شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
نكتب عن فلسطين كيلا نختنق

نكتب عن فلسطين كيلا نختنق

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والحقيقة

الأحد 29 أكتوبر 202312:03 م

أتذكر جيداً أيام حصار بابا عمر في حمص، كانت الاتصالات حينها مقطوعة تماماً. لم يكن بيتنا في بابا عمر ولكنه كان قريباً جداً منها، على بعد جسر فقط في منطقة تعتبر آمنة، إلا أن الاتصالات معها كانت مقطوعة أيضاً.

أتذكر جيداً أيضاً مقدار الرعب وأنا أمسك بيدي الهاتف الذي تصدر من سماعته نغمة موسيقية تميز الشبكات السورية، وذلك الصوت: "الرقم المطلوب خارج التغطية حالياً، يرجى المحاولة لاحقاً". كم كرهته وكم أعدت الاتصال دون فائدة.

لماذا نكتب عن فلسطين؟ ربما كي لا نختنق تحت ركام العالم الذي ينهار علينا ولا نستطيع شيئاً لإيقاف ذلك، ويا ليتنا نستطيع تثبيت لحظة تدمير مبنى بالضغط على زر ريموت كونترول ربّاني، في وضعية الـpause  وإبقاء الصورة ثابتة، علّ من فيه يخرج حياً قبل أن تنطبق الجدران والسقف عليه، علّه يبقى على قيد الحياة.

لماذا نكتب عن فلسطين؟ ربما كي لا نختنق تحت ركام العالم الذي ينهار علينا ولا نستطيع شيئاً لإيقاف ذلك، ويا ليتنا نستطيع تثبيت لحظة تدمير مبنى بالضغط على زر ريموت كونترول ربّاني، في وضعية الـpause  وإبقاء الصورة ثابتة

أتحدث بالهاتف مع صديقة، وصلت أمس إلى مطار بيروت وأرسلت بعض الصور، المطار فارغ تماماً. تقول لي: "أريد العودة إلى البيت"، والبيت في دمشق، بيوتنا في دمشق.

في اليوم الذي سافرت فيه، تمّ قصف مطاري دمشق وحلب وخرجا عن الخدمة للمرة الثانية خلال أقل من عشرة أيام، أُلغيت رحلتي عن طريق مطار بيروت، فاضطررت لحجز الرحلة المتاحة التالية وأنا أفكر بالبيت والعودة إلى البيت حتى قبل أن أغادره.

 أتابع جدول رحلات شركة الميدل إيست لأطمئن أن رحلة العودة ما تزال قائمة، فالشركة سحبت جزءاً من طائراتها وركنتها في مطار إسطنبول قبل سفري بأسبوع، وبعد عدة أيام  سحبت جزءاً آخر لتركنه في قبرص، فتقلّص عدد الرحلات من وإلى مطار بيروت.

تردّدت كثيراً قبل السفر، أأسافر وأترك دمشق وحدها؟ وكيف سأعود إن حدث ما حدث؟ كيف سأعود إن لم يبق هناك أي مطار للعودة؟

أشارك مخاوفي وأنا أبكي مع الجهة التي أرسلت لي الدعوة لإنجاز عمل في الإسكندرية، وانتظر أن يأتيني الرد بـ: "لا تأتي. ابقي في دمشق وليذهب العمل إلى الجحيم".

لكن ذلك لا يحصل، فأتمالك نفسي وأعود لأكرّر أسطوانة التأكيدات الإيجابية في رأسي بأنني قوية وكل شيء سيكون على ما يرام، وأن على الحياة أن تستمر وهناك أعمال يجب إتمامها طالما نستطيع.

