قصف المنتظرين في محل الحلاقة
نازحاً من وجعي الشخصي إلى أوجاع الآخرين، مؤجلًا بكائي، أغرق في بكاء أكبر وأوسع يمتد على قدر مساحة قطاع غزة، من شماله الدامي إلى جنوبه النازف، ومن شرقه المشتعل إلى بحره الموحش.
كنتُ جالساً عاجزاً منكسراً أمام فاجعة بيت الجيران الذي سقط على ساكنيه، وعلى ما يتجاوز العشرين شخصاً ممن ينتظرون دورهم في صالون الحلاقة أسفل البناية، وكذلك من هم في محل أدوات الموبايلات.
ندفن سريعاً ونعود للإنقاذ
في لحظة تكومت البناية المكونة من أربعة طوابق على نفسها، وعلى من فيها، محدثة سحابة ضخمة من الغبار والدخان غطت الحارة. دقائق وأخرجوا أحمد علي الشنا، شهيداً، نقلته سيارة الإسعاف إلى مشفى ناصر، وهناك تم تكفينه والصلاة عليه، وسريعاً تحت أزيز طائرات الاستطلاع المسيّرة جرى نقله إلى المقبرة ودفنه.
كنتُ جالساً عاجزاً منكسراً أمام فاجعة بيت الجيران الذي سقط على ساكنيه، وعلى ما يتجاوز العشرين شخصاً ممن ينتظرون دورهم في صالون الحلاقة أسفل البناية، وكذلك من هم في محل الموبايلات
لم تنته القصة هنا، الأم وأختان لأحمد تحت الركام، بدأ العمل من خلال جرافة لإخراج من هم في صالون الحلاقة، أبو محمود ومحمود الطبش (الحلاق وابنه) شهيدان، علي عامر شهيد، وهكذا شهيد يتلوه شهيد.. وإصابات خطيرة لعدد محدود!
بانتظار الباقر
أسدل الليل عماءه، فتوقف العمل، ولا يزال هناك تحت الركام عائلة جاري وصديقي علي الشنا. كذلك أطفال للجيران. في الليل، حدثت مجزرتان في نفس المنطقة، مربعان سكنيان دُمّرا، عشرات الشهداء لعائلات مختلفة، أذكر ذلك لأخبر أن الآلات العاملة محدودة، وخاصة "الباقر" القادر على إزاحة الركام، سنكتشف في الصباح أن الانتظار سيطول كي يحضر باقر.
دقائق وأخرجوا أحمد علي الشنا، شهيداً، أبو محمود ومحمود الطبش (الحلاق وابنه) شهيدان، علي عامر شهيد
مرت ثلاثون ساعة على لحظة القصف، صار الأمل في نجاة أحد معدوماً، صارت غاية الغايات إكرام الميت دفنه، جاءت جرافة، وهي بالمناسبة لا يمكن أن تعمل بشكل فاعل ومحترف، ولكنها ساعدت على إخراج طفلين ضحيتين.
صار نصف البيت مكوماً في الشارع، والنصف الثاني مكوماً على زوجة صديقي علي الشنا وابنتيه.
صوت أفنان يخرج من بين الركام
في التجول بين الركام أكد أحدهم أن هناك صوتاً قادماً من تحت الركام، عمها أكد أنه صوت أفنان، إنها معجزة من الله، بعد مرور أكثر من ست وثلاثين ساعة، لا يزال هناك صوت حياة تحت الركام.
جيء بالباقر، الذي عمل على الوصول إليها عبر حفر نفق إلى مكان الصوت، كانت البنت بخير، واعية، مجرد خدوش في الوجه، وبعض الكسور في قفص الصدر، بخروجها عاد الأمل وعادت الحياة إلى وجه أبيها وأخيها وأعمامها، يا ألطاف الله، أخرجنا أفنان وكأننا أخرجنا الحياة كلها من تحت الركام.
عاد الليل إلى لعبته مجدداً في فرض الانتظار، ما زالت زوجة علي وابنته الأخرى تحت الركام، ويجب توقف العمل، ومع الإصرار تواصل العمل إلى ساعة متأخرة دون جدوى.
أفنان تقول: كانت أختي تلعب قبالتي
في صباح اليوم الثالث، وتقديراً لوصف الناجية أفنان، التي أخبرت أن أختها كانت تلعب قبالتها، وأن أمها كانت تجلس على الكنبة تقرأ القرآن، بدأ الرجال في الحفر بين الركام قاصدين الوصول إلى المكان الموصوف، تواصل العمل بالأيدي العارية، وبالرجاء.
أكد أحدهم أن هناك صوتاً قادماً من تحت الركام، عمّها أكد أنه صوت أفنان، إنها معجزة من الله، بعد مرور أكثر من 36 ساعة، بخروجها عاد الأمل، وعادت الحياة إلى وجه أبيها وأخيها وأعمامها
كان صديقي علي طوال الثلاثة أيام، متماسكاً، حامداً، شاكراً، تغلبه من آن لآخر بعض الدمعات الهاربات من حريق في صدره، كانت قوته تمنحنا القوة، وكانت صلابته التي ندركها فيه لا تخفي عنا فيض الوجع البارق في عينيه، صابراً كان، محتسباً، ولا يزال العمل بالأيدي العارية متواصلاً، ولا يزال تكسير العجز يتقدم رويداً رويداً، هكذا، بعد ثلاثة أيام، خرجت أم أحمد من تحت الركام شهيدة، وابنتها إخلاص شهيدة. التحقتا بأحمد. هم أحياء عند ربهم يرزقون.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ 19 ساعةتحليل رائع. لم يخطر ببال هذا التأثير المحتمل لمسلسلات الطفولة.
لطيفه محمد حسيب القاضي -
منذ يومقصة جميلة
لطيفه محمد حسيب القاضي -
منذ يومقصة جميلة
Mohammed Liswi -
منذ 3 أياممقال أكثر من رائع. قمة الإبداع والرقي. شكرا.
Salim Abdali -
منذ 4 أياماتابع يومياتك الأليمة، وشكرا يا شاعر لنقلك هذه الصور التي رغم الالام التي تحملها، الا انها شهادات تفضح غياب الضمير الانساني!
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامماذا لو أن النبي بداية منذ أواخر سنواته الشريفات وحتى اليوم كان محروماً من حقوقه في أمته مثلما أن المرأة قد حرمت حقوقها وأكثر؟ وأنه قد تم إيداعه "معنوياً" في غرفة مقفلة وأن كل من تصدر باسمه نشر فكره الخاص باسمه بداية من أول يوم مات فيه النبي محمد؟ إن سبب عدم وجود أجوبة هو انحصار الرؤية في تاريخ ومذهب أو بالأحرى "تدين" واحد. توسيع الرؤيا يقع بالعين على مظلومية محمد النبي والانسان الحقيقي ومشروعه الانساني. وجعل القرءان الدستور الذي يرد اليه كل شيء والاطلاع إلى سيرة أهل البيت بدون المزايدات ولا التنقصات والتحيزات يرتفع بالانسان من ضحالة القوقعة المذهبية إلى جعل الإنسان يضع الكون كاملاً والخليقة أمام عينيه ولا يجعله يعشق التحكم في الآخر.
إن وصف القرءان للنساء بأنهم نساء منذ طفولتهن بعكس الرجال الذين هم بنين ثم يصيرون رجالاً هو وصف بأن المرأة منذ الصغر تولد أقرب بكثير للتقوى الذي هو النضج وكف العدوان بينما للرجل رحلة طويلة في سبيل التقوى التي هي كف العدوان وليس فقط تدوير المسبحات في الأيدي.
مشروع محمد لم يكتمل لأن "رفاقه" نظروا له على أنه ملك ويجب وراثته والتعامل مع تراثه كملك. أما الذين فهموا مشروعه وكانوا أبواب المشروع الانساني فقد تم قتلهم وتشريدهم وفي أحسن الاحوال عزلهم السياسي والثقافي حتى قال الإمام علي أنه يرى تراثه نهباً أي منهوب.