يقول بلال، المُكنّى بالوشام، وهو صاحب ورشة تاتو في "حيّ النصر"، أحد الأحياء الراقية في محافظة أريانة التابعة لمدينة تونس، إن فئةً كبيرةً من الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و25 عاماً، ومن مختلف المحافظات، يرتادون ورشته بعد الاطلاع على طريقة عمله والمواد التي يستعملها ويقومون بحجز مسبق عبر صفحته الرسمية.
يضيف بلال الوشام، في حديثه إلى رصيف22، أن غالبية الشباب، خصوصاً الذكور، قد عبّروا عن رغبتهم في رسم أشكال ورسومات غريبة وغير متداولة من قبيل الوحوش والآلات الحادة والدماء ورموز توحي بأديان مغايرة.
فيما تختار الصبايا عبارات لطيفةً ورسومات تعبّر عن أنوثتهن ورغبتهن في إبراز جمالهن في مناطق حميمة من الجسم، مثل الكتف أو بمحاذاة للصدر، وحتى أسفل الظهر والفخذ، مؤكداً أن "ليس أمامي من خيار سوى تلبية رغباتهم/ نّ لتحصيل ربح مادي".
يقول بلال الوشّام أن غالبية الشباب، خصوصاً الذكور، قد عبّروا عن رغبتهم في رسم أشكال ورسومات غريبة وغير متداولة من قبيل الوحوش والآلات الحادة والدماء ورموز توحي بأديان مغايرة
وحول ما إذا كان إقدام هؤلاء الشباب، وبعضهم قُصّر، على هذه الخطوة، يتم بعلم مسبق من والديهم، يقول محدثنا: "صراحةً، أستبعد أن تكون لأهالي الزبائن دراية بما يقوم به أبناؤهم، فذات مرة حاول أحدهم إخفاء ما يشعر به تجاه والديه، لكن ملامح وجهه وتعابيره فضحته وانزلق إلى الحديث عنهم قائلاً إن إهمالهم له وتمييز أخته الصغرى عنه قد أشعره بأنه غير مرغوب فيه. فالعنف اللفظي الذي يوجَّه إليه من طرف أبيه غير مقبول، حتى لو أنه يقوم بأخطاء أو أفعال مرفوضة".
التاتو... منصة للتعبير الجسدي
"تلك هي حياتنا: تناقضات لا تنتهي. فقديماً كان الهدف من استعمال الوشم الزينة فقط، أما حديثاً وبسبب انتشاره وتعدّد أهدافه، فحتى كلمة وشم، تمّت فرنستها أو نطقها باللغة الفرنسية عبر لفظ تاتو"؛ بهذه العبارات استهلّت ريم عبد النادر المتخصصة في علم النفس حديثها عن ظاهرة الوشم التي تحولت، حسب رأيها، إلى منصة للتعبير الجسدي.
وتقول ريم، في حديثها إلى رصيف22، أن الوشم عادة تجارية رُوِّج لها من خلال السياحة وحتى الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، وكل هذه العوامل أسهمت في تصنيفه أداةً جماليةً تعبّر عن الموضة، ويكلّف مبالغ ماليةً باهظةً وأقيمت له مراكز خاصة وأدوات حديثة وله أفراد مختصون تمكّنوا من الارتقاء بهذه المهنة إلى درجة الفن والإبداع رغبةً منهم في التميّز.
أبلغ من العمر 18 عاماً، ولا أخجل من رسمٍ بسيط يعبّر عن رغبتي في إظهار أني محبة للحياة ومفعمة بالطاقة والإيجابية
وعن علاقة الوشم بالشباب ومدى تعلقهم بهذه الثقافة، ترى الأخصائية في علم النفس أن التاتو أضحى وسيلةً لتمرد الشباب على ما هو مفروض عليهم من قواعد وقوانين داخل الأسرة، ومن رقابة تربوية داخل المعاهد (الثانويات)، ما يؤدي بهم في نهاية المطاف إلى تعمّد طمس هذه القواعد المجتمعية حتى تتلاشى وتصبح قديمةً في نظرهم، ما يجعلهم يكتسبون هويةً أو صفةً جديدةً يلصقها بهم المجتمع... مع أن المجتمع وحتى الدين والمعتقد يصنّفون الموشوم بـ"المنحرف"، في حين يرى هذا الأخير إلى وشمه على أنه يعبّر عن القوة واللا مبالاة.
التاتو بين مواجهة الشارع والأهل
في السياق ذاته، تقول إحدى الزبونات اللواتي زُرن ورشة بلال الوشام، والتي تبدو للرائي تلميذةً في الثانوي، أنها شغوفة بما يقوم به الوشامون من رسومات وأشكال على أجسام المواطنين وحتى أجسادهم. فهو بالنسبة لها حرفة متقنة مثلها مثل "الحرقوس" التونسي (وشم حنّاء تقليدي)، الذي يتطلب تركيزاً وموهبةً، مُبديةً استغرابها من قبول المجتمع لاستعمال "الحرقوس" على أعضاء الجسم كافة بينما يرفضون الوشم مع أن لهما غايةً واحدةً هي الجمال.
وكشفت ريتا الخطاب، في أثناء حديثها إلى رصيف22، أنها تُخفي وشماً على شكل عنقود عنب على كتفها الأيسر قائلةً: "نحن في عصر الموضة، ولا بد أن نكون معاصرين ومواكبين لكلّ ما هو جديد. أبلغ من العمر 18 عاماً، ولا أخجل من رسمٍ بسيط يعبّر عن رغبتي في إظهار أني محبة للحياة ومفعمة بالطاقة والإيجابية، وكنت أضع الحرقوس في السابق خصوصاً في الصيف، حتى أبدو مثيرةً في ملابس السباحة أما الآن فلا بديل للتاتو".
بينما ينتقل الطفل إلى سنوات المراهقة، يبدأ بالبحث عن طريقة تميّزه عن أبويه وأقرانه ومجتمعه، فالوشم اليوم يُعدّ طريقةً لإثبات وجوده وفرصةً لفعل شيء غير مألوف في بيئته
وفي الوقت الذي أكدّت فيه ريتا أن والدتها لم تمانع خضوعها لهذه التجربة، وهي على استعداد لمسايرتها شرط ألا تُظهره أمام بقية أفراد عائلتها المحافظة، أبدت صديقتها خولة الطرابلسي، التي تكبرها بثلاث سنوات، سخطها مما تعانيه من ضغوط من أبويها تتلخص في التركيز على الدراسة فقط، وتجنّب التجمعات مع زملائها وبني جنسها، إلى جانب إحساسها الدائم بأنها مراقبة ولا يحق لها التصرف في أي شيء بعلّة أنها لا تزال صغيرةً ولا خبرة لديها في الحياة.
تضيف خولة، لرصيف22: "لا أرى التاتو حراماً. لدي وشمان اثنان في مكانين متفرقين من جسمي، الأول أسفل الظهر والثاني وراء الأذن. وأما الوشم الموجود وراء الأذن فأتعمد إسدال شعري دائماً أمام ناظريْ والدَي، والثاني لا خوف منه لأنني لا أتعرى في البيت.
أما إبراهيم الدراجي، البالغ من العمر 25 عاماً، فقد كان واثقاً بنفسه وبالرسومات المنتشرة في يديه ورقبته، وعبّر عن ملله من بعض أشكال الوشوم القديمة التي يسعى إلى إزالتها بالليزر في أحد المراكز المتخصصة ليتمكن في ما بعد من رسم تعابير تتلاءم والموضة.
ولأنه من عائلة تُعرف بالثراء، يقول ابراهيم لرصيف22: "انشغال والدي الدائم في العمل كان فرصةً بالنسبة لي لأعيش مراهقتي كما يحلو لي. فلقاؤنا يكاد يكون معدوماً أو منحصراً على طاولة العشاء ولا مجال لأكشف أمامهما بأني أضع تاتو على جسمي. وحتى إن عرفا فالأمر ليس مهماً بالنسبة لي، لأنهما سيقبلان بالأمر الواقع في النهاية".
كل ما هو ممنوع مرغوب
ليس سرّاً أن وشم الجسم عملية مؤلمة وليست ممتعةً للغاية. لكن يبدو أن ذلك الألم ليس سوى بداية لبروز جيل جديد قد يتعرّض لأمراض وتشوهات نتيجة خوض أبنائه وبناته تجربة الوشم كمُوضة جديدة عوّضتهم عن رحلة البحث عن أكسسوارات مناسبة لأزيائهم، في حال لجأوا إلى فنان تاتو لا يحترم معايير السلامة.
تفسر الطبيبة الأخصائية في الأمراض الجلدية سندس ترجّت، أسلوب الوشم قائلةً: "هي تقنية يتم خلالها وضع علامة ثابتة على الجلد عبر غرز الجلد بالإبرة، ثم وضع الصبغ أو ما يُعرف بالحبر داخل الفتحات أو الجروح إلى أن يجفّ، فيتغير لونه إلى الأخضر أو الأسود. لكن اليوم أصبح بالألوان".
تواصل محدثة رصيف22: "ليس من الآمن أن يعيش الشخص بكميات كبيرة من الحبر أسفل الجلد على المدى الطويل، خصوصاً إذا أصبح إدماناً لصاحبه. فقد تؤدي إلى إصابة صاحب الوشم بالتهاب الكبد الفيروسي أو نقص في المناعة المكتسبة في حال كانت المعدات المستخدمة غير معقّمة ولا نظيفة".
خطر على المراهقين؟
لا يقتصر اللجوء إلى التاتو على الشباب الراشدين، بل يلجأ إليه المراهقون أيضاً، وهو ما يثير مخاوف أحياناً من تأثيره على صحتهم النفسية، وغالباً ما تمنعه الدول الغربية أو تضع للراغب فيه شرطاً يتمثل في أن يحصل على موافقة أسريّة مكتوبة.
من جانبه، يرى الخبير في الصحة النفسية عماد الرقيق، أن التاتو يمكن أن يعكس مشكلات على مستوى الشخصية وحالات مرضية حيث يُمسي مصدر لذّة لصاحب الوشم الذي غالباً ما يعدّ من منظاره غطاءً يخفي من خلاله تراجع ثقته بنفسه ليوحي للمجتمع بعكس ذلك، و"هذه الحالة نجدها كثيراً لدى المراهقين الذين يمرون بظروف أسرية صعبة أو يعانون من تبعات انفصال الأبوين".
وعزا الخبير في الصحة النفسية، لرصيف22، أسباب إقبال المراهقين والتلاميذ على الوشم إلى تأثير الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي والرغبة في تقليد الشخصيات المؤثرة في المسلسلات وهو ما عهدناه مع الممثلين والفنانين في المسلسلات الرمضانية.
ويضيف: "بينما ينتقل الطفل إلى سنوات المراهقة، يبدأ بالبحث عن طريقة تميّزه عن أبويه وأقرانه ومجتمعه، فالوشم اليوم يُعدّ طريقةً لإثبات وجوده وفرصةً لفعل شيء غير مألوف في بيئته. وبينما يرى الآباء الوشم أو ثقب الأنف أو الصرة بالأقراط، تشويهاً للجسم وإخلالاً بالمعتقدات، يراه الشاب المراهق دلالةً على فرديته واستقلاليته واختبار كل ما هو جديد".
خلاصة القول، بين عصرنة الوشم ودخوله مجال الموضة، وبين المخاطر على الصحة الجسدية والنفسيّة في بعض الحالات، خاصةً لدى المراهقين، يقف الشباب أمام مفترق طريقين: إما مواجهة عاصفة من الصراعات والأزمات بأسلوب يحتكم إلى نصائح الراشدين وأخذ العبرة من تجاربهم، وإما سَلْكُ طريق سيواجهون فيه الأفكار النمطيّة المجتمعية وما يترتب عنها من مشكلات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون