شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
سأمشي هذا الطريق كأني لا أجد غيره

سأمشي هذا الطريق كأني لا أجد غيره

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والنساء

السبت 28 أكتوبر 202312:27 م

منذ فترة طويلة كنت خائفة ومضطربة، أحاطني ليل المدينة من كل جانب، ووقفت وسط الزحام تائهة. تلفتُّ حولي بحثاً عن مخرج لعلني أصل. إلى أين؟ حقاً لم أكن أدري.

كنت في طريقي كالمعتاد إلى مقر عملي، لكني حينها انتابني شعور غريب. قُيّدت قدمي ولم أستطع صعود درجات السلم، وتردّدت الفكرة في عقلي مراراً: "الفرار. أريد الفرار الآن. هو منقذي من ورطتي".

ولهذا تراجعت خطوة تلو خطوة إلى الوراء، ثم جلست على الرصيف منهكة: ماذا كان يفعل أبي حينما يتوه؟

لطالما أخبرني عن الطرق الجانبية، وصفته التي لا تخيب. يدخل من شارع إلى آخر، ومن حارة إلى أخرى. يميل، يتعرّج، يتلفت، لكنه في النهاية يصل إلى وجهته. لكني لا أعرف وجهتي. فكرت أن أسأل الناس، لربما يدُلني أحدهم، لكنني مشتتة.

ربما لأن اليوم تمر ذكرى وفاة والدي، أو ربما لأنني أضيّع أيامي في عمل لا أطيقه، أهرب من البيت لأي حفرة تدفنني داخلها، لا أريد أن أفكر في أحلامي وأفكاري التي رميتُها خلف ظهري، فأنتبه من شرودي لإحدى السيدات تقترب مني، وتتأمل وجهي ثم تقولها مسرعة: "إنتي عاملة في نفسك كده ليه!؟"، و ترحل. تتركني أغرق في صمتي، لأنني كالعادة لم أكن أملك أي إجابة، فأدركت لحظتها أنني طالما حملت بداخلي قائمة طويلة من الأسئلة، لكن ورقة الإجابات ظلت فارغة.

قبل أن أخرج من باب البيت، تعاركت مع أمي، فقالت كلمتها المعتادة: "إنتي مش نافعة في حاجة". بالضبط كمعلمتي في مدرسة الثانوية، كانت تردّدها دائماً وهي تمسك إحدى خصلات شعرها من تحت حجابها، وتصرخ: "وحياة شعري ده ما انتوا فالحين في حاجة"

*****

صباح هذا اليوم، قبل أن أخرج من باب البيت، تعاركت مع أمي، فقالت كلمتها المعتادة: "إنتي مش نافعة في حاجة". بالضبط كمعلمتي في مدرسة الثانوية، كانت تردّدها دائماً وهي تمسك إحدى خصلات شعرها من تحت حجابها، وتصرخ: "وحياة شعري ده ما انتوا فالحين في حاجة". ربما تقولها أمي في لحظة غضب، لكن معلمتي كانت تؤكدها لي، ولهذا خرجتُ من البيت حائرة. ماذا لو كنتُ حقاً لا أصلح لأي شيء؟ ماذا لو الجميع على حق وأنا وحدي على خطأ؟

في الحادية عشر، كنت في سنتي الأخيرة من المرحلة الابتدائية، وكان لدينا حصة احتياطية، وهذا يعني أن معلم المادة غائب ويحل محله معلم آخر، سمح لنا بالتحدث مع بعضنا، وبفطرتي كنت تلقائية، أضحك وأتحدث بصوت عالٍ، فنهرني المعلم قائلاً: "إنتي يا بنت! صوتك وحش! البنات صوتها واطي ورقيق!"، لكني لم أفهم لماذا يجب على الفتيات أن يخفضن أصواتهن؟ وماذا يعني بـ "صوتي وحش"؟ لأنني أذكر خالتي كما كانت قوية وودودة وجميلة أيضاً، لكنها كانت تملك صوتاً غليظاً. أهذا يعني أنها لم تكن امرأة بما يكفي؟

*****

في الثالثة عشر، أمرنا المعلم: "طابور مظبوط!". اعتدلنا وسرنا بخطوات منضبطة حتى وصلنا المكتبة، تلك الحصة التي تتيح لنا اختيار كتاب نريده حقاً، دون التفكير في حسابات أخرى، مثل هل سينال رضا الآخرين أم لا، وعلى هذا الأساس اخترتُ إحدى القصص وجلست لأقرأها، ثم لاحظت مراقبة أمينة المكتبة ساقي التي تظهر من تحت الجونلة، وحينما رنّ الجرس، جذبتني وخفضت من صوتها قائلة: "إحنا في مدرسة مشتركة، يعني في ولاد معاكي. تحبي يبصوا على رجلك؟ خلي ماما تجبلك جيبة أطول من كده".

لكني لم أفهم فتساءلتُ: "بس المدرّسة مقالتش حاجة". قاطعتني مسرعة: "مش مهم المدرّسة، أنا بكلمك لنفسك، عيب! ميصحش تقعدي بجيبة قصيرة قدام الصبيان"، وقبل أن أجيبها، مرّ من أمام المكتبة صفّ طويل من التلاميذ متوجهاً إلى حصة الألعاب، وكانوا يرتدون سراويل قصيرة فوق الركبة، لكنهم بالطبع صبيان ولهذا لم يعترض أحد. ولكن بالعودة إلى مغزى الحصة، إذا كنتوا تعلمونا التصرف بحرية، فلماذا يجب أن أختار ملابسي وفقاً لما يتناسب مع الرجال، وليس بما يناسبني؟

في نفس العام، تحاصرني حصة أخرى تُدعى التدبير المنزلي، نطبخ ونخيّط ونثرثر ونضيع الوقت. كنت أكرهها بشدة، ثم اكتشفت أن هناك نشاطات أخرى، كالزراعة مثلاً، لطالما تأملت أبي وهو يزرع، حتى شرفتنا الصغيرة لم تثنه عن هوايته، فكان يجلب البذور ويدفنها في الطين. ثم يصبر، يتروى، ولا ينسى أبداً أن يرويها.

لماذا المدرسة لا تشبه أبي؟ ولماذا لم يخبرني أحد أبداً؟ ثم أجابتني إحدى صديقاتي بلا مبالاة: "هتختارى إيه يعني؟ ما الطبيعي انك هتدخلي تدبير منزلي"، أي أن تلك طبيعة الفتيات، يدبرن أمر المنزل. لكن ما العمل إذا لم تكن تلك طبيعتي؟

في السابعة عشر، معلمتي التي تكره البنات تدفع باب الفصل لتبدأ حصتها، وكنتُ أُسميها "حصة العاصفة"، فتبعاً لحركات جسدها التي ترسم الشدة والصلابة، وحتى طريقة سيرها كأنها عسكري لا يتهاون، فكانت تصرخ في وجهنا وتقول إنها لا تحب "مياعة البنات"، ولهذا كانت دوماً غاضبة، كل تفاصيل وجهها تتعارك مع بعضها البعض، ورغم أنها كانت أكثر المُعلمات التزاماً بعباءتها الواسعة وحجابها محكم الغلق على رأسها، لكنها كانت سليطة اللسان، وطالما ردّدت كلماتها: "بنات خايبة" أو "يا جايبة البنات يا شايله الهم للممات"، وهكذا تستمر حتى تنتهي العاصفة، ثم تحل محلها لحظات صمت بسيطة، وحينها كنت أرفع وجهي وأتأملها وهي واقفة عند الشباك، فيتسلل شعاع الشمس بهدوء على بشرتها البيضاء، ثم تتلألأ عيناها العسليتان وتلمع رُغماً عنها، الغريب أنها كانت امرأة جميلة، ولهذا لم أكن أفهم لماذا تكره نفسها؟ ولماذا تريدنا أن نكره أنفسنا أيضاً؟ ما الذي تعلمته واختبرته لتكون امرأة غاضبة تجاه نفسها وتجاه كل النساء؟

جذبتني إحدى السيدات بعيداً، وقالت: "اهدي خلاص، ايه لازمة التهليل و الصوت العالي". قلت: " ده حيوان ولازم يتربى! انتي عارفه قال ايه؟". قالت: "مهما قال، اسمعي من ودن وخرجي من الودن التانية، لأنك بنت وهو راجل، يعني ممكن يضربك ولا يعورك، متقدريش تعمليله حاجة!"

*****

في التاسعة عشر، تجذب أمي عصا المقشة وتبدأ في كنس الغرفة قائلة: "لأ، سمر ملهاش في شغل البيت"، وتعدّد لي كل الأشياء التي لا أحبها: تنظيف وطبخ وغسيل مواعين، فأنهض على مضض وأكنس بدلاً عنها، فترد قائلة: "هتبقي ست بيت إزاي؟ هتشيلي بيت لوحدك إزاي؟"، وحينها يؤنبني ضميري لأني حقاً لا أحب الأعمال المنزلية، لكني أقوم بها على أي حال.

هل يجب أن أقع في غرامها حتى أصبح "ست"؟ ولماذا لا تطلب من أخي أبداً المشاركة في تلك الأعمال؟ وحينها يجيبني أبي بفعله لا بكلامه، ويتجه لنشر الغسيل، فتلحقه أمي في الشرفة قائلة: "ادخل يا عبد العاطي! الناس لمّا تشوفك بتنشر الغسيل يقولوا علينا إيه؟"، لأنها ببساطة تؤمن أن هذ الفعل يقلّل من قيمتها كامرأة، وبالتالي يقلّل من أبي كرجل، لكنه على عكسها كان يصمّم أن يعلمنا مسؤولية الإنسان عن خدمة نفسه، بغض النظر عن كونه ذكراً أو أنثى، لأنني كنت أسأل دوماً لماذا عليّ كامرأة شيل البيت وحدي؟ لماذا عليّ أن أقبع في حصة التدبير المنزلي طوال حياتي؟

في العشرين، تعرّضت لموقف تحرّش لفظي، أذكر انني كنت أنتظر على الرصيف ليلاً، مرّ بجانبي شابان، فقال أحدهما للآخر من باب السخرية: "ما تيجي نضربها على قفاها"، وانفجرا يضحكان سوياً، لكني لم أتحمل أن يتم التعامل معي على انني ملكية عامة، مجرّد "شيء"، حائط مثلاً، يمكن لأي شخص أن يفعل به ما يريده دون أن يكون لي حق الاعتراض حتى، ولهذا واجهتهما وصرخت بهما، فاشتدّ العراك وتجمع الناس يحاولوا التفريق بيننا، فجذبتني إحدى السيدات بعيداً، وقالت: "اهدي خلاص، ايه لازمة التهليل و الصوت العالي". قلت: " ده حيوان ولازم يتربى! انتي عارفه قال ايه؟". قالت: "مهما قال، اسمعي من ودن وخرجي من الودن التانية، لأنك بنت وهو راجل، يعني ممكن يضربك ولا يعورك، متقدريش تعمليله حاجة!".

و كدت أن أصرخ بها، لكني نظرت إلى ابنتها الصغيرة التي تتمسك بذراعها، وشعرت بمرارة وحزن جارف، فماذا تعلمها أمها؟ تلك النصيحة التي قذفتها في وجهي تدفعني دفعاً باتجاه "الخضوع والاستسلام والاختباء"، فلماذا يوجهونا ناحية "مبدأ الضعف" عوضاً عن "القوة"؟ ما العيب إذا أخبرونا أننا -كفتيات- بإمكاننا الدفاع عن أنفسنا، بدلاً عن أن يؤكدوا لنا بأننا ضعيفات لا يمكننا فعلها؟

في الخامسة والعشرين، تركني حبيبي. رفع الهاتف وقال: "إزاي تتصرفي لوحدك من غير ما ترجعيلي"، يومها تأخرت جداً ولم أتصل به ليقوم بتوصيلي، كل ما فعلتُه أنني ساعدت نفسي دون أن أهرول إليه، في موقف بسيط لا يستحق، هذا ما تعلمته من أبي وأخبرني إياه: "إنتي تقدري تتصرفي لوحدك"، فصدقتُه، هل هذا خطأي؟ لأن الرجل الذي ارتبطت به رفضني على الفور حينما فعلتها، واعتبر نفسه مسؤولاً عني، بالضبط كالمجتمع يرفض أن أكون مسؤولة وأتصرف وحدي، ولهذا أتساءل: لماذا يرفض المجتمع أن يكون لي وجود؟ لماذا يمحيني؟

ولماذا عليّ أن أتبع قواعده، ألف وأدور وأعيش في كذبة حتى أنال رضاه التام؟

ماذا لو كنت حقاً لا أصلح لأي شيء؟ بالتأكيد لا أصلح، كل الأشياء التي لا أريدها ولا تشبهني، لا يهمني أن أصلح لها، ولهذا اتخذت قراري ونهضت من فوق الرصيف، رفعت رأسي ونظرت إلى السماء ثانية

*****

"لو كان بابا هنا": قلتها وأنا أرفع وجهي ناحية السماء، أُعدد كل النجوم التي تنير عتمة الظلام إلا عتمتي، رحل أبي وتركني في غربة تحيطني من كل جانب، ربما لو كان هنا لربت على كتفي في حنان وأعانني على النهوض، كما كان يفعل دوماً كلما اشتد العراك بيني وبين أمي، ثم يقولها: "سبيها تختار طريقها بنفسها"، لكن كيف، أخبرني يا أبي؟

أنا هنا ما زلت تائهة، لا يأويني إلا الرصيف، تمر الأقدام أمام عيني، تارة مسرعة تعرف طريقها جيداً، وأخرى متردّدة، تتراجع، تتلفت، ربما تبحث.

للحظة توقف عقلي عن التشويش، وأخبرني أن سؤال السيدة لم يكن: "إنتي عاملة في نفسك كده ليه؟"، إلا إعادة لضبط البوصلة، فلماذا أنا مشتتة إلى هذا الحد؟ كأني طائر صغير، علق ذات مرة في فخ، أخذ يستغيث ويستغيث، وحينما لم يساعده أحد، ظل في مكانه سنوات طوال على تلك الحالة، رغم أنه يملك جناحين بإمكانهما أن يحرراه من عثرته، لكنه لم ينتبه لهما أبداً.

أعني أن التجارب الماضية لا تصنع المستقبل، إنها فقط توصل إلى تلك النقطة للتعلم، لأستلم زمام الأمور و أقاوم ذلك الفخ، لأكفّ عن السير في الطرق الجانبية، لأنها لن تفلح! لا وصف الناس ولا وصف أبي. كل له طريقته الخاصة.

وحينها حصلتُ أخيراً على إجابة عن سؤالي، ماذا لو كنت حقاً لا أصلح لأي شيء؟ بالتأكيد لا أصلُح، كل الأشياء التي لا أريدها ولا تشبهني، لا يهمني أن أصلُح لها، ولهذا اتخذت قراري ونهضت من فوق الرصيف، رفعت رأسي ونظرت إلى السماء ثانية:

كانت هناك نجمة

نورها ساطع رغم ارتعاشه

تسبح في طريقها وتتخطى كل النجوم

لم تتبعهم، ولم تقف ساكنة

تلك النجمة هي أنا

وذلك الطريق طريقي

وسأصنعه بيدي مهما كلفني الأمر.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image