ساعات، حتى لا يمل منه الأطفال؛ جمهوره المباشر، فخرج الجزء الأول من دون أن يغلق مسارات القصص المختلفة التي حاول أن يفتحها معاً، وربما لن يفهم مشاهد الفيلم تماماً إلّا بمشاهدة الجزء الثاني. يقول مهدي إنه ربما يظهر في موسم العيد القادم 2024.
فيلم "سكر" يمكن الحكم عليه إجمالاً كفيلم استعراضي ممتع، سكتشات بصرية غنائية لن يمل منها الكبير والصغير، حالمة، أغنيات رقيقة وموزّعة بذكاء، مونتاج مذهل تعاون خلاله المخرج مع صديق عمره أحمد حافظ، سيظل مرتبطاً في ذهني بأغنياته الساحرة.
هو فيلم يؤكد على فرادة هذا اللون السينمائي المُهمَل، يجعلنا نحزن على عدم وجوده باستمرار، صنعه مخرج جدير بالعمل على هذا اللون على الرغم من أنه فيلمه الأول، إذ لديه خبرة من خلال تقديم الإعلانات الاستعراضية ما يجعلنا نستنكر سؤال لماذا نصنع أفلاماً غنائية؟ ونستاء فعلاً: لماذا لا نصنع أفلاماً غنائية؟
الفيلم وجد طريقه إلى دور العرض في لحظة قاسية، فيلم يغني فيه الأطفال ويرقصون في لحظة يُقصف فيها الأطفال ويُقتلون، ووصل ضحايا آلة القتل الإسرائيلية من الأطفال في قطاع غزة 3000 بحسب إحصاءات وزارة الصحة الفلسطينية، هذا إلى جانب مئات الأطفال الذين لا تزال جثامينهم تحت الأنقاض وآلاف آخرون فقدوا أطرافهم أو تعرضوا لحروق جسيمة نتيجة استخدام قوات الاحتلال الإسرائيلية لأسلحة محرمة دولية تطلقها على مدنيي غزة المحاصرة بلا تمييز.
في ظروف أخرى ربما شاهد أطفال غزة هذا الفيلم، ربما غنوا ورقصوا مع غيرهم من الأطفال في بلدان العرب، لكن للعالم رأياً آخر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ يومحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 5 أيامtester.whitebeard@gmail.com