تبدلت مشاعري وأولوياتي بعدما عايشت حروباً ثلاثاً في غزة، في فترات عمرية مختلفة، ففي الحرب الأولى كان الخوف، الخوف من كل شيء وكأنها القيامة.
وفي الحرب الثانية اعتدت قليلاً على تسلسل المأساة، بدءاً القلق، إلى الفقدان الذي يأكل قلبي، فالخذلان، فالتدخل العالمي بعد أسابيع من أقسى ما يمكن أن يعيشه إنسان.
أما في الحرب الثالثة فقد تملكني النضج، أو فقدان الشعور، قد لا يختلفان، كل ما أتخيله هو صورة الرحيل، بعد كل يوم يمر بين عمل محدود وروتين عائلة تحت القصف، أركن إلى زاويتي أتحسس أطرافي وأتخيل جثتي وتوقيت المشهد.
لا أشارك في الجنازات
لم أصور أية جنازة، فلم يكن هناك متسع لهذه الرفاهية للأجساد الراحلة، كان أكثر ما أكره برودة الثلاجات، وقد ألمحت حينها على صفحتي في فيسبوك بألا يضعوني فيها كوصية للأحياء وقتها، ولم أحدد من سيرافقني، إذ أجد في هذه الوصية شيئاً من الديكتاتورية، من أنا لأحدد من سيقتل معي دون سؤاله.
كل من حولي أمهات لدى صغارهن دفاتر من الرسم وحقائب متكدسة بالكتب والأقلام والواجبات غير المكتملة.
ربما لأن من حولي كلهن أمهات ولدى صغارهن دفاتر من الرسم وحقائب متكدسة بالكتب والأقلام والواجبات غير المكتملة يردن تحقيقها، بعضهن ينتظرن الحصول على خبز تسد جوعهم وتسكن برودتهن قبل أن تستأنف "حفلة القصف الليلي" كما نسميها في غزة.
مرطبان الجبنة الأخير
على سيرة الأكل، أذكر جيداً حين استسلمت أمي في الحرب السابقة، وقررت فتح مرطبانات الجبنة واللبنة التي كانت قد أعّدتها لشهر رمضان، بعدما نفذت كل أصناف الطعام باستثناء بعض الطحين، ولم تتمكن من الذهاب للسوق.
أكثر ما أكرهه هو برودة الثلاجات، وقد ألمحت في وصيتي على فيسبوك بألا يضعوني فيها كوصية للأحياء وقتها. ولم أحدد من سيرافقني، إذ أجد في هذه الوصية شيئًا من الديكتاتورية، فمن أنا لأحدد من سيقتل معي دون سؤاله؟
جلست مع والدي أمام طبق من الجبنة والفلفل الأحمر، وبعد صمت عميق قلت له بسخرية: "يبدو أن في منطقتنا عميل لإسرائيل، وإلا فلماذا تغض الطرف عن حارتنا"، ضحك والدي وسألني وقتها: "كم من الوقت أخذ منك التفكير بهذا السؤال؟"، وكأنه يعرف خيال ابنته جيداً، لكنه أيضاً ربما دعا الله في سرّه "ليت العميل هنا" ليضمن سلامة بيته المكدس ببناته من النازحات الجميلات، ممن تركن كل ما يملكن وقررن انتظار النهاية حول الرحم الذي وهبهن الحياة، فهذا أكثر الأماكن أمنًا وسط عشوائية الموت.
الحرب من بعيد
في هذه الحرب الأخيرة، اختبرني الله بأصعب مما كنت أتخيله: وكأنه يقول لي، هل لا زلتِ بهذه القوة، وهل لا زالت صورة الموت أنيقة أمامك؟.
كيف أحافظ على ثباتي أمام طفليّ وأنا أجهزهما للدوام المدرسي بعد ليلة عصيبة قضاها أهلي في غزة؟ وهما يعيشان في مجتمع أجنبي لا يعنيه كل هذا الصخب.
في كل التجارب كان الخوف بريئاً خفيفاً، فقد كنت في غزة، أما الآن، في هذه الحرب، فلا كلمات تصف هول ما أعيشه، وما أمر به.
كيف أحافظ على ثباتي أمام طفليّ وأنا أجهزهما للدوام المدرسي بعد ليلة عصيبة قضاها الأهل في غزة؟ وهما يعيشان في مجتمع أجنبي لا يعنيه كل هذا الصخب، بل يخاف أن يلمح صغاره صورة الدم أو أن يسمعوا صراخ ناج غطت وجهه بقايا دم ورائحة أمه؟ وكيف أواجه خوفي بأن بين ليل وضحاها ربما سأغدو وحيدة يتيمة في غربة موحشة قبل أن يلمس والدي وجه صغاري؟ ليقول لي من يشبهني منهما أكثر؟.
يضيع نهار كل مغترب غزاوي، على التلفاز وتطبيق "زلو" المحلي ورنين المكالمات والبحث عن أصحاب البيوت التي قصفت، وأسماء الشهداء، أكثر ما يخيفنا بأن لا تصل رسائلنا ولا يستلمها أحد. وأكثر ما يوجعني أنني بعد أن كنت احفظ هذا البلد شبراً شبراً، اليوم أسأل عن الأماكن كالغريب، ويستفز هذا السؤال الأصدقاء هناك. فهم معذرون، ومعذورة أنا هذه المرة.
جلست مع والدي أمام طبق الجبنة والفلفل الأحمر، وبعد صمت عميق قلت له بسخرية: "يبدو أن في منطقتنا عميل إسرائيلي، لهذا تغض الطرف عن حارتنا"، ضحك والدي وسألني وقتها: "كم من الوقت أخذ منك التفكير بهذا السؤال؟"
سلاماً لروح سلام وهبة وآية رفيقات الجامعة والمهنة اللواتي رحلن مبكراً، والمحادثات التي لم تنته بعد، سلاماً لكل حجر آوانا يوماً وسقط دون وداع، سلاماً لغزة ولمن تبقى فيها من أحباب ودمعات، سلاماً لأختي وهي تفر بجنينها وسط الأحياء بحثًا عن مكان يليق بولادته ولا تجد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يوميناوجدتي أدلة كثيرة للدفاع عن الشر وتبيانه على انه الوجه الاخر للخير لكن أين الأدلة انه فطري؟ في المثل الاخير الذي أوردته مثلا تم اختزال الشخصيات ببضع معايير اجتماعية تربط عادة بالخير أو بالشر من دون الولوج في الأسباب الاجتماعية والاقتصادية والمستوى التعليمي والثقافي والخبرات الحياتية والأحداث المهمة المؤسسة للشخصيات المذكورة لذلك الحكم من خلال تلك المعايير سطحي ولا يبرهن النقطة الأساسية في المقال.
وبالنسبة ليهوذا هناك تناقض في الطرح. اذا كان شخصية في قصة خيالية فلماذا نأخذ تفصيل انتحاره كحقيقة. ربما كان ضحية وربما كان شريرا حتى العظم ولم ينتحر إنما جاء انتحاره لحثنا على نبذ الخيانة. لا ندري...
الفكرة المفضلة عندي من هذا المقال هي تعريف الخير كرفض للشر حتى لو تسنى للشخص فعل الشر من دون عقاب وسأزيد على ذلك، حتى لو كان فعل الشر هذا يصب في مصلحته.
Mazen Marraj -
منذ يومينمبدعة رهام ❤️بالتوفيق دائماً ?
Emad Abu Esamen -
منذ 3 أياملقد أبدعت يا رؤى فقد قرأت للتو نصاً يمثل حالة ابداع وصفي وتحليل موضوعي عميق , يلامس القلب برفق ممزوج بسلاسة في الطرح , و ربما يراه اخرون كل من زاويته و ربما كان احساسي بالنص مرتبط بكوني عشت تجربة زواج فاشل , برغم وجود حب يصعب وصفه كماً ونوعاً, بإختصار ...... ابدعت يا رؤى حد إذهالي
تامر شاهين -
منذ 4 أيامهذا الابحار الحذر في الذاكرة عميق وأكثر من نستالجيا خفيفة؟
هذه المشاهد غزيرة لكن لا تروي ولا تغلق الباب . ممتع وممتنع هذا النص لكن احتاج كقارئ ان اعرف من أنت واين أنت وهل هذه المشاهد مجاز فعلا؟ ام حصلت؟ او مختلطة؟
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياممن المعيب نشر هذه الماده التي استطاعت فيها زيزي تزوير عدد كبير من اقتباسات الكتاب والسخرية من الشرف ،
كان عيسى يذهب إلى أي عمل "شريف"،
"أن عيسى الذي حصل على ليسانس الحقوق بمساعدة أخيه"
وبذلك قلبت معلومات وردت واضحة بالكتاب ان الشقيق الاصغر هو الذي تكفل بمساعدة اهله ومساعدة اخيه الذي اسكنه معه في غرفه مستأجره في دمشق وتكفل بمساعد ته .
.يدل ذلك ان زيزي لم تقرأ الكتاب وجاءتها المقاله جاهزه لترسلها لكم
غباءا منها أو جهات دفعتها لذلك
واذا افترضنا انها قرأت الكتاب فعدم فهمها ال لا محدود جعلها تنساق وراء تأويلات اغرقتها في مستنقع الثقافة التي تربت عليها ثقافة التهم والتوقيع على الاعترافات المنزوعه بالقوة والتعذيب
وهذه بالتأكيد مسؤولية الناشر موقع (رصيف 22) الذي عودنا على مهنية مشهودة
Kinan Ali -
منذ 4 أيامجميل جدا... كمية التفاصيل مرعبة...