أفكّر أيضاً وأنا أسمع شبه ضحكة على الطرف المقابل من هذه المكالمة البعيدة حين أصف خوفي من امتداد رقعة الحرب، ورغبتي أن أكون في البيت إن قُصفت دمشق: هل يدرك من لم يعش الحرب، لم يسمع هديرها ولم يشم رائحتها، ما تعنيه الحرب حقاً؟ هل يستطيع إدراك كل تلك المشاعر المتضاربة التي نمرّ بها، وتقلبات المزاج الغريبة؟ هل يستطيع التقاط الخوف الذي يأكل داخلنا بينما نحاول إخفاءه بضحكة أو بنكتة سمجة؟ هل يدرك مقدار هشاشتنا؟

أجل، أفكر دائماً بالعودة... العودة إلى البيت.

إن هبطت جدرانه أريد ان أكون فيه مع من أحب، لذلك أفهم جيداً قرار من لم يترك بيته في غزة، وبقي فيه رغم رأي البعض بأنه قرار متهور، غير عقلاني وسط هذا الجنون كله.

مطار بيروت في فوضى، ازدحام شديد، وركاب ينتظرون منذ أكثر من اثنتي عشر ساعة رحلاتهم التي تتأجل أو تُلغى. ألتقط حديثاً بين عمال المطار، اختصار عدد الرحلات إلى الحد الأدنى، وربما إغلاق تام وتوقف الخدمة. أحاول مراقبة وجوه الناس والتقاط مخاوفهم علّني أصل إلى جواب، هل ستبدأ الحرب؟

أتابع أصدقائي في غزة، أمر كل يوم على صفحاتهم لأطمئن على آخر تحديث، أو ألمح ذلك الضوء الأخضر قرب صورة البروفايل لكن دون فائدة.

الاتصال بدمشق هو خيط الأمان بالنسبة لي، أسمع صوت من أحب على الطرف الآخر فيطمئن قلبي ولو قليلاً. لكن ماذا سأفعل إن انقطع الاتصال بها؟ وانقطعت جميع الأخبار عنها؟

أجل، أفكر دائماً بالعودة... العودة إلى البيت. إن هبطت جدرانه أريد ان أكون فيه مع من أحب، لذلك أفهم جيداً قرار من لم يترك بيته في غزّة، وبقي فيه رغم رأي البعض بأنه قرار متهور، غير عقلاني، وسط هذا الجنون كله

الآن، أشعر بالخوف مما سنراه ونسمعه حين يعود الاتصال بغزة بعد تسرّب عدد من الصور حيث أُضيء الليل بالنار، وأفكّر بشاحنة الأكفان التي دخلت مع قافلة المساعدات الأولى إلى غزة، هل ستكفي يا ترى؟ أم أن ذلك تفصيل لن يعود ضرورياً لتفصيل حجم المجزرة؟

هنا، أحنّ إلى أذان الجامع الأموي وأنا أحمل دمشق في قلبي أينما سافرت، ترعبني أصوات الأذان من مآذن جوامع الإسكندرية، وتعيدني أكثر من عشر سنين في الزمن، حين سمعت ليلاً إعلان الجهاد عبر مكبرات الصوت لأول مرة، ينتفض قلبي وأفكّر: لم لا تكون أكثر حناناً وجمالاً كما في دمشق، لتبرّد قلوبنا المكسورة لا لتشعلها؟

ثم أعود لأفكر بكل هذا الخوف المتراكم داخلي، لا أستطيع التخلص منه ولا أستطيع التعايش معه أيضاً. تتساوى الحياة مع الموت داخلي وعيوني معلّقة بشاشة هاتفي ألف مرة في اليوم، أبحث عن أمل ما هناك، في غزة البعيدة القريبة جداً، إشارة ما لتفسير المجهول، إشارة من شعب كامل فقدنا الاتصال به منذ الأمس، لكل منهم اسم وحياة وذاكرة وأحبة، ولكن جميع التوكيدات الإيجابية التي أحاول تردادها تتوقف عند منشور كتبته صديقة من فلسطين منذ دقائق:

" يا رب، يا رب. اعطينا إشارة أنك شايف وسامع.. فرجينا أنه مش عاجبك. يا رب عندك نت؟ بتوصلك رسائلنا؟".

فيتوقف قلبي وأريد العودة إلى البيت. 

من الإسكندرية...هنا غزة... هنا دمشق... هنا فلسطين.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image