شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
أمي العزيزة: يداي على القرآن والغربة موجعة

أمي العزيزة: يداي على القرآن والغربة موجعة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز نحن والمهاجرون العرب

السبت 28 أكتوبر 202301:41 م



 مرحباً "يمّا":

يبدو أنني بخير، أعتقد أنني كذلك. أصبحت الآن قادراً على المشي بلا مساعدة من الممرضة، وكذلك أستطيع الآن الصلاة متزناً على قدمَي لا على السرير، وبات لي قدرة على أن أصوّب هامتي إلى السماء كما لو كنت أول الهموروكتس، وهذه نعمة كبيرة. صحيح أن وجعاً صغيراً أسفل الظهر قادر أن يصيّرني عجوزاً في الثمانين في ثوان قليلة، لكنني بخير.

العاملون في المشفى من حولي أناس طيبون، جميع هؤلاء الألمان الشيروسكيين طيبون جداً معي، ولا قدرة لي على نكران ذلك، فعن حقيقة أدرك اليوم ما يعنيه أن يقول العربي إن من لا يشكر الناس لا يشكر الله. إني متيقن من أن شكرهم موصول الى الله، يبتسمون لنا على الدوام، ويقدمون خدماتهم ونصحهم لنا بكل لطف. لا تقلقي فهناك من يساعدني بحق، فمنذ قليل أحضرت لي الممرضة المسنّة الطعام وكذلك قلماً وورقة، إنها ودودة جداً. لذا ها أنا أنوي أن أكتب لك على شبع وعافية.

أتدرين، منذ أيام وأنا أشعر بشهية مفرطة لتناول أي شيء، لا أدري هل مرد ذلك هو لأدوية الفولتارين أو الكامبيا والكابسين التي أتناولها، أم للأمر علاقة بتحسّن صحتي، فلطالما كنتي تقولين لي: "إذا دار الحنك وصلح اللسان فالجسم معافى"، فها أنا كل صباح أطوف بحنكي على كل ما حولي من طعام، من خبز البريتزل المملح الذي تمنحني إياه الممرضة كلما أخذت دواءها، وكأني طفل في دير، فتكافئني بعجينة الذراعين المتكاتفتين تلك، إلى مُحلى الموزلي الذي لم أكن أحبذه في السابق، فمزيج الجرانولا في الموزلي الذي يعدّه طاقم هذه المشفى، شهي جداً، يشبه في لذوعته فطائر اللزاقي المثخّن الذي كنتي تعدينه مع جارتنا "عايشة".

واليوم ‑ضمن هذه السيرة‑ سيقوم صديق طاجيكي بزيارتي، لقد وعدني أن يحضّر لي طبقاً من البلوف الباميري المتبّل، لقد تناولته في منزله قبل مرة. إنه طبق آسيوي بامتياز، يشبه في كثير من تفاصيله منسف الأعراس البلدية في حوران، لكنه يصنع عادة من لحم الضأن والأرز والجزر المبشور والبصل، وغالباً ما يُطهى على نار مفتوحة، لكن أتمنى ألا يقوم بإضافة الحمّص أو الزبيب له فهو ينزع عن نفسي الشهية حين يفعل ذلك.

مرحباً "يمّا": يبدو أنني بخير، أعتقد أنني كذلك. أصبحت الآن قادراً على المشي بلا مساعدة من الممرضة، وكذلك أستطيع الآن الصلاة متزناً على قدمَي لا على السرير، وبات لي قدرة على أن أصوّب هامتي إلى السماء كما لو كنت أول الهموروكتس

 على أي حال، فأنا لستُ بوحيد هنا، فعلى يميني الآن سرير فارغ من عجوز وحيد مزوّد بمنفسة، ومن جهة الشمال خزانة بثلاثة رفوف، وأمامي من على ميل، نافذة تشرف على المدينة القديمة، وبين هذا وذاك ممرضة حلوة تعاود طلعتي المكتئبة كل حين، فتكسر ابتسامتها عن روحي الكثير من التعب. فأنا كما يبدو، وكما كنتِ تقولين لي دائماً، أجيد التبسم بغباء للوجوه الحلوة، هكذا أخوكِ كان أيضاً، فلما العجب وثلثا المرء في بلادنا في أصلها لخاله.

أتدرين؟ عيناي منزرعتان دائماً الى تلك الغابة خلف نافذتي المحجّرة، ولدي سؤال أعيد ولادته كلما جلست خلف تلك النافذة: "ماذا يوجد خلف تلك الغابة؟".

كلما رأيت غابة أجدني أعاود ذات السؤال، وأتخيلك تقفين هناك بانتظاري، وما إن أذهب باحثاً عنك هناك، حتى ألتوي إلى طرفها الآخر، فأعيد سؤال ما قلته كرة أخرى: "ماذا يوجد خلف تلك الغابة؟".

أما الآن فأتطاول بعنقي على الشرفة، لأرى في البعيد أكثر طاحونة هواء كسلى خلف غابة السرو البعيدة، إنها تدور ببطء، ومخيالي معها يدور بصراع دونكيشوتي غريب. وفي القرب أكثر، في فناء المشفى، في المكان الذي يستطيع بصري بلوغه، يوجد مهبط لطائرة عامودية أعدت للحالات الطارئة. إنهم أناس يهتمون بأنفسهم بشكل متقن، شوارعهم نظيفة، محالهم التجارية ملفتة، وجوههم حلوة وتجيد الدهشة. ومنازلهم جميلة، مضلّعة وقد صمّمت جميعها على الطراز القوطي الرفيع، والممتد أمامي على طول الطريق الواصل لتلك الغابة. والملفت أكثر أنهم يتشرفون بقانون اخترعوه لأنفسهم، ولا أعتقد أنه يصلح لغيرهم، لربما أدرك الآن ما يعنيه أن يصرخ مارتن لوثر يوماً أمام أسلافهم الشماليين ناصحاً: "لا يستطيع أحد ركوب ظهرك إلّا إذا انحنيت"، لهذا تعلموا كيف يعتزون بقوانينهم.

أمي الحبيبة

ليتك معي الآن، سيبهرك ما يبهرني هنا، فالعشب الأخضر ينمو بسرعة وفي كل مكان، هناك مساحات خضراء شاسعة وزهور وملاعب، كلما مشيت بها أشعر وكأنني جرو من جديد. وعامل الحديقة في فناء المشفى، أراه كل يومين يجر آلته ويقوم بجز العشب، من الساعة التاسعة صباحاً وحتى العاشرة والنصف، ثم يدأب على تجميعه، يتركه ليومين آخرين حتى يذبل، بعدها يقوم بنقله لمكان آخر عبر عربة صغيرة. رؤيا هذا المرج تدفعني لأمنية مضحكة: "ماذا لو استطعت أن أجلب بقرتنا اللئيمة الى هنا؟"، كانت ستعتقد على أي حال أنها في الجنة حين تقارن جحيم معيشتها في زريبتنا في الريف مع كل هذه المروج الخضراء.

أواه يا أمي، آه من قلبينا الغبيين، كم هذا مؤلم، يداي على القرآن والغربة موجعة

صحيح ما حال بقرتنا؟ أعتقد أنك تهتمين بها الآن، فعلى أي حال إنها الآن التاسعة صباحاً، أي هناك فارق ساعتين بيني وبينك، لربما الآن أنك تفتحين خُمّ الدجاجات، تضعين لهن الخبز المبلل بالماء في هيكل الدولاب القديم، ثم تحررينهنّ ليأكلن مما قسم الله لهنّ، وأعلم أنك قليلاً وتتفقدين صيصان دجاجتي الفرنسية البدينة، ثم تنادين على "كوكو"، كلبتنا العجوز، بلغة الريفي المعتادة: "تيتي... تيتي"، ثم تضعين لها رغيفاً أو رغيفي خبز. هو ترف ما نعطيها كل صباح، فتنقله هي الأخرى بأمومة بريئة إلى جرائها الستة ملوحة بذيلها المعقوص.

ثم بعد كل هذا ستحلبين بقرتنا العنيدة، ستشدين رسغاً رُبط في كاحلها حتى تهدأ ولا ترفس السطل كعادتها، ولربما ستوقع سطل الحليب من يدك كما العادة لتنهالي عليها بالسباب والشتيمة، فتندمي على ذلك لاحقاً لتعتذري لها بوجبة مضاعفة من التبن والعلف. ستفرغين سطل الحليب بسطل آخر، وتنتظرين على الطريق الريفي سيارة أبو شادي، بائع الحليب، تبيعينه ثم تتجادلين معه لرغبتك الملحة في الجدال الصباحي، فأنت لا تحبذين أن تغيري من عاداتك القديمة.

