عبر التاريخ، شكَّل الجسد لغة التعبير والمعنى والدلالة، وكان حاملاً للإشارات والرموز والعلامات الثقافية التي أبرزها الوشوم.
الوشم، ذاك الأثر الواضح على جبين المرأة أو ذقنها، والذي يُزيّن أحياناً ذراعها أو قدميها، يزيدها جمالاً، ويتحدثّ كأنه فسيفساء لغة تعود إلى تاريخ سحيق.
فالأمر هنا لا يرتبط فقط بالزينة، بل بدلالات ومعانٍ أعمق. ويتحوّل معه الجسد إلى صفحة يُخطّ عليه بالإبرة. ويحمل تعبيراً عما تحمله النفس من مشاعر تعكس لحظات من الحياة، وارتباطاً بذكرى حب، أو تعبيراً عن ثقافة وهوية.
لم يقتصر الوشم على جغرافيا معيّنة، فقد تداولته شعوب كثيرة، وفي كل بقعة جغرافية يحمل دلالات خاصةً مرتبطةً بثقافاتها.
لم تخلُ الثقافة الأمازيغية من وشم، وبرغم أنه يختفي اليوم بفعل عوامل متعددة تدريجياً، فما زال على محيّا وأجساد الجدات هنا وهناك، وفي كل مرة ترحل إحداهن عن الحياة، يرحل معها بعض من هذا الإرث التاريخي.
تاريخ من ممارسة الوشم
عرف المجتمع الأمازيغي ظاهرة الوشم برموز تميّزه عن باقي الأجناس الأخرى، ترسم هويته وكينونته وثقافته.
لم تخلُ الثقافة الأمازيغية من وشم، وبرغم أنه يختفي اليوم بفعل عوامل متعددة تدريجياً، فما زال على محيّا وأجساد الجدات
لا يمكن تحديد فترة دقيقة لتأريخ الوشم الأمازيغي، إلا أن باحثين يرجعونه إلى تأثر الأمازيغ بالرومان، إبان دخولهم شمال إفريقيا، نظراً إلى التأثير الثقافي والديني الذي كانت تمارسه الإمبراطورية الرومانية آنذاك.
تتعدد صور الوشم الأمازيغي بتغيّر المنطقة الموشومة، في علاقة مع الدلالة أو المعنى، إذ لم يترك الإنسان الأمازيغي قطعةً من جسده إلا ووشمها؛ الجبهة، والوجه، والبطن، والنهدين، والظهر، والفخذ، والساقين، لذلك يقال إن المجتمع الأمازيغي موشوم، وموجود بوشمه.
كيف تتم عملية الوشم؟
وفق الباحث الأنتروبولوجي حمو بلغازي، "الواقع الاجتماعي الأمازيغي، إضاءة على ممارسة بصرية محليّة"، تتم عملية الوشم في منطقة زمور، وسط المغرب، بالإبرة، لكن حين تنعدم هذه الوسيلة يتم اللجوء إلى شوكة الصبار.
لم يترك الإنسان الأمازيغي قطعةً من جسده إلا ووشمها
هذه العملية لا بد أن تكون متقنةً ودقيقةً، تجنّباً للعديد من الأمراض الجانبية كالالتهابات والأمراض الجانبية، لذلك يتم اختيار الواشمة بعناية. عند استعمال الإبرة، يتم تطعيمها بقطع خشبية أو قصبية، لكي تبقى الإبرة في ممسك اليد جيداً، وبعد ذلك تقوم الواشمة بوضع ثقوب دقيقة وفق خطوط تكون مرسومةً مسبقاً.
بعد ذلك، يتم فرك المنطقة بالماء المملح أو بالشعير المسحوق بعد نزيف الجلد لإظهار اللون وتحسينه. بعد التئام الجرح يبدأ الصباغ بإعطاء نتيجة ذات لون أخضر.
يخضع جسد المرأة لزخم من الوشوم على عكس الرجل الذي يتم وشمه بوشمة صغيرة واحدة، إما على الذراع أو اليد أو الساعد أو على شحمة أنفه، كما يحدث عند بعض القبائل في وسط المغرب.
دلالات الوشم الأمازيغي في المغرب
لا يوضع الوشم أو الشكل الهندسي للوشم بطريقة اعتباطية، إنما يخضع للترميز والدلالة والمعنى، ويرتبط بشكل أساسي بالطبيعة وعناصرها، وبالخلفيات الثقافية والمجتمعية، كونه تعبيراً رمزياً يدلّ على جوانب وجودية.
في هذا الشقّ حول دلالة الوشم الأمازيغي، نعتمد على دراسة بالفرنسية لسليمان حسنوني، عنوانها "الوشم، شكل من التواصل غير اللفظي ذو وظائف ودلالات متعددة".
إن الفقهاء هم من يقولون إن الوشم حرام. أنا لن أزيله. سأظل هكذا حتى يشيعوا جنازتي
يقول الباحث إن الألوان الموظّفة في الوشوم الأمازيغية هي في الغالب الأخضر، والأزرق، والأسود، وهذه الألوان تحمل معاني رمزيةً؛ إذ يشير اللون الأخضر إلى الخصوبة، والخضرة، والأمل، في حين يرمز الأزرق إلى الحماية والسلام.
يخضع جسد المرأة لزخم من الوشوم على عكس الرجل الذي يتم وشمه بوشمة صغيرة واحدة
بينما يحمل الأسود معنيَين؛ أحدهما سلبي يرمز إلى الموت والحداد والحزن، والثاني إيجابي يحيل على الأناقة والبساطة والرصانة والقوة. وبذلك فالمرأة الواشمة أو الرجل الواشم، يشِمان بلون معيّن اعتماداً على ظرفية اجتماعية أو اقتصادية أو حتى نفسية.
عندما ننظر إلى الوشوم المرسومة على الجسد نجد غالباً أن الشكل الهندسي يوضع بإتقان تام، ذلك أن عملية الوشم تتطلب خبرةً عميقةً بالأشكال.
تُستوحى الأشكال الموشومة من الحياة الواقعية، فهي إما أشكال حيوانية أو أشكال طبيعية، وكل شكل يدل على رمزية خاصة، حسب السياق الموظف فيه. فمثلاً حين نأخذ علامة النقطة، فإنها ترمز إلى البيت أو مكان الاستقرار، في حين يرمز الخطّان المتوازيان إلى ازدواجية الخير والشر الكامنة في المجتمع، فيما ترمز علامة الحلزون إلى الانسجام والتعالق الأبدي.
هكذا يأخذ كل شكل هندسي دلالاته من البيئة والمحيط، في محاولة لتصوير الواقع في مشهد جسدي.
هناك أيضاً علامات للوشم تأخذ تعبيراتها من عالم الأرواح، فحين ننظر إلى "الخميسة" مثلاً، نجدها تأخذ وظيفةً رمزيةً لطرد العين الشريرة، وهي تميمة دائمة تحمي من قوى غامضة، زد على ذلك أنها تحمل أيضاً طابعاً جمالياً للمرأة، فكل امرأة تضع وشم "الخميسة" تنعم بجمال شديد في التقليد الأمازيغي.
تُستوحى الأشكال الموشومة من الحياة الواقعية الأمازيغية، فهي إما أشكال حيوانية أو أشكال طبيعية
هناك أيضاً العلامة "عياشة"، وتُستعمل كحماية ضد وفيات الرضع، بعد وفاة طفلين أو أكثر، إذ توشم على جبين المولود الجديد لتجنّب وفاته، كونها نوعاً من العلاج الوقائي.
يُعدّ هذا النوع من الوشم تواصلاً بين جسم الإنسان وعالم الأرواح، لحماية النفس وإطالة العمر، وهي مكونة من خطوط تعني الله والحياة، وتنتج معنى طلب الحياة من الله.
لبعض الرموز طابع ديني أيضاً، فعلامة خاتم السلمانية، مأخوذة من خاتم الملك سليمان، وتشير إلى رمزية قوية تضمن التواصل مع الجن والشياطين للحصول على الحماية من جميع أنواع الضرر، وهي علامة لتوصيل رسالة تحديد الهوية الدينية والحماية.
في عالم الوشم أيضاً ما يعبّر عن الجمال والزينة، مثل وشم "الفاصولياء".
يُحفر هذا الوشم تحت الذقن ويحمل معنيَين؛ تضعه المرأة للزينة إذ يعدّه البعض أكثر تألقاً من قلادة ذهبية كاملة، أما معناه الثاني فرسالة جذب للمتلقي يعلنُ من خلالها عن رغبة المرأة العزبة في الدخول إلى عالم الزواج.
هذه العلامات ظاهرة ثقافية تنتج معاني ذات وظائف متعددة؛ جمالية، علاجية وقائية وهوياتية مستوحاة من مصادر مختلفة يرتبط أساساً بالسياق الثقافي للمجتمع.
السلفية ودفن الهوية
صيف سنة 2023، عُرض الفيلم الوثائقي "ذاكرة جسد" الذي يصوّر ذاكرة الوشم الأمازيغي، كجمال على شفا الاندثار، وصُوّر في مناطق عدّة في المغرب، مركّزاً بشكل دقيق على المسنّات من النساء.
تحكي إحدى الجدّات قائلةً حرفياً: "إن الفقهاء هم من يقولون إن الوشم حرام. أنا لن أزيله. سأظل هكذا حتى يشيعوا جنازتي. وشم وجهي سيظل خالداً. لن أغيّر قناعتي ورأيي أبداً".
أدّى صعود المد السلفي في العقود الأخيرة إلى شن حملة اجتماعية ضد كل ما عُدّ مُحرماً وفق الباحث حمو بلغازي.
ويضيف الباحث في الأنثربولوجيا في حديث إلى رصيف22، أن الحديث النبوي القائل "لعن الله الواشمة والمستوشمة"، شكّل مرجعاً للرؤية الدينية لدى من عدّوا الوشم يضرّ بالجسد الإنساني وهو أحد أجمل أعمال الخلق الإلهي.
ويوضّح أن اللعب على الوتر الديني خلق هلعاً لدى النساء الأمازيغيات المسلمات، إذ توقفت بعضهن عن وشم بناتهن، بل وصل الأمر إلى حد التخلص من الوشوم بحمض النتريك.
من جانبه، يرى مصطفى القادري، الباحث في التاريخ والتراث الأمازيغيين، في تصريح لرصيف22، أن هذا التحريم لا يتعلّق بنصوص شرعية إسلامية، بل مأخوذ من الديانة اليهودية، لأن الفرق بين اليهود والمسلمين في المغرب أن الأمازيغ المسلمين كانوا يضعون وشوماً في حين كانت محرمةً لدى اليهود المغاربة.
ووفق الباحث، استغل السلفيّون هذه الفكرة للتغلغل داخل الوسط المجتمعي، وقتل الهوية المغربية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه