شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
إليك حبيبتي غزة... بتوقيت البلاد الغريبة

إليك حبيبتي غزة... بتوقيت البلاد الغريبة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والتنوّع

الاثنين 30 أكتوبر 202301:49 م

أتساءل عن ماهية هذا الشعور الذي يخرج عن فهرس الوصف والتقدير، أو حتى التعريف في حدود اللغة ومعاجم التفسير. إنه الشعور الغريب الذي يربطنا ببلادنا، أوطاننا تشبه الأم القاسية يا رفيق، والتي تغضب على أبنائها دون أن تبرّر سبب هذا التصرّف المبهم.

أخطّ هذه الكلمات لحبيبتي البلاد/ غزة، لناسها الطيبين، لسمائها الحنونة التي تحتوينا جميعاً، لزرقة بحرها ومداه الواسع الذي يستوعب آمالنا وآلامنا ولا يردنا خائبين. الوضع كالتالي يا صديقي المعاصر: أنا وهي كعاشقين مكابرين وينكران الحب، أو فكرة وجوده أصلاً. أتساءل كيف نحن امتداد عرق زيتون أخضر لها؟ كيف نرث صفاتها وتصبح جزءاً لا يتجزّأ منا ومن صيرورتنا الإنسانية، وكيف يصل بنا الحال لأن نعرّف أنفسنا بها قبل أسمائنا، أن نتحدّث بصيغتها ونتبنى نبرتها مع الأيام، بل تكون البلاد هي الأصل في تكويننا وتشكيل ذواتنا؟

في لحظة تأمل عميقة تجد أنك ابن هذه الأرض، جنديّها وجذعها الأوحد الممتد في الأراضي الأخرى. ربما أرهقت أرواحنا وأصبح كاهلنا مثقلاً من حجم هذا الألم الكبير الذي يستنزف قوانا.

أستطيع القول إنني ممتنة لهذه التجربة، لأنني عرفت أخيراً أن حبي لها تفوّق على مدى استيائي منها: إلى حبيبتي غزة. أحبّك مرة أخرى، بتوقيت البلاد الغريبة

كفراشة حالمة، محلّقة، كانت تحلم بتجربة شعور الحرية والبراح لمرة واحدة على الأقل في حياتها، أن تمنح جناحيها الرخصة والحق المشروع بالطيران في سماء الحالمين المحتملين – والوجهة الى أي مكان غير سماء البلاد- لأنني كنت أعتقد ملياً أنها عاصمة التقييد الأولى، هواؤها ملبّد بالخذلان وغير صالح لممارسة هذا الطموح والحلم الأعزل لشحّ الفرص. نظلّ مسلّمين لهذا المنطق ومؤمنين به حتى النخاع، حتى نقابل وجوهاً جديدة غير أهلها الذين ألفناهم واعتدنا طبعهم، نكون ضيوفاً في بلاد جافية باردة المشاعر، غرباء كلياً، نحتمل عبء البعد لأن وجودنا في بلادنا همٌّ أكبر.

لوقت طويل وممتد الى ما لا نهاية، كنت أخيّم داخل حلمي الذي أثثته بعناية داخل مذكرة رأسي التي اعتدت أن أدوّن بها حياة أخرى تأخذني لعالم الخيال. كان لدي حلم أعزل يبدأ بالسفر وينتهي به أيضاً. كنت أتآكل من الداخل عندما تهزم مخططات المغادرة خاصتي. كنت أخاف من فكرة أنني سأفني عمري في البلاد التي أحبّها، لكنني أكره الطريقة التي تحدّ بها آفاقنا جغرافياً، وتقيّد حركتنا داخل مساحة مغلقة، بيوتنا المتواضعة التي تأكلها الحرب كل عام، وتلتهم النيران أجساد أبناء شعبي الخاوية وتتفتت في صدورهم بقايا الصواريخ.

لماذا تسمح لنا أنفسنا الضعيفة بأن نشتاق لمكان فيه نتوءات ذكرانا وعبث السياسة وغبطة الأيام وشحّ الفرص، لمكان هواؤه ممتلئ ببقايا رائحة الصواريخ؟

أذكر رحلة مغادرتي بالتفصيل، وكيف كنت مولعة بخطواتي الأولى التي أسيرها باختيار مني بعد طول انتظار. صوت في داخلي متعب من الركض المستمر، ينتظر بشكل مستميت أن يجد محطة استراحة ليريح رأسه بعد هذا الإرهاق، والغريب أن البلاد وحدها هي من ستفعل هذا كله.

نهاية غير متوقعة حتى علي أيضاً، فكرة أن تكون هي الداء والدواء في آن واحد، شيفرة لا أستطيع أن أجد لها حلاً. إنها حبيبتي، مبتورة الشريان، التي تنزف قلّة حيلة لكنها تخيط جروحنا بحب مسموم، العلاقة بيننا تزداد تعقيداً، وحبكة الحكاية لا تفسير لها ولا نهاية.

حبنا للبلاد يا رفيق غريب المنطق، مختلف، شاذ النبرة، متجذّر العرق فينا ونحن نشبه حبنا الغريب هذا.

سمعت عن الاشتياق للوطن وعن لوعة المغترب للقاء أهله وأحبائه من أخوتي الذين ساروا هذا الطريق قبلي، لكنني اليوم أعيش الشعور وأتعايش مع جزء منه، والجزء الآخر عبارة عن تساؤل: لماذا تسمح لنا أنفسنا الضعيفة بأن نشتاق لمكان فيه نتوءات ذكرانا وعبث السياسة وغبطة الأيام وشحّ الفرص، لمكان هواؤه ممتلئ ببقايا رائحة الصواريخ؟

 هذا لا يعني أنني لا أحب غزة، وأيضاً ليس تبريراً لحجم وطنيتي وانتمائي وكل هذه العبارات رخيصة السلعة في السوق. عندما غادرتها وقطع الحبل السري الذي يربطني بها بعد 20 عاماً، اعتقدت أن بلاد الغرباء ستكون أحنّ علي منها، على أساس أنني سأغادرها، والحقيقة أن هي من غادرتني، وكلفني الغياب عنها ثمن أن الشوق لها يصل حدود السماء.

أستطيع القول إنني ممتنة لهذه التجربة، لأنني عرفت أخيراً أن حبي لها تفوّق على مدى استيائي منها: إلى حبيبتي غزة. أحبّك مرة أخرى، بتوقيت البلاد الغريب.

أخطّ هذه الكلمات لحبيبتي غزة، لناسها الطيبين، لسمائها الحنونة التي تحتوينا جميعاً، لزرقة بحرها ومداه الواسع الذي يستوعب آمالنا وآلامنا ولا يردنا خائبين

قال لي أحد الأصدقاء: "ربما نشتاق لأننا لم نعتد على مغادرتها، والخروج منها وضع غير عادي، لأن مجرّد وداعك لها يتبعه قرار مصيري فيما بعد، وهو في الغالب هجرة". لم نكن نملك الرفاهية التي تجعلنا نجوب العالم ونتخذ منها محجّة رجوع لنا بالنهاية، وداعنا لها يشبه حرمان طفل من البقاء في حضن أمه لأنها مريضة وعاجزة عن الاعتناء به، فتضطر لإعطاء كفالة حضانته لأقربائه، وما أصعب الحرمان الذي يأتي مع القبول.

الحيرة تأتي من منطلق أنه بالرغم من البساطة التي تقدّمها لنا بلادنا، إلا أنها كل ما نحتاج إليه ونفتقده الآن. أذكر جلسة الشاي بالنعناع، صوت أم كلثوم الشجي في الخلفية وموعد غير متفق عليه مع أشخاصي المفضلين، في المكان الآمن الذي يحتضن آلامنا جميعاً/ البحر. صورة شاعرية بسيطة لا تكلف كثيراً، لكنها بمثابة جلسة علاج نفسي مجاني متبادل الأدوار، وهذا تماماً ما تقدمه لنا بلادنا، تضعنا في كنف الاحتضان المعنوي.

الأمر الذي جعلني أفكر في الأمر ملياً أن أحد أصدقائي نشر صورة وكتب عليها بتعبير مقتضب: "أكره الوداعات، ولا أتمنى أن تصادفني في حياتي أبداً". استوقفتني العبارة دوناً عن كل ما مرّ علي خلال اليوم، أسقطها على حالة المغترب، كيف سيعرف حجم حبه للبلاد لولا الوداعات المتكرّرة؟ والحقيقة أننا نحتاج في حياتنا لمثل هذه التجربة لمرة واحدة في دنيانا على الأقل، حتى نعرف أنفسنا جيداً، ونعيد اختبار مدى حبنا للأشياء أو حتى فكرة تعلقنا بها.

مرة أخرى: أحبك في كل مواسمك وأشتاق إليك جداً، ولنا لقاء.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image