تخفت أصوات العمال والمزارعين والأهالي في كروم الزيتون، كلما اقتربنا من القرى المتاخمة للحدود اللبنانية-الفلسطينية، على عكس ما اعتادت آذان القاطنين خلال هذا الشهر. تطغى بدلاً منها أصوات القذائف وغبار الغارات في ظل الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة، لينزح الأهالي تاركين موسم الزيتون على "أمّه".
"الرزق غالي على أصحابه، لهذه الأراضي والأشجار فضلٌ عليّ، أعتاش منها ويعزّ عليّ ترك الرزق هذه السنة من دون قطاف"؛ هذا ما تقوله المزارعة فاطمة العبد، من منطقة بليدا الجنوبية، التي تعيش من عملها في الأراضي الزراعية منذ عام 1980 تقريباً، في أرض ورثتها عن أهلها وزرعتها زيتوناً وتبغاً.
في 10 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، بدأت فاطمة بقطاف أشجار الزيتون في حاكورة منزلها، ووضعت ما يعادل 12 مدّاً، أي نحو 100 كلغ، في دار منزلها لتنقيتها قبل أخذها إلى المعصرة والرصّاصة في قرية عيثرون القريبة.
"الرزق غالي على أصحابه، لهذه الأراضي والأشجار فضلٌ عليّ، أعتاش منها ويعزّ عليّ ترك الرزق هذه السنة من دون قطاف".
حضّرت كل ما تحتاجه في اليوم التالي، للذهاب إلى الكرم، وخبزت 6 عدّات من الخبز المرقوق على صاجها، للبدء رسميّاً بالقطاف. ولكن تغيرت الخطط عند الساعة الرابعة عصراً تقريباً، حين بدأ يتعالى صوت القذائف. هنا أدخلت فاطمة ما قطفت من زيتونها إلى منزلها، وجمعت ما استطاعت جمعه من الثياب، هي وأختها، ونزحتا إلى بيروت.
في تلك اللحظة، عادت فاطمة في ذاكرتها إلى حرب تموز عام 2006، عندما احتُجزت في قريتها في بليدا، وأصيبت بشظايا قذائف، هي ومن كان معها في المنزل، والآن قررت النزوح مبكراً على حسب قولها، كي لا يعاد السيناريو معها، وهذا ما فكر فيه الأهالي أيضاً الذين قرروا النزوح.
تعدد لنا فاطمة كروم الزيتون في بليدا الموجودة على الشريط الحدودي مباشرةً مع فلسطين المحتلة، والمتروكة من دون قطاف، بسبب المواجهات المتكررة والاعتداءات الإسرائيلية على طول الشريط. منها "كرم الجوار، الكرم الشرقي، تبعا، وغاصونة"، وهي كروم لا يستطيع المزارعون دخولها منذ بداية الاعتداءات والمواجهات.
"كروم الزيتون خاصتي قريبة جدّاً من الخط الأزرق الفاصل. في موسم القطاف عادةً آخذ حذري وأحرص على ألا تقع أي حبة زيتون في الأراضي المحتلة، حفاظاً على الرزق ولكيلا يتذوقوا من خيرات أرضنا. ولكني اضطررت اليوم إلى أن أترك كل هذا الرزق على أمّه بعدما اعتدت قطف آخر حبة زيتون منه".
هذه المرة الثانية التي يتعرض فيها موسم قطاف الزيتون في القرى الحدودية الجنوبية للخطر، ويتكبد المزارعون خسائر ماديةً لا تعوّض. ففي العودة إلى حرب تموز عام 2006، تضررت الكروم والزراعات في تلك المنطقة، نتيجة كسر الأشجار وحرقها، فضلاً عن القنابل العنقودية، فخسر المزارعون محاصيلهم الزراعية جرّاءها، خاصةً من الزيتون، وفاطمة من المزارعات اللواتي تضررن من تلك الحرب.
