تقوم الفكرة الأساسية للجماعات الدينية التي تخلط الدين بالسياسة على أن الرباط الوحيد الذي يجمع بين المسلمين هو رباط العقيدة وليس الجنسية والوطن والقومية، فالأحزاب الدينية تشبعت بفكرة الحاكمية الإلهية والخلافة الإسلامية التي بشر بها العديد من نخبة الإسلاميين في القرن الماضي.
ينطوي ذلك بطبيعة الحال على خطورة بالغة تهدد طبيعة الدولة الحديثة، فكان من المنطقي اشتعال الصراع بين التقدميين الذين ينادون بفصل الدين عن الدولة حفظاً لطبيعة الدولة الحديثة، وبين الإسلاميين الذين يقولون إن الدين والدولة كل واحد، فلا دستور أو عقد اجتماعي سوى ما يقرره الخليفة وجماعة الحل والعقد، ولا سلطات حقيقية يمكنها أن تنافس أو تحاكم الخليفة/ الملك/ الرئيس الذي يقوم بدور الحارس على الدين والحافظ لشريعته.
من خلال كتابه الأشهر "في ظلال القرآن" دلل سيد قطب على نظريته في "الحاكمية" باعتبار أن الوطنية والقومية والجنسية "من مفردات المجتمع الجاهلي" تساوي في مضمونها مفردات العشائرية والقبلية
جذور رفض الوطن عند الجماعات
في كتابه الأشهر "في ظلال القرآن" كتب سيد قطب، أحد أهم منظري جماعة الإخوان المسلمين: "القاعدة