انتبه جورج طرابيشي إلى أن طه حسين أول عربي يستخدم مفردة "المستقبل". أعلى العميد شأن الكلمة في كتاب "مستقبل الثقافة في مصر"، وهو يحلم بنهضة التعليم. ولم يكن في أشد حالات التشاؤم ليتخيل مساخر اللا تعليم في بلد تطحنه الديون، ويستمرئ عميان البصيرة إثقال المستقبل باستدانات سوداء، أسفلتية، لمشاريع استعراضية غير إنتاجية، وغير ذات جدوى، حتى إن رأس الدولة سخر علناً من دراسات الجدوى، مقدّما الارتجال المقترن بعدم المساءلة عن إهدار يصاديه إهدار نحو 150 مليار جنيه سنوياً على تعليم خارج المدارس، فالمدارس تحولت من مؤسسات تربوية، إلى بنايات لا يقربها التلاميذ إلا لأداء الامتحان، والفوز بشهادة النجاة من الجحيم.
مصر الآن: مدارس بلا تعليم. تعليم بلا مدارس. طلاب يكتسبون مهارة الحفظ لا الفهم. خريجون عاطلون. نوابغ يهاجرون. حفظة يصبحون وقوداً مثالياً للبيروقراطية، يصنعون مشكلة لكل حل، يضعون العصي في أسلاك العجلة، لا يخطئون لأنهم لا يعملون، عبدة التعليمات لا يجتهدون.
مصر الآن: مدارس بلا تعليم. تعليم بلا مدارس. طلاب يكتسبون مهارة الحفظ لا الفهم. خريجون عاطلون. نوابغ يهاجرون. حفظة يصبحون وقوداً مثالياً للبيروقراطية، يصنعون مشكلة لكل حل
والناجون من الجحيم يغذّون مراكز البحوث والشركات والمستشفيات في بلاد الشمال، شعبٌ يزرع ليحصد غيره، ويعي الشمال اللئيم أن شراء العبد أسهل من الإنفاق على تربيته، ويستبدل بالعبيد طامحين إلى الصعود، لا يراهنون إلا على التعليم. يغادرون بلا عودة، هجرة نهائية تضمن لهم حياة آدمية، وتؤمّن لأبنائهم تعليما ترعاه دول تنفق على دراسات الجدوى، ومؤسسات التعليم فيها هي المدرارس.
القبضة التي تعاقب على تغريدة، ومن أجل المراقبة قضت على أشجار الشوارع، لا يشغلها تلاميذ الشوارع. تتجاهل آلام أكثر من عشرين مليوناً في التعليم قبل الجامعي، يبددون الأعمار في اللهاث من درس إلى آخر، يحملون الحقائب والهموم، فهل تتسع أخيلتهم لسراب اسمه الانتماء؟ في طريقي إلى البلد، قبل أسبوع، صادفت تلاميذ في عدة قرى، في يوم جمعة لم يعد إجازة، تحملهم ميكروباصات وتكاتك إلى أقدارهم. الدروس الخاصة قدرٌ كاسح لا ينجو منه حتى تلميذ الحضانة، قبل دخوله المدرسة، يتلقى دروساً تسلبه نعمة الطفولة، وتجعله يكره العلم والتعليم والبلد والمستقبل. وتفتح عينه على فرص الهروب من الجحيم، ولو عبر مخاطرة البحر.
تآمر أنور السادات وحسني مبارك على المصريين، بتقسيمهم إلى جزر مختلفة الأحجام والقدرات، تعزلها أسوار نفسية، وإن تجاورت فلا تتفاعل.
تسأل الأهالي عن استعجال إثقال طفل الحضانة بهموم الدروس. بعد شهور يدخل المدرسة ويتعلم. يسخرون من السؤال، وقد تصالحوا مع هذا الوضع الشاذ، ويحتملونه بصبر المبتلى بمرض لا شفاء منه. يقولون بيقين: لا تعليم في المدارس. ولهذا المسكين الصغير إخوة وأقارب وجيران، سبقوه إلى البؤس، وقد مرّوا بهذه التجربة المريرة، ولا يزالون يتجرعون أنصبة متفاوتة في المراحل الدراسية التالية، ولا بديل للآباء إلا الإنفاق على التعليم خارج المدارس، في تحدٍّ لاتفاق صامت، تواطؤ بالإكراه، بين نجوم الدروس الخاصة وحكومة القبضة الأمنية على إنهاء مجانية التعليم، والانتقام من أحلام طه حسين. وفي العام الماضي أعلنها مسؤول بوزارة التربية والتعليم والتعليم الفني.
ففي 7 حزيران/يونيو 2022 نسبت صحيفة "المصري اليوم" إلى المستشار هشام جعفر المدير العام للشؤون القانونية بالوزارة قوله: "تتم مخاطبة وزير المالية لاتخاذ الإجراءات اللازمة لتحصيل الضرائب المستحقة". تصريح كارثي لم يكذبه مسؤول. ربما ينفعل غيري ويصف صراحته بالوقاحة؛ فالدولة لا تحصّل ضرائب إلا عن الأنشطة المشروعة، فهل تفتح الضرائب بابا للاعتراف الرسمي بمراكز الدروس الخاصة، وتُغني "السناتر" عن المدارس؟ خطوة تحمّس أباطرة أنشطة محظورة لاقتراح أداء ضرائب نوعية؛ ثمناً للسماح بممارسة أنشطتهم علانية. ربما يقترح تجار الآثار والمخدرات دفع ضرائب مضاعفة، وتنافسهم "السناتر" بالتبرع بمبالغ مغرية لجهات عليا، ويضاعفون أسعار الدروس، فتزيد الأعباء على الأهالي، وتتنوع الاحتيالات، وتنشر الجرائم.
تآمر أنور السادات وحسني مبارك على المصريين، بتقسيمهم إلى جزر مختلفة الأحجام والقدرات، تعزلها أسوار نفسية، وإن تجاورت فلا تتفاعل. نجحت الخطة المخادعة عن طريق التعليم الذي أصبح مجالاً مضموناً للاستثمار المحلي والأجنبي.
حتى أوائل السبعينيات كانت القسمة ثنائية بين تعليم رسمي مدني عام وتعليم ديني أزهري. ويصعب الآن حصر أنواع التعليم ومستوياته. في التعليم الحكومي الرسمي: مدارس للتعليم العام (عربي)، ومدارس تجريبية (لغات) بمصروفات، ومدارس المعاهد القومية (لغات) بمصروفات. وتوجد مدارس أجنبية ودولية ومدارس استثمارية (عربي، ولغات) يملكها أفراد. كما لجأت الجامعات الحكومية إلى منافسة الخاصة والأجنبية في التجارة والاستثمار، وتوجد أيضاً الجامعات الأمريكية والفرنسية والألمانية والبريطانية واليابانية والكندية.
قد يظن البعض أن للعشوائية اللا تعليمية دراسة جدوى سرية، لجعل التعليم لأثرياء يتأهلون لحكم شعب أمي. وحكم الأميين أسهل من متعلمين يفهمون، ويحترفون النقاش. والسناتر تضمن النجاح، وربما التفوق، لكنها تدمر التعليم الذي يربط الطلاب بالمدرسة، ويحقق التفاعل الإنساني بين الطلاب والمدرسين والإدارة.
السناتر تنهي مفهوم التعليم كعملية أكبر من تحصيل معلومات تنسى عقب الامتحان. اللا نظام غير التعليمي غير التربوي عير الآدمي (لا أقصد نظام الحكم بالطبع) يعلّب العقول، وينسف الخروج على الإجابة النموذجية، ويكرّس ثلاثية التلقين والحفظ والتذكر، ويستبعد أسئلة تحدد القدرة على الفهم والاستيعاب والاختلاف والابتكار والاستنباط والاستدلال. للتعليم، باعتباره "عملية" تربوية، مهارات تشمل التحليل والإبداع.
اللا نظام غير التعليمي غير التربوي عير الآدمي يعلّب العقول، وينسف الخروج على الإجابة النموذجية، ويكرّس ثلاثية التلقين والحفظ والتذكر، ويستبعد أسئلة تحدد القدرة على الفهم
لو وجدتْ دراسة جدوى سرية، من النوع الشرّير، لاستهدفت تكفير الشعب، وإشغاله عن التفكير في التغيير. التغيير رفاهية لشعب يئِنّ، ولم يعد يخجل من الأنين والشكوى والجهر بالسباب. وهم يرون أهمية تأديبه، بحرمانه من الاستمتاع بوقت الفراغ. أولياء الأمور يعملون ليلاً ونهاراً، أحياناً في أشغال خارج التخصص، لكفاية الحد الأدنى من احتياجات المعيشة. والأبناء لا يستريحون، ينهون سنة دراسية، فيبدأون أخرى. لا وقت للراحة، ولا أفق لآمال في المستقبل. المستقبل في مكان آخر. كان التعليم بوابة الطموح إلى فرص مستحقة للترقي الاجتماعي، والآن يتساوى المتعلم وغير المتعلم في البحث عن وسيلة للهروب، للخروج ولو إلى العدم. والرهان على انفجار قادم.
هي فين مصر؟
ابنتي "ملك" تتمنى الخروج، مثل جيلها كله، المتعلم منه وغير المتعلم. منذ ولادتها لم يتغير شيء في مصر، إلا إلى الأسوأ، باستثناء فكرة الحلم بنجاح ثورة 25 كانون الثاني/يناير. كانت، في الصغر، تفاجئني بأسئلة عن أمور ظننتها بديهية أحياناً، وأحار في الإجابة عنها. حاولت أمامها أن أتجنب أي كلام مجرد، لأنها تسألني مباشرة: "يعني ايه؟" عن شخص أو مكان أو موضوع. في بدايات عام 2006 كانت قد أتمت أربعين شهراً، وسمعت كلمة "مصر" في نشرة تلفزيونية، فسألتني:
ـ يعني ايه مصر؟
قلت لها:
ـ مصر هي بلدنا، اللي احنا عايشين فيها.
فسألتني في براءة:
ـ هي فين، أنا مش شايفاها.
إلى الآن لا أستطيع الإجابة عن سؤال: "هي فين مصر؟".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.