شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
وائل الدحدوح... عندما يتحول الإنسان إلى جبلٍ مبللٍ بالدمع!

وائل الدحدوح... عندما يتحول الإنسان إلى جبلٍ مبللٍ بالدمع!

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والحقوق الأساسية

الخميس 26 أكتوبر 202304:18 م


ونحو ذلك الخراب أنظر من بعيد: بلادٌ عهدها مع الأحزان كعهد الدنيا مع تعاقب الليل والنهار، يلفّها الوجع كالكفن! الساعة تدقّ مشيرةً إلى وقت نومي، والقلب صاحٍ على ساعة الحرب هناك، فالصباح على وشك أن ينفض عنه غبار قصف الليلة الماضية. لدي رغبة غير مفهومة في الكتابة. أريد أن أكتب عن وائل الدحدوح بصوته الهادىء الذي تحول مع مرور الويلات إلى شيء يشبه المورفين المسكّن لأخبار الموت التي اعتدنا سماعها في كل تغطية له! صوت وائل يسكّن وجع أخبار الخراب والموت، فتنزل أخف ألماً على قلوبنا، وكأنه يتعمّد ذلك خوفاً علينا وعلى قلوبنا التي تحولت إلى مستودعات لتخزين الوجع.

أسأل نفسي: كيف يمكن لإنسان أن يتحول إلى جبل؟ وائل وقف اليوم كجبلٍ مبللٍ بالدمع، فموت الضنى يضني القلب. ربما قدر البشر على مساحة تلك الأرض أن يولدوا جبالاً مبللةً بالدمع.

منذ أيام، وأنا أعاند العصبية التي تكبّل لساني وتغريه بالخرس، أو لأكون أكثر صراحةً هو الحياء! فكيف يمكن لنصٍ أن يعكس الوجع كما يجب أن يكون، وفي كل محاولة أكتبها يتحول النص إلى شيء يشبه شوكةً أو شفرة سكين حادةً لا بدّ وأن تغرز في قلب القارئ؟

في كل محاولة أكتبها يتحول النص إلى شيء يشبه ورقة النعي، مدجج بأسماء الموتى!

في كل محاولة أكتبها يتحول النص إلى شيء يشبه المشرحة أو المقبرة الجماعية!

في كل محاولة أكتبها يتحول النص إلى شيء يشبه كيس نايلون كان يُستخدم يوماً لحمل الخضروات والفاكهة لكنه تحوّل إلى كفن!

ربما كان من المفترض أن أبدأ مقالي هذا بتحذير القرّاء من أنّ قراءة هذا النص قد تصيبهم بالاختناق، وقد يحتاجون إلى أسطوانة أوكسجين بجانبهم. على كل حال.

أريد أن أكتب عن وائل الدحدوح بصوته الهادىء الذي تحول مع مرور الويلات إلى شيء يشبه المورفين المسكّن لأخبار الموت التي اعتدنا سماعها في كل تغطية له! صوت وائل يسكّن وجع أخبار الخراب والموت، فتنزل أخف ألماً على قلوبنا

لطالما كتبت عن البشر ممن تتحول أعينهم إلى أرحام حُبلى بالأحلام الميتة، فالمتعارف أنّ الإنسان عندما يبكي تخرج من عينيه مادة سائلة مالحة تُسمى الدمع، إلا أولئك البشر؛ عندما يبكون تخرج من أعينهم أحلام ميتة! ربما كنت أكتب عنّا وعنهم! صحيح أنّ الخراب هناك، والقهر المغلي هناك، والوجع هناك، والصواريخ تنزل هناك، لكنها تغرز في قلوبنا أينما كنّا...

أشعر بغصّة في قلبي، وأكاد أجزم بأنكم تشعرون بغصّة في قلوبكم أيضاً؛ هي تلك الصواريخ التي ما زالت تغرز في قلوبنا.

أصعب ما يمكن أن يعيشه الواحد منا اليوم، هو أن يكون سورياً يخزّن أوجاع غزة في قلبه، فقلوبنا تحولت منذ سنوات إلى مستودعات ضخمة لتخزين الأوجاع! نحاول جاهدين ترتيب قلوبنا والتخلص من بعض الأوجاع القديمة التي أكلها العث والفطريات نتيجة الرطوبة، وإيجاد مكان يستوعب الأوجاع الجديدة! هناك مثل شعبي سوري يقول: "يلي ما داق المغراية ما بيعرف شو الحكاية"، والمغراية هي العصا التي تُستخدم لتحريك الغراء في أثناء تسخينه! نحن نعرف تماماً طعم الخذلان، فقد ذقنا طعم المغراية عندما تحولت حكايات موتنا وبيوتنا المهدمة وأحلامنا المبتورة الأطراف إلى أخبار عاجلة على شاشات الأخبار شاهدها العالم من شرقه إلى غربه، ثم أكمل روتين يومه الطبيعي وكأنّ شيئاً لم يكن! أصعب ما يمكن أن يعيشه الواحد منا اليوم، هو أن يكون سورياً ولا يملك سنتيميتراً واحداً لتخزين أحزان جديدة. لا بدّ أن يصاب بسكتة قهرية!

أحاول الكتابة جاهداً. لا أستطيع التأكد من سلامة كلماتي لغوياً، فجثث الأطفال تتراكم على شاشة لابتوبي، وتحجب عني الرؤية. أصواتهم أسمعها جيداً. تطلب مني كتابة نص يصيب القارئ بالتعب!

منذ تلك التغطية التي تلقّى فيها وائل الدحدوح خبر مقتل زوجته وابنه وابنته وحفيدته، وأنا أسأل نفسي: كيف يمكن للإنسان أن يتحول إلى جبلٍ مبللٍ بالدمع؟ موت الضنى يهشّم فقرات القلب، ويشلّ اللسان، لكنّ وائل الدحدوح وقف أمام الكاميرا كالجبل ودموعه تحفر خدّه كجدول ماء!

كيف يمكن لإنسان أن يتحول إلى جبل؟ وائل وقف اليوم كجبلٍ مبللٍ بالدمع، فموت الضنى يضني القلب. ربما قدر البشر على مساحة تلك الأرض أن يولدوا جبالاً مبللةً بالدمع.

هل هي أقدارنا التي تحوّلنا إلى جبال مبللة بالدمع، أم أن تعاقب الويلات على بلادنا وتواريخنا وأيامنا جعلنا نمتلك جينات من حجر.

كيف يمكن لأبٍ أن يحمل ما تبقّى من أطفاله في كيس نايلون، ويمشي على قدميه إن لم يكن جبلاً مبللاً بالدمع؟

وجوه الناس باتت كالحةً كحديقة أطفال مهجورة. شبابٌ تحولت أحلامهم إلى شيء يشبه جدراناً قديمةً مكتظةً ببقايا أوراق نعي ممزقة، وبقع البصاق والبول الجاف.

أنظر إلى تلك البقعة من الأرض، فتضيع مني لغتي ويتحجر لساني كشاهدة قبر لجثة مجهولة.

كيف يمكن لقلوب البشر أن تمتلك ما يكفي من قوة لتتحمل ذلك كله؟

لا بدّ أنّ الوجع تحول إلى شيء يشبه الزكام في بلادنا العربية التي يلفّها الصمت كمنشفة مشبعة بالوحل!

عندما يتحول الإنسان إلى جبلٍ مبللٍ بالدمع، يصبح الوجع عادةً؛ نألفه ويألفنا ويرافقنا إلى قبورنا التي أصبحت جماعيةً، ربما حتى لا نشعر بالملل!


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard