شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
عندما يترك الاستعمار آثاره على الثقافة والجندر في المنطقة العربية

عندما يترك الاستعمار آثاره على الثقافة والجندر في المنطقة العربية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والميم-عين

الثلاثاء 7 نوفمبر 202311:06 ص

تندرج هذه المقالة ضمن "طيف22"، وهو مشروع مخصص لالقاء الضوء على التنوعات والاختلافات الجنسانية والجندرية والجسدية في بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، يشارك فيه صحفيون وصحفيات، ناشطون وناشطات وأفراد من مجتمع الميم-عين أو داعمون لهم/نّ، ليكون مساحة للتعبير بحرية عن مختلف المواضيع المتعلقة بالتوجّهات الجنسية والجندرية والصحّة الجنسية، بغرض كسر التابو والحديث بموضوعية عن هذه المسائل الشائكة.

يقول عز الدين شكري فشير، وهو كاتب مصري وأكاديمي، في إحدى مقالاته: "إن ما نسميه الثقافة في أي مجتمع، وفي أي وقت، هي ببساطة لقطة آنية ضمن سلسلة لا نهائية من الصور المتغيرة بحسب تغيّر الصراع على السلطة والموارد والمعايير والأفكار والهويات". تطرح هذه العبارة عدداً من الأسئلة: هل لطبيعة الثقافة المتغيرة تأثير على تصوّر المنطقة العربية للجندر والجنسانية؟ وما أبعادها على تحديد القيم والمعايير في العالم العربي؟

التعريف الجنسي للذات

يقول موسى الشديدي، وهو مؤلف وباحث في الجنس والاستعمار والفن والتاريخ، لرصيف22: "الاستعمار هو لحظة إعادة صياغة تعريف المستعمَر لنفسه من قبل المستعمِر، وتأسيس لدول قومية حداثية مسلوخة عن تاريخها السابق لتلك اللحظة، في سبيل تحقيق أكبر ربح اقتصادي ممكن من تلك المستعمرات، والتعريف الجنسي للذات جزء من إعادة الصياغة تلك".

ويضيف: "فقد منهج الاستعمار الكراهية التي وُجدت قبله تجاه الممارسات الجنسية خارج إطار الزواج من خلال المؤسسة القانونية على سبيل المثال، حيث جرّم الممارسات الجنسية التي لا تنتج نسلاً واضحاً قابلاً للتوريث وأيدٍ عاملةً رخيصةً في المستعمرات، وأسس لدول محلية قادرة على اختراق الحياة الشخصية والحميمية لمواطنيها ومواطناتها من خلال برامج حكومية كبرامج تنظيم الأسرة".

وبدوره، يؤكد العالم السياسي اللبناني أسعد أبو خليل، حدوث الشيء ذاته في البلاد العربية أيضاً: "حين وفد التغريب إلى الشرق الأوسط، جلب معه عناصر متنوعةً من أيديولوجيات العداء الغربية، مثل رهاب المثلية الجنسية. لا نقول إنه لم تكن هناك عناصر معادية للمثلية الجنسية في التاريخ العربي/ الإسلامي، ولكن تلك العناصر لم تشكل أيديولوجيا عداء كهذه".

التأثير الاستعماري

لا شك أن إرث الاستعمار في شمال إفريقيا وجنوب غرب آسيا، قد أثّر بشكل كبير على فهم المنطقة العربية لمفاهيم الجنسانية والجندر، فقد فرضت القوى الاستعمارية قيمها ومعاييرها، والتي لا تزال تؤثر على تصورات الهويات الكويرية، فعلى سبيل المثال، ما زالت تونس والمغرب والجزائر ولبنان تجرّم المثلية كنتيجة مباشرة للإرث الاستعماري.

منهج الاستعمار الكراهية التي وُجدت قبله تجاه الممارسات الجنسية خارج إطار الزواج من خلال المؤسسة القانونية على سبيل المثال، حيث جرّم الممارسات الجنسية التي لا تنتج نسلاً واضحاً قابلاً للتوريث وأيدٍ عاملةً رخيصةً في المستعمرات، وأسس لدول محلية قادرة على اختراق الحياة الشخصية والحميمية لمواطنيها ومواطناتها من خلال برامج حكومية كبرامج تنظيم الأسرة"

في هذا السياق، يذكر كتاب "الفصل 230 تاريخ من تجريم المثلية الجنسية في تونس"، من تأليف رامي خويلي ودانييل ليفين سباوند، أن تاريخ تجريم المثلية الجنسية يعود إلى حقبة الاستعمار الفرنسي، بحيث تم وضع القانون في العام 1913، قبل أكثر من قرن من اعتماد تونس دستورها الجديد بعد الإطاحة بالرئيس زين العابدين بن علي في الانتفاضة الشعبية التي أشعلت شرارة الربيع العربي.

يصف موسى الشديدي آثار الاستعمار، بقوله: "مع الحداثة الغربية، تم استبدال القيم والمعايير التي صاغت تاريخ المنطقة لأكثر من ألف سنة بقيم ومعايير حداثوية، بشكل محوري ولدت مفاهيم الخاص والعام ومنها فكرة خدش الحياء العام والآداب العامة والتي احتكرت الدولة تحديدها أو عدم تحديدها لتشمل طيفاً من السلوكيات المجرمة وغير المحددة بوضوح".

تعليقاً على هذه النقطة، يقول تازر، وهو كاتب وصحافي ليبي مهتم بالثقافة الليبية والجندر والأقليات الجنسية: "التأثير الاستعماري في بلدان جنوب العالم عموماً، معقد ومتداخل بقدر ما هو عام، لدرجة أنه برأيي يصعب تحديد أبعاده في ثقافاتنا. وفي رأيي بصورة واعية وغير واعية في آن واحد، السلطة الجديدة في البلد تشرع وجودها من خلال الدعاية لنفسها لحماية الأرض والعرض، وطبيعي أن تضع السلطات الجديدة وحتى المنتخبة، بصمتها على أوجه الثقافة لأسباب مختلفة".

ويضيف تازر في حديث خاص إلى رصيف22: "أما في حالة الحكومات السلطوية فإنها تمعن في إيذاء 'المختلف' و'المستقل' لتضمن عدم وجود ثورة أو معارضة لها وفي الوقت نفسه لتوحيد الناس على عدو للأخلاق والقيم والدين والاستقرار، لإلهائهم عن محاسبتها... وهذا ظهر في حكومات ما بعد ثورات شمال إفريقيا في العام 2011".

بحسب موسى الشديدي، فإن العوامل الجيو-سياسية، مثل الصراعات والتحالفات، تلعب دوراً كبيراً في المشهد الكويري في المنطقة، بحيث تعتمد الحكومات السلطوية سياسات أكثر صرامةً بسبب اعتبارات سياسية، كالتهميش والعزلة اللذين يتعرض لهما مجتمع الميم-عين في المنطقة، وكلها مرتبطة بشكل عميق بقضية الاستبداد في المنطقة.

يقول الشديدي في هذا الشأن: "بالتأكيد الحكومات الحداثوية جميعاً تعمل على تسييس الجنس بشكل عام، خصوصاً في دول ما تزال حكوماتها تحافظ على الجنس كأحد المحرمات المجتمعية".

وفي كتابه "المثلية الجنسية في غزو العراق"، يتناول الشديدي مثالاً على ذلك: في العام 1991 طلب صدام حسين من شيوخ عشائر حي الثورة في بغداد قتل "المتشبهين بالنساء" كجزء من محاولاته استرجاع شرعيته بعد احتلال الكويت وفرض العقوبات الاقتصادية الدولية على العراق، غير أن الشيوخ رفضوا قتل هؤلاء الأفراد.

تحويل انتباه الجمهور

تطرح الباحثة ريكاردا أميلينج، في ورقة تم نشرها في مجلة "رواق عربي"، فرضية استخدام الأنظمة الاستبدادية قضايا مجتمع الميم-عين لتحويل انتباه الجمهور وقمع الجماعات المهمشة، للتحايل على انتباه المواطنين/ ات بعيداً عن نقائصها وفسادها، إذ تقول: "منذ العام 2013، لا يزال تفاعل المسؤولين المصريين وتعاملهم مع مجتمع الميم-عين يتّسم بقدر متزايد من القسوة".

وتشير إلى أنه "في وسع المرء رؤية أحد الأمثلة الصارخة على ذلك في حالة ردود أفعال وسائل الإعلام المتصلة بحادثة رفع علم قوس قزح في العام 2017، التي أسفرت عن حملة شُنّت لقمع المثليين/ ات، وفي الجدل الذي دارت رحاه في وسائل الإعلام المصرية، خاصةً تلك التي تخضع لرقابة الدولة، فلم تثر قضية علم قوس قزح إفراطاً في التغطية الإعلامية وإنما أثارت هلعاً أخلاقياً".

وتضيف: "ومع ذلك، لم تكن ردة فعل وسائل الإعلام على قضية علم قوس قزح من باب الكراهية العشوائية للمثلية الجنسية، وإنما كانت تكتيكاً واعياً خدم الرواية القومية التي تعتمدها حكومة السيسي التي وظفت القومية المجندرة باعتبارها عاملاً كانت الحاجة إليه ماسةً للوحدة، وباعتبارها أيديولوجيا مضادة للحركة الإسلامية التي تتجسد في جماعة الإخوان المسلمين، ومثلما جرى توظيف قضية كوين بوت لدعم شعبية مبارك التي كانت تذوي وتتلاشى في وقت حرج، استُخدمت قضية العلم من قبل نظام السيسي الذي يكافح في سبيل إضفاء صفة شرعية على نفسه".

بناءً على هذه التحديات التاريخية والجغرافية، يظهر للشديدي وتازر أن نواة الفكرة المقترحة لتغيير شكل الحركة الكويرية العربية لمواءمتها مع التطور التاريخي والسياسي، أمر بالغ الأهمية، إذ يقول الشديدي: "عند التحدث عن حركة كويرية غربية ظهرت ضد الحرب والعنصرية والرأسمالية فهي متضامنة بشكل كبير مع الجنوب العالمي بقضاياه التحررية المختلفة، بينما هناك الحركة المثلية المهتمة بحقوق المثليين/ ات البيض في الغرب، والتي تفضّلها الحكومات الغربية لأنها تمنح السلطة هيمنةً أكبر على الممارسات الجنسية للمواطنين/ ات وتدجينها بما يُسمّى المعيارية المثلية والتي هدفها الانضمام إلى مؤسسات الدولة بدلاً من تغييرها بشكل جذري".

ويضيف: "افترضت الحركة المثلية، ومن خلال خطاب الحكومات الغربية وتمويلات المنظمات غير الحكومية، أن المفاهيم والهويات الغربية هي مفاهيم وهويات عالمية، وهنا نعود لفكرة أن المستعمر القديم لا يزال مرجع المستعمر لتعريفه عن نفسه كي يهيمن عليه، بينما تحاول الحركات الكويرية الغربية نفسها التمرد على هذه الهويات المعيارية الجنسية الغربية وتقديم النقد على عدم جدواها حتى في الغرب".

يقدم الشديدي حجةً مثيرةً للجدل: "إن تبنّي المفاهيم العالمية للحركة الكويرية بدأ من الإسلاميين لا من ممارسي الجنس المثلي في بلادنا أولاً، نجد أن أحد أول مستخدمي كلمة مثلي لترجمة homosexual كان سيد قطب مفكر الإخوان المسلمين، وعُثر في العراق على جثة شخص في العام 2009، قتلته إحدى الميليشيات، حفر عليها القتلة كلمة مثلي بخنجر في بغداد بينما لم يعرّف ممارسو الجنس المثلي أنفسهم بهذه الهوية الغربية حينها بحسب تقرير هيومان رايتس ووتش.".

"إن قوى الإرهاب الجنسي المتواجدة اليوم قائمة بشكل كامل على عامل تشويه وتحريف التاريخ ومحاولة التلاعب به وإخفائه، فلا يوجد تحرر إلا من خلال تحرير التاريخ من المفاهيم والهيمنة الاستعمارية"

ويجادل تازر أيضاً بأن ثمة صراعات كاملةً وحملات ضد المجتمع الكويري حدثت في ليبيا: "وهي برأيي بسبب فيلم أو تقرير صحافي غربي حول الكوير، والواقع أن الكوير في ليبيا يعيشون حياةً مختلفةً، فالمشكلة كما أرى هي في عالمية مفهوم الكوير، وكأنه يمكننا تبني مفاهيم واستيراد أخرى، المشكلة هي عدم التفاتنا إلى المفاهيم أو لعدم وجود مفاهيم معينة في منطقتنا، ومن هنا تأتي أهمية البحث في الخصوصية التاريخية والجغرافية للمنطقة في علاقتها بمفاهيم الجندر والجنسانية غير النمطية لتشكيل السياسات العامة وتعزيز التغيير الاجتماعي، والتي تعطي مرجعاً للهويات الكويرية الحالية والسياق الثقافي الحالي والتراكمات التي بُنيت في الماضي هي -بالإضافة إلى تجاربنا الفردية- تشرعن وجودنا كأفراد".

يؤيد الشديدي ذلك قائلاً: "إن قوى الإرهاب الجنسي المتواجدة اليوم قائمة بشكل كامل على عامل تشويه وتحريف التاريخ ومحاولة التلاعب به وإخفائه، فلا يوجد تحرر إلا من خلال تحرير التاريخ من المفاهيم والهيمنة الاستعمارية".

إذاً، لا شك أن الاستعمار وتغيّر الثقافة هما من العوامل التي تؤثر على تصور المنطقة للجندر والجنسانية، وهو ما يظهر في تأثر القيم والمعايير بشكل عميق بتاريخ الاستعمار والقوى الجيو-سياسية الحالية. 

هذا المشروع بالتعاون مع Outright Action International.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image