بمجرّد أن سمعت الخبر والتفاصيل التي صُرّح بها حتى الآن عنه؛ لم يأت في ذهني سوى شيء واحد؛ تلك الحلقة بالموسم الثامن لمسلسل فريندز والتي كانت بعنوان "The one where chandler takes a bath" أو "الحلقة التي يستحمّ فيها تشاندلر".
في هذه الحلقة، تقدّم مونيكا لتشاندلر تجربة الاسترخاء في حوض الاستحمام للمرة الأولى، والتي أحبها كثيراً وقضى معظم وقت الحلقة في حوض الاستحمام؛ ولذلك يضطر بقية الأصدقاء للانضمام له والوقوف بجواره وهو مستلق في حوض الاستحمام، ما يشعره بالانزعاج.
تذكرت هذا المشهد، وهم ملتفون حوله يضحكون ويتحدثون عن أخبار حياتهم، بينما هو مستلق في حوض الاستحمام، وفجأة تحول المشهد من ألوان المسلسل المبهجة المميزة إلى ظلام لا يتخلله سوى أضواء حمراء صادرة من سيارات الشرطة والإسعاف، تنعكس ظلالها على حوض الاستحمام لنرى وجه ماثيو بيري متوفياً، وحيداً ولكن من يلتف حوله الآن في تلك اللحظة هم رجال الشرطة و الإسعاف؛ دون صديق واحد يحزن من أجله.
في لقاء إعلامي له العام الماضي بعد نشر سيرته الذاتية؛ صرّح ماثيو بيري لمحاوره ساخراً: "عندما قرأت الكتاب، قلت لنفسي: يا إلهي، هذا الرجل عاش حياة وطفولة معذبة؛ ثم اكتشفت أنني هذا الرجل"
بالأمس، وبعد وفاته بأيام قليلة، احتل كتاب ""Friends, Lovers, and the Big Terrible Thing" المركز الأول في مبيعات أمازون، وهو سيرة ذاتية كتبها الممثل الأمريكي ماثيو بيري، ونُشرت في نهاية العام 2022، وأستطيع أن أتوقع هذا الإقبال على كتابه الآن، فمعظم الجمهور ينظرون إلى تشاندلر على أنه مصدر للبهجة، وللمسلسل على أنه مكان آمن واسى الكثير من المراهقين والشباب من جيل الثمانينيات عند شعورهم بالوحدة؛ فكيف بطل من أبطال هذا المسلسل يموت وحيداً في حوض استحمامه؛ ما الحياة التي عاشها وأوصلته لتلك اللحظة؟
قد يظن البعض أن ما أدى إلى وفاة ماثيو بيري الغامضة هي المشاكل التي عاشها طوال حياته، مع الإدمان والمشاكل الصحية والاكتئاب؛ وهذا له دور بالطبع؛ وسنصل إليه، ولكن دائماً ما أعتقد أن الإدمان هو نتيجة لشيء وليس السبب، وحتى نفهم – من وجهة نظري- لماذا قد يلجأ الشخص لتعاطي المخدرات بشكل قد يدمّر حياته؛ يجب أن نعود لطفولته.
في لقاء إعلامي له العام الماضي بعد نشر سيرته الذاتية؛ صرّح ماثيو بيري لمحاوره ساخراً: "عندما قرأت الكتاب، قلت لنفسي: يا إلهي، هذا الرجل عاش حياة وطفولة معذبة؛ ثم اكتشفت أنني هذا الرجل".
في كندا؛ وهو رضيع عمره تسعة شهور؛ كان لقاءه الأخير بوالده الذي قرّر أن يتخلى عنه وعن والدته التي تبلغ من العمر 21 عاماً. خرج الأب ولم يعد؛ طلق والدته وقرّر السفر للتركيز على حياته المهنية كممثل، وقد حقّق نجاحاً كبيراً بالفعل في الولايات المتحدة الأمريكية تحت اسم John Bennett Perry، واكتسب شهرة لا بأس بها سمحت لماثيو بيري أن يرى أباه طوال الوقت على شاشة التلفاز وكأنه كائن خرافي أو نجمة في السماء يصعب لمسها؛ على الرغم من أن الجميع كان يخبره أن هذا هو والده؛ تلك العلاقة المعقدة بأبيه، وهذا الشعور بالتخلي ومشاهدته يومياً على التلفاز كأي شخص غريب؛ تركت في ماثيو الطفل أثراً يصعب محوه، وشرخاً لم يلتئم في روحه؛ وكان هذا الشرخ مدخلاً للكثير من المتاعب النفسية فيما بعد.
يقول ماثيو في كتابه: "لقد رأيت أبي في التلفاز والمجلات أكثر ما رأيته على أرض الواقع".
منذ طفولته، وكان ماثيو يقضي وقتاً طويلاً وحيداً بالمنزل، وقد وصف نفسه في كتابه بأنه latchkey kid وهو مصطلح أمريكي يُطلق على الأطفال الذين عاشوا حياة أجبرتهم أن يختبروا البقاء في المنزل وحدهم لفترات طويلة وفي سن صغير، والاعتماد على أنفسهم بسبب عمل الأم وغياب الأب، شعر بالمسؤولية في طفولته وكأنه مسؤول عن أمه، وكان يحزن حين يراها متوترة وحزينة ومرهقة بسبب عملها؛ ولذلك يقول ماثيو: " كانت مهمتي الأولى أن أحاول إضحاكها"؛ فكان يفعل أي شيء وكل شيء ليرى الابتسامة على وجهها؛ ونرى أن هذا المنزل الحزين المتوتر كان مصنعاً لواحد من أهم ممثلي الكوميديا في أمريكا.