هذه المرة الثانية التي يتعرض فيها موسم قطاف الزيتون في القرى الحدودية الجنوبية للخطر، ويتكبد المزارعون خسائر ماديةً لا تعوّض. ففي العودة إلى حرب تموز عام 2006، تضررت الكروم والزراعات في تلك المنطقة، نتيجة كسر الأشجار وحرقها، فضلاً عن القنابل العنقودية، فخسر المزارعون محاصيلهم الزراعية جرّاءها، خاصةً من الزيتون
تقول: "حالفني الحظ في موسم 2006، وبقي كرم واحد لم يتضرر، أمّنت من خلاله ما أحتاجه من المؤونة، ولكن كل ما بقي تضرر، وأخاف من تكرار الأمر الآن فأخسر رزق السنة، خاصةً أن القنابل الفسفورية والبارود المتناثر من الغارات قد يُسممان الأشجار ويؤثران عليها أيضاً".
لم تذهب فاطمة إلى بليدا منذ 10 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، سوى مرة واحدة، عندما نقلت التبغ بسيارتها إلى منطقة بئر السلاسل لتسليمه لشركة الريجي. تقول إن طيران الاستطلاع كان مخيفاً، ويعزّ عليها أنها تحاول اليوم تأمين مؤونتها من الزيت والزيتون عبر شرائهما من مزارعين في منطقة الجنوب أيضاً، بعدما اعتادت هي أن تكون البائعة.
كروم شبه مهجورة وزيتٌ أصفر
يبدأ موسم قطاف الزيتون في منطقة الجنوب عادةً، في بداية شهر تشرين الأول/ أكتوبر، ووفق المزارعين فإن التأخر في قطافه قد يؤدي إلى سقوطه عن الشجر، وأيضاً جودة الزيت تتأثر فيصبح لونه "أصفر"، وتالياً ينخفض سعر بيع التنكة إلى أكثر من النصف، ما يعني المزيد من الخسائر.
وباتت كروم الزيتون المتاخمة لحدود فلسطين المحتلة شبه مهجورة، ولم يتمكن عدد كبير من الأهالي من قطافها، ما يعني خسائر كبيرةً مُني بها المزارعون وأصحاب المعاصر والرصّاصات، وطبعاً لن يكون هناك أي تعويض لهم، هذا عدا عن الأضرار التي لحقت بالكروم جراء المواجهات. فبحسب آخر تصريح لوزير الزراعة اللبناني عباس الحاج حسن، أحرقت "إسرائيل أكثر من 40 ألف شجرة زيتون معمرة في جنوب لبنان باستخدامها قنابل الفوسفور الأبيض المحرّم دولياً".
في البلدة نفسها أيضاً، توقّف عمل وفيق إبراهيم، أبي محمد، وهو متعهد زراعي يقوم عادةً في هذا الموسم بالتعاقد مع عمال مياومين لقطف كروم عديدة ومساحات شاسعة في القرية المجاورة، ميس الجبل، أوكلت إليه مهمة الاعتناء بها من قبل أصحابها، وهو عادةً يؤمّن عملاً لنحو 50 عاملاً وعاملةً لمدة شهر كامل، أي طوال فترة موسم القطاف.
رفض أبو محمد مغادرة قريته بليدا على الرغم من أن البلدة هي من القرى الحدودية المواجهة. لكن عمله ونحو 12 عائلةً، انقطع خلال هذه الفترة، وهذا الأمر له تبعاته، كون العمال لا يملكون دخلاً ثابتاً شهرياً بحسب ما يقول لرصيف22. ويضيف: "يعزّ علينا أن نترك الأرزاق في الكروم، ولكن هناك الكثير من الأحياء في البلدة لا يمكننا أن نقصدها إلا بمرافقة من قوات اليونيفيل، وقطف الزيتون خلال هذه الأوضاع ليس أولويةً إذ لا تعلم متى تندلع المواجهات وأنت على الحدود مباشرةً".
تُشكلّ زراعة الزيتون في لبنان، 21% من إجمالي الأراضي الزراعية، وتُشكّل محافظتا الجنوب والنبطية 40% من مجموع الأراضي المزروعة، ما يجعل لهذا القطاع دوراً بارزاً على الصعيد الاقتصادي إذ يشغّل نحو 450 معصرةً في مختلف الأراضي اللبنانية.
ووفق مصلحة الزراعة في محافظة النبطية، بلغت عام 2021، المساحة المزروعة بالزيتون في المحافظة، 14 ألف هكتار موزعة على الشكل التالي: بنت جبيل 2،650 هكتاراً، حاصبيا 5،890 هكتاراً، مرجعيون 2،485 هكتاراً، والنبطية بلغت مساحة الأراضي المزروعة فيها بالزيتون، 2،950 هكتاراً.
في عيثرون، على الحدود اللبنانية الفلسطينية أيضاً، يحاول أبو علي وهو صاحب معصرة ورصّاصة للزيتون، تعويض خسائر هذا الموسم، فيفتح معصرته ساعتين في النهار فقط. يعصر ويرصّ كميةً قليلةً من الزيتون تأتيه من منطقة شقرا وبنت جبيل وكونين، وهي مناطق المواجهات فيها لا تزال غير محتدّة، كونها أبعد قليلاً عن الشريط الحدودي، وهي قرى خلفية.
يقول أبو علي في حديثه إلى رصيف22: "خسائر هذا الموسم كثيرة، فكمية الزيتون التي تصل إلى المعصرة أقل من النصف مقارنةً بموسم السنة الماضية، فالقرى مثل عيثرون وبليدا ومارون الرأس لم يستطع الأهالي فيها قطف الزيتون ومُني المزارعون بخسائر فادحة، وعملنا في المعصرة نقوم به خلسةً أصلاً في ظل تحليق متواصل لطائرات الاستطلاع في المنطقة، وشخصياً لم أستطع أن أقطف الزيتون في كرومي".
الحركة تبدو شبه معدومة في هذه المناطق مع إقفال المحال التجارية ونزوح الأهالي إلى بيروت أو إلى قرى جنوبية مجاورة لم تطلها الاشتباكات بعد. ويختلف الحال في مناطق الجنوب اللبناني بحسب بعدها عن الشريط الحدودي
ويتوقع أبو علي أن تتغير جودة الزيت، فبحسب رؤيته للكروم، الزيتون بدأ يتساقط عن الأشجار وجودة الزيت بعد سقوط الزيتون على الأرض، وحتى بقاؤه على الشجر لفترات طويلة، يؤثر على طعمه ولونه.
إنقاذ للموسم
الحركة تبدو شبه معدومة في هذه المناطق مع إقفال المحال التجارية ونزوح الأهالي إلى بيروت أو إلى قرى جنوبية مجاورة لم تطلها الاشتباكات بعد. ويختلف الحال في مناطق الجنوب اللبناني بحسب بعدها عن الشريط الحدودي، فمثلاً في منطقة بنت جبيل وعيناثا، وعلى الرغم من المسافة القليلة التي تفصلها عن الحدود، إلا أنها تُعدّ نوعاً ما قرى "خلفيةً"، الحياة فيها تبدو أكثر طبيعيةً، والمزارعون في المنطقة استطاعوا إنقاذ الموسم كون بعض هذه القرى لم تتعرض سوى مرة واحدة للغارات والقصف.
موسم القطاف في هذه القرى بدأ سريعاً خوفاً من تدحرج الأحداث، إلا أن الزيتون بقي "على أمّه"، في معظم كروم القرى المواجهة للحدود ذات التوتر المتواصل، مثل عيتا الشعب، مارون الرأس، عيثرون، بليدا، ميس الجبل، حولا، عديسة وكفركلا.
مثلاً، قرر أحمد دندش، وعلى الرغم من التوتر السائد، أن يذهب من بيروت إلى القرية مع عائلته لقطف الزيتون وإنقاذ الموسم، ويقول لرصيف22: "في كفرصير هناك عائلات من القرى المتاخمة للشريط نزحت إليها، والوضع لا يزال آمناً نوعاً ما في المنطقة. نحاول تأمين مؤونتنا من موسم هذه السنة، كونه لم يكن جيّداً والأوضاع في كروم كفرصير تبدو شبه طبيعية حتى الآن".
وتبعد قرية كفرصير، في قضاء النبطية، عن عيثرون، مسافة 34.5 كم، ويبدو المشهد في حقول الزيتون في هذه القرية في أوجه على الرغم من سماع أصوات طيران الاستطلاع والغارات والاشتباكات على الحدود في القرى المواجهة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون