شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
رسالة مريم من غزة...

رسالة مريم من غزة... "في حارتنا عميل"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والمشرّدون

الأربعاء 25 أكتوبر 202304:22 م

رسالة مريم من غزة... "في حارتنا عميل"

استمع-ـي إلى المقال هنا

تبدلت مشاعري وأولوياتي بعدما عايشت حروباً ثلاثاً في غزة، في فترات عمرية مختلفة، ففي الحرب الأولى كان الخوف، الخوف من كل شيء وكأنها القيامة.

وفي الحرب الثانية اعتدت قليلاً على تسلسل المأساة، بدءاً القلق، إلى الفقدان الذي يأكل قلبي، فالخذلان، فالتدخل العالمي بعد أسابيع من أقسى ما يمكن أن يعيشه إنسان. 

أما في الحرب الثالثة فقد تملكني النضج، أو فقدان الشعور، قد لا يختلفان، كل ما أتخيله هو صورة الرحيل، بعد كل يوم يمر بين عمل محدود وروتين عائلة تحت القصف، أركن إلى زاويتي أتحسس أطرافي وأتخيل جثتي وتوقيت المشهد.

لا أشارك في الجنازات

لم أصور أية جنازة، فلم يكن هناك متسع لهذه الرفاهية للأجساد الراحلة، كان أكثر ما أكره برودة الثلاجات، وقد ألمحت حينها على صفحتي في فيسبوك بألا يضعوني فيها كوصية للأحياء وقتها، ولم أحدد من سيرافقني، إذ أجد في هذه الوصية شيئاً من الديكتاتورية، من أنا لأحدد من سيقتل معي دون سؤاله. 

كل من حولي أمهات لدى صغارهن دفاتر من الرسم وحقائب متكدسة بالكتب والأقلام والواجبات غير المكتملة.

ربما لأن من حولي كلهن أمهات ولدى صغارهن دفاتر من الرسم وحقائب متكدسة بالكتب والأقلام والواجبات غير المكتملة يردن تحقيقها، بعضهن ينتظرن الحصول على خبز تسد جوعهم وتسكن برودتهن قبل أن تستأنف "حفلة القصف الليلي" كما نسميها في غزة.

مرطبان الجبنة الأخير

على سيرة الأكل، أذكر جيداً حين استسلمت أمي في الحرب السابقة، وقررت فتح مرطبانات الجبنة واللبنة التي كانت قد أعّدتها لشهر رمضان، بعدما نفذت كل أصناف الطعام باستثناء بعض الطحين، ولم تتمكن من الذهاب للسوق. 

أكثر ما أكرهه هو برودة الثلاجات، وقد ألمحت في وصيتي على فيسبوك بألا يضعوني فيها كوصية للأحياء وقتها. ولم أحدد من سيرافقني، إذ أجد في هذه الوصية شيئًا من الديكتاتورية، فمن أنا لأحدد من سيقتل معي دون سؤاله؟

جلست مع والدي أمام طبق من الجبنة والفلفل الأحمر، وبعد صمت عميق قلت له بسخرية: "يبدو أن في منطقتنا عميل لإسرائيل، وإلا فلماذا تغض الطرف عن حارتنا"، ضحك والدي وسألني وقتها: "كم من الوقت أخذ منك التفكير بهذا السؤال؟"، وكأنه يعرف خيال ابنته جيداً، لكنه أيضاً ربما دعا الله في سرّه "ليت العميل هنا" ليضمن سلامة بيته المكدس ببناته من النازحات الجميلات، ممن تركن كل ما يملكن وقررن انتظار النهاية حول الرحم الذي وهبهن الحياة، فهذا أكثر الأماكن أمنًا وسط عشوائية الموت.

الحرب من بعيد

في هذه الحرب الأخيرة، اختبرني الله بأصعب مما كنت أتخيله: وكأنه يقول لي، هل لا زلتِ بهذه القوة، وهل لا زالت صورة الموت أنيقة أمامك؟.

كيف أحافظ على ثباتي أمام طفليّ وأنا أجهزهما للدوام المدرسي بعد ليلة عصيبة قضاها أهلي في غزة؟ وهما يعيشان في مجتمع أجنبي لا يعنيه كل هذا الصخب.

في كل التجارب كان الخوف بريئاً خفيفاً،  فقد كنت في غزة، أما الآن، في هذه الحرب، فلا كلمات تصف هول ما أعيشه، وما أمر به.

كيف أحافظ على ثباتي أمام طفليّ وأنا أجهزهما للدوام المدرسي بعد ليلة عصيبة قضاها الأهل في غزة؟ وهما يعيشان في مجتمع أجنبي لا يعنيه كل هذا الصخب، بل يخاف أن يلمح صغاره صورة الدم أو أن يسمعوا صراخ ناج غطت وجهه بقايا دم ورائحة أمه؟ وكيف أواجه خوفي بأن بين ليل وضحاها ربما سأغدو وحيدة يتيمة في غربة موحشة قبل أن يلمس والدي وجه صغاري؟ ليقول لي من يشبهني منهما أكثر؟.  

يضيع نهار كل مغترب غزاوي، على التلفاز وتطبيق "زلو" المحلي ورنين المكالمات والبحث عن أصحاب البيوت التي قصفت، وأسماء الشهداء، أكثر ما يخيفنا بأن لا تصل رسائلنا ولا يستلمها أحد. وأكثر ما يوجعني أنني بعد أن كنت احفظ هذا البلد شبراً شبراً، اليوم أسأل عن الأماكن كالغريب، ويستفز هذا السؤال الأصدقاء هناك. فهم معذرون، ومعذورة أنا هذه المرة. 

جلست مع والدي أمام طبق الجبنة والفلفل الأحمر، وبعد صمت عميق قلت له بسخرية: "يبدو أن في منطقتنا عميل إسرائيلي، لهذا تغض الطرف عن حارتنا"، ضحك والدي وسألني وقتها: "كم من الوقت أخذ منك التفكير بهذا السؤال؟"

سلاماً لروح سلام وهبة وآية رفيقات الجامعة والمهنة اللواتي رحلن مبكراً، والمحادثات التي لم تنته بعد، سلاماً لكل حجر آوانا يوماً وسقط دون وداع، سلاماً لغزة ولمن تبقى فيها من أحباب ودمعات، سلاماً لأختي وهي تفر بجنينها وسط الأحياء بحثًا عن مكان يليق بولادته ولا تجد. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard
Popup Image