حاول الأب أن يكون على تواصل مع ابنه قدر الإمكان، ولكن وقته لم يسمح به بزيارته، ولذلك كان يسافر له ماثيو بالطائرة من كندا لأمريكا بمفرده، وقد اختبر هذا للمرة الأولى وهو في سن الخامسة من عمره، أثناء تواجده في الطائرة – كما حكى في كتابه- كان "مرعوباً" ولكنه كان يواسي نفسه بأنه حين يصل سيجد أباه في انتظاره، ولكن معظم الوقت كان ماثيو يقضيه مع والدته الشابة.
ولكن هذا الوضع لم يستمر كثيراً، ففي عمر الثانية عشر، وهو يخطو حثيثاً لسن المراهقة، تزوجت والدته من الإعلامي الكندي كيث مورسون، والذي أكد ماثيو مراراً وتكراراً في لقاءاته أنه كان زوج أم لطيف؛ ولكن هذا أيضاً لم يمنعه من "المحاربة" على جذب اهتمام أمه – حسب تصريحاته- فقد كان يريدها له وحده كما كان الوضع من قبل.
"كل ما كنت أفعله من مواقف وحركات مضحكة كان من أجل أن تلتفت وتنظر إلي؛ ولكنها لم تكن تفعل ذلك"، وعندما لم تفلح الكوميديا معها اتبع العنف؛ فقد كان يضرب ويشاكس ابن رئيسها في العمل، والذي كان زميله في المدرسة. جدير بالذكر أن هذا الطفل الذي ضربه ماثيو بيري أكثر من مرة في مراهقته؛ هو الآن رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو، والذي نعاه حزيناً بعد سماع خبر وفاته.
ثم بدأ مشواره مع اكتشاف الغياب عن الوعي بغرض الشعور بالسعادة في وهو الرابعة عشر، وقتها شرب ماثيو المراهق الذي لا يشعر بشيء سوى الحزن والسأم؛ زجاجة كاملة من الخمر، واستلقى على أرض أحد الحدائق، ونظر للسماء وشعر أنه في "الجنة"، وفكر أنه لابد أن هذا هو شعور السعادة الذي يبحث عنه طوال الوقت، وأن جميع البشر يشعرون به دون شرب الخمر، ولكن هو يحتاج الخمر ليشعر بتلك السعادة، وبدأت رحلته مع الإدمان، والتي أنفق على محاولات العلاج منها في السنوات التالية ما يقدر بسبعة ملايين دولار؛ أنفقهم على 15 محاولة تعافي من الإدمان، بعضهم كان أثناء عرض مسلسل فريندز.
ساعد عاداته الإدمانية وتغذيتها انتقاله إلى كاليفورنيا مع والده وهو في الخامسة عشر من عمره، فعلى الرغم من معاملة زوج أمه الحسنة له، ألا أن والدته رزقت بطفل، وقد بدأ يشعر أن هناك أسرة تكبر وتنمو أمام عينيه، وقال في كتابه عن هذه التجربة: "لم أشعر يوماً بأنني جزء من هذه الأسرة"، وهناك في كاليفورنيا، عاش ماثيو وحيداً أيضاً مع انشغال ابيه في عمله.
ربما ظل ماثيو يتساءل يومياً: لماذا تشاندلر أكثر حظاً مني؟ فقد وجد الحب والزواج والأطفال والنجاح في أنحاء العالم، بينما أنا، ماثيو، أجلس وحيداً في منزلي، مثلما كنت أجلس وأنا طفل في انتظار عودة أمي من العمل؛ مع فارق أني الآن لا أنتظر عودة أحد
وقد اتخذ هذا الإحساس منحى حزيناً على حياة ماثيو العاطفية، فهو على الرغم من كونه كان "مستميتاً" على حد وصفه لتكوين أسرة خاصة به، إلا أنه لم يتزوج ولم ينجب أي أطفال.
في كتابه، وصف ماثيو نفسه بأنه كان المشكلة في فشل كل علاقة عاطفية في حياته، وبرغم ظنه أنه يريد أسرة، فهو في لاوعيه كان يخشى هذا الأمر، وقد اعتاد الوحدة وألفها رغم قسوتها، ولذلك كان "يخترع" أي عيب في شريكته حتى يتركها قبل أن تتركه هي وتتخلّى عنه، كان يخشى التعلق والحب حتى لا يتعرّض للتخلي مرة أخرى، ولكنه صرح في العام 2022 بعد نشر كتابه: "لم أعد أخاف من الحب بعد الآن"، ومن المفترض أنه تعافى من الإدمان تماماً في العام 2021، وقد ساعدته كتابة مذكراته على تطهير روحه الحزينة، ولكن ها نحن الآن نقرأ خبر وفاته الغامض والذي لم يُصرّح بتفاصيلها الكاملة أو سببها حتى الآن.
في مسلسل فريندز، كانت شخصية تشاندلر تشبه كثيراً حياة ماثيو بيري، ولكن في المسلسل وجد تشاندلر أصدقاء ومونيكا والتي كنت بمثابة الصخرة التي اتكأ عليها، ولكن الحياة لا تسير على نفس نهج الدراما، وربما ظل ماثيو يتساءل يومياً: لماذا تشاندلر أكثر حظاً مني؟ فقد وجد الحب والزواج والأطفال والنجاح في أنحاء العالم، بينما أنا، ماثيو، أجلس وحيداً في منزلي، مثلما كنت أجلس وأنا طفل في انتظار عودة أمي من العمل؛ مع فارق أني الآن لا أنتظر عودة أحد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه