من الأهداف عير المعلنة للثورة صعود الأنا. تحقق نجاحٌ جزئي، مرحلي، للانعتاق من عسكرة تتخذ طابعاً دينياً أو غير ديني، وتمسخ بصمة الفرد؛ فيصير شبيها بغيره في القطيع. هناك دائماً أخ أكبر معروف، أو مجهول إلا لصفوة تدير وتبلغ الأوامر. الأخ الأكبر قد يكون قبراً يحكم، فكرة أو رصاصة في كتاب قديم. وبعد كانون الثاني/يناير 2011 صعدت الثورة، وتأكد الأنا. للمرة الأولى تُنتقد مؤسسات دينية كان الاقتراب منها محظوراً، الكنيسة والأزهر. وكذلك القضاء، والأداء السياسي للمجلس العسكري الحاكم، فضلاً عن تمردات فردية وانشقاقات في تنظيمات دينية مغلقة. وأجريت انتخابات لعمداء الكليات ورؤساء الجامعات. وبقيت خطوة تالية، مفصلية، هي تأكيد أنا الباحث.
تعثرت الثورة؛ فتأجل تحرير أنا الباحثين من قيود المشرفين على الرسائل العلمية. النكوص شمل أيضاً خسارة المكسب الثوري بالعودة إلى نظام التعيين لعمداء الكليات ورؤساء الأقسام ورؤساء الجامعات، وهذا كله يخضع لشروط أمنية لا أكاديمية. أن يكون المشرف على رسالة علمية لباحث "رسولاً"، كما قال أحمد شوقي، فهذا لا يمنحه قداسة، ولا سلطة سحق أنا الباحث، وإجباره على التسلح بالموروث العلمي، في كل رأي، والاستشهاد بالسلف. والباحث شهيد حتى ينجو من سجن المشرف. وإذا لم تحتفظ روحه بالنقاء، فستلازمه عقدة الاضطهاد، ولا يتحرر من ميراث القهر، ويعيد إنتاجه على غيره من الباحثين. ولا تنتهي هذه الدائرة إلا بثورة تنسف الإطار.
من الأهداف عير المعلنة للثورة صعود الأنا. تحقق نجاحٌ جزئي، مرحلي، للانعتاق من عسكرة تتخذ طابعاً دينياً أو غير ديني، وتمسخ بصمة الفرد؛ فيصير شبيها بغيره في القطيع
القيد الأكاديمي أثقل من القيود الاجتماعية والسياسية. وكلما قطع مغامر شوطاً لا يشهد المسار تعميقا للمجرى، وترسيخاً لقيمة الاجتهاد الفردي. هل يعيب البحثَ العلمي وجودُ روح الباحث؟ أناه، شكوكه وميوله، قدرته على الاختلاف حتى مع المشرف ولجنة المناقشة. لم يتم البناء على ما أرساه طه حسين. انتقد أستاذه الشيخ محمد المهدي، عام 1915، فغضب الشيخ وطالب بإلغاء عضوية طه حسين من البعثة، لولا تدخل أحمد لطفي السيد صاحب المقولة الشهيرة "الاختلاف في الرأي لا يفسد للودّ قضية". والقضايا تناقش بحكمة، لا بالهتاف الهابط إلى جماهير مستعدة للتصديق وللتصفيق. حتى في الجامعة تقمص وزير الأوقاف المصري محمد مختار جمعة شخصية الخطيب.
قلما ينتبه الخطباء إلى إغناء الميكروفون عن الزعيق. وفي 15 أبريل/نيسان 2018، كان وزير الأوقاف في جامعة الزقازيق يناقش رسالة ماجستير عنوانها "تجديد الفكر الديني في الإسلام"، وامتاز عن أعضاء لجنة المناقشة بالوقوف، في تقليد خطابي منبري غير جامعي، ولم يتخل عن الميكروفون، ولوّح بيسراه، زاعقاً بقوة مستمدة من المنصب السياسي، من دون أن يتحلى بوقار "الأستاذ". وأمر رئيسَ الجامعة بفتح تحقيق رسمي مع الباحث الذي قال إن الروح الإسلامية بمصر ضعيفة. بدلاً من وصف الباحث بأنه "حمار"، كان على الوزير ألا يناقش رسالة "فيها هذا الجهل وهذا الغباء"، أو يكتب تقريراً "علمياً" عن تهافتها؛ فالباحث ليس على خطى الأقدمين.
بعد كانون الثاني/يناير 2011 صعدت الثورة، وتأكد الأنا. للمرة الأولى تُنتقد مؤسسات دينية كان الاقتراب منها محظوراً، الكنيسة والأزهر.
في الرسائل الجامعية يختفي صوت الباحث. وإذا عارض رأياً عمره ألف سنة، أشار إلى نفسه بخجل: "ويرى الباحث كذا، ويذهب الباحث إلى كذا". والأولى أن يعتاد الجرأة ولو أخطأ، وألا يخرس صوته؛ فالأنا ليست جريمة منهجية. وقبل نحو مئة سنة نشر طه حسين كتابه "في الشعر الجاهلي"، الثورة المبكرة في قراءة الأدب والتاريخ والحياة الاجتماعية في الجزيرة العربية. من السطور الأولى تحضر الأنا الواثقة بصيغة الجمع: "فنحن لم نكتب هذا الكتاب هازلين ولا لاعبين"، ومنها إلى أناه: "أريد ألا نقبل شيئاً مما قال القدماء في الأدب وتاريخه إلا بعد بحث وتثبت إن لم ينتهيا إلى اليقين فقد ينتهيان إلى الرجحان".
لا يتجدد النقد الأدبي العربي. أحياناً تستعار نظريات نقدية بعد أن يغادرها أصحابها إلى اجتهاد آخر. وباستثناء الإبداع الأدبي والفني لا نكاد نرى إسهاماً عربياً لنقاد أو مشتغلين بالفلسفة يحلو لهم حشد كتاباتهم بمقولات وأسماء تصيب القارئ، للوهلة الأولى، بالرهبة. أما المجددون، كما قال طه حسين، فيدعون إلى "الثورة الأدبية". ومن دلائل الثورة أنه طالب الدارسين والقراء بالبراءة من القديم، استعانة بهذا الكتاب، ليكونوا "أحرارا حقاً"، فلا عصمة لقدماء حظهم "من الخطأ أعظم من حظ المحدثين". وأعلن أناه، بصراحة: "شككتُ في قيمة الشعر الجاهلي وألححتُ في الشك، أو قل ألحّ عليّ الشك، فأخذتُ أبحث وأفكر وأقرأ وأتدبر"؛ فكانت نظريته "الخطرة".
علاقة الباحثين في مصر بالمشرفين على الرسائل ملفٌ ملغوم. ليتها تقتصر على تبعية منهجية يحتمل الباحثون إكراهاتها، مؤقتاً حتى ينالوا الدرجة العلمية؛ فيتحرروا. أحد وجوه العلاقة إخضاع يقترب، أحياناً، من إحدى درجات القتل. لا سلطة على الأساتذة إلا ضمائرهم. لكن المرارة، لا أقول السموم، قد تنتقل إلى ضحايا يصيرون أساتذة، وينتقمون من باحثين جدد أبرياء. عرفت الدكتور محمد عبد الفتاح القصّاص (1921 ، 2012)، الذي ترأس الاتحاد الدولي لصون موارد الطبيعة. ثم قرأت سيرته "خطى في القرن العشرين وما بعده". سافر إلى لندن، عام 1947، لدراسة الدكتوراه في جامعة كامبريدج، حاملاً ميراثاً تقليدياً عن المعلم الذي كاد "أن يكون رسولاً".
في الرسائل الجامعية يختفي صوت الباحث. وإذا عارض رأياً عمره ألف سنة، أشار إلى نفسه بخجل: "ويرى الباحث كذا، ويذهب الباحث إلى كذا". والأولى أن يعتاد الجرأة ولو أخطأ، وألا يخرس صوته؛ فالأنا ليست جريمة منهجية
في لندن، وجد القصاص للرسول وللرسالة معنى حقيقياً. طلب منه أستاذه حضور عروض طلاب السنة النهائية لمقالات موسعة كلفوا بها في مجالات علوم بيئة النبات، وأن يناقش الأستاذَ في انطباعاته عن الطلاب. القصاص حضر العروض، ثم ذهب إلى الأستاذ، وقال إن الطلاب أحسنوا، "ولكني لاحظت أنهم يتناولون العلماء الرواد بغلظة تصل إلى سوء الأدب، وكان لهؤلاء العلماء لديّ قداسة الشيوخ الأوائل". رد عليه الأستاذ: "هذا أمر مقصود، فنحن نربي الأولاد على التحرر وشجاعة النقد ورفض القداسة للسابق والاستعداد الدائم لهدم القديم وبناء الجديد. ودلّني على أن تربية الطالب على شجاعة النقد تشحذ قدراته العلمية"، وتجعله أكثر ندية وجرأة على التجديد.
هناك، تسمح لوائح الجامعة بنجاح الطالب "إذا منعه المرض من حضور الامتحان وشهد له أساتذته باستحقاق النجاح". أما وجود أرقام سرية على أوراق الامتحانات هنا، وإخفاء أسماء الطلاب، فهو إجراء "يشكك في كمال نزاهة الأستاذ". القصاص سأل أستاذ علوم الزراعة في جامعة ريدنج البريطانية عن المؤهلات التي تشترطها الجامعة في الذين يريدون التسجيل لدراسة الدكتوراه. رد الأستاذ على الفور: "موافقتي". فموافقة الأستاذ المتمتع بثقة المجتمع العلمي تغني عن اللوائح، وتعني اقتناعه بجدارة الباحث "حتى لو لم يكن حاصلاً على الدرجة الجامعية الأولى". مثل هذه الأجواء تنعش الفكر النقدي، هناك. وهنا لا يتحرر الطلاب من الخوف، وبالدروس الخاصة تصير الجامعة مدرسة.
روح المعسكر تقتل حرية الطالب في التفكير، وتصادر حقه في الانتقاد. وبمسخ الأنا، وتعطيل ملكات البحث العلمي، لا يطمح الطالب إلى أكثر من النجاح، وضمان وظيفة، والانشغال بالترقي وما يلزمه من نفاق اجتماعي، وإرضاء رؤسائه. وما مأساة الدكتور نصر حامد أبو زيد بالتفريق عن زوجته الدكنورة ابتهال يونس، قبل نحو ثلاثين سنة، إلا ثمرة تربية لا تحتمل خروجاً على الأطر الموروثة، تقدس الروح الجمعية السلفية وتطمس الأنا. عرفتُ باحثين وعيُهم فارق. البعض اُبتلي بمشرف متوسط متعجرف، تتحطم حدود إدراكه، فيسعى إلى تحطيم تلميذه. والبعض حظي بمشرف كسول لا يناقش؛ لأنه لا يفهم ويخشى أن يبدو جاهلاً أمام تلميذه. المجد للأنا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...