تسردين لي قائمة بأسماء الشبان الجدد الذين انظموا لقافلة الخيبة وفروا تاركين خلفهم أمهاتهم والبلاد، لتواسي نفسك بعدها قائلة: "شايف مو بس أني وأنت"، لتبرهني لي بلا نية أنكِ لم تعتادي على رحيلي بعد كما لم تعتده أمهات سوريا

أما أنا، فاعتدت مثلك أن أصلي الفجر، حتى لو لم يكن ذلك في موعده، ثم أضع صوتاً خافتاً لعبد الباسط، وقبل فعل أي شيء آخر. أفتح وتساب لأجد به تسجيلاً صوتياً منك، تسجيلاً يأخذ بين الدقيقة والخمس دقائق، تدعين لي بها من كامل قلبك بالرزق والبركة وطول العمر، وأن يبعد الله عني في الغربة "الظلّام وعيال الحرام"، وأن أصير "ذر وذريرة"، ولا أدري ما تعنيه دعوة من مثل تلك، غير أنك تودين مني أن أتكاثر بالانشطار مثلاً.

ثم تحدثينني عن نسوة في الحي، من تزوجت منهن ومن زعلت من زوجها، ثم تتداركين ذلك لتقفلي مسرعة بعبارة "شو بدنا بالناس"، ثم تسردين لي قائمة بأسماء الشبان الجدد الذين انظموا لقافلة الخيبة وفروا تاركين خلفهم أمهاتهم والبلاد، لتواسي نفسك بعدها قائلة: "شايف مو بس أني وأنت"، لتبرهني لي بلا نية أنكِ لم تعتادي على رحيلي بعد كما لم تعتده أمهات سوريا. وكالعادة ورغم كل الضحكات المرسلة بيننا، تقفلين حديثك بغصة تتمخض عن دمعة محترقة وسخية.

أمي العزيزة، أو "يمّا" كما تحبين وأحب

البارحة في المستشفى، وفي لهج مفاجئ يسبب لي العمى والشواش رأيتك في الحلم، لربما لأن شبح المحب يُبعث رسولاً في المنام. كنتِ تستقوين على ركبتيك القديمتين ثم تخفّفين حملك بجملتك البدوية التي أحبها: "يا حيل الله، يا قوة الله"، ثم سكبت دموعاً مهملة، مجنونة وباردة. وحين استيقظتُ، كانت الجلبة في داخلي لا تلين وتلوي على مشقة، تحولني الى شيء آخر، إلى إنسان شارد غارق بالظنة والظنون، ضخماً كفيل وضئيلاً كفأر، شامخاً كعامود من نور وحانياً كهشيم من عام أول، وبين كلاهما كنت مشلولاً لا يقوى على الحركة رغم القوة، ولا على المناورة أمام وجهك المتعب رغم الضعف. 

أنا أدري أنها أيام مضنية بحق، موجعة لكلينا وأنها أوقات الأمور التي ينبغي أن تنتهي، لكن ليتك تعلمين كم أنا متعب في هذا الرحيل مثلك. أواه يا أمي، آه من قلبينا الغبيين، كم هذا مؤلم، يداي على القرآن والغربة موجعة.

فمهما بذلنا من جهد فإننا لن نكون كفؤين في فهم "لماذا؟". لماذا هذا الهروب من المنشأ؟ لماذا كل هذا الانفجار يتسع بنا؟ لكن ما أنا على يقين منه أن كل هذا هو تقليد ذو صبغة سماوية متراكمة، لا تحتاج منا غير الاقتصاد في الصبر. نحتاج الى الصبر فقط يا أمي، مع أني لا أعتقد أنه في بلادنا مهنة أصعب من إتقان الصبر، ومع أني لا أعتقد أنك قادرة على احتمال جرعة جديدة من الصبر مرة أخرى.

فأنا وأنت شركاء في هذا الفراغ المتسع، مليون شيء آخر يلتصق بنا، فنحن نصلح لنكون كذلك، كوكبان دريان منفلتان من جاذبية، غبار ملحي لا يسأم من سبر أغوار هذا العالم الباهت. مجراتنا كلها كانت لتلتقي هنا قبل انفجار كوني في نقطة واحدة، ومنذ ذلك اليوم، قبل ملايين السنين، وكلانا يتبعثر من منشئه، من المكان الذي ولدنا به، تعارفنا فيه، إلى أن هاجرنا مفترقين بعيداً بلا هداية. وطوال تلك الأزمنة، لا أنا وصلت ولا أنت تدرين يا أمي متى نلتقي في هذا الفضاء الوسيع.

لكن يوماً ما كانت جاذبيتنا أقوى بالقدر الذي يمكن أن تضعف فتضع حداً لهروبنا المتسع، فتدفعنا كنجمين آفلين على ذاتهما، فنستحيل مرة أخرى الى نقطة مفردة أخرى لبدء تعارف من جديد، لبدء القصة من جديد، من الصفر، من حيث لم يكن شيء، بل بعودة عزيزة الى الوراء حيث بدأ كل شيء حلو معك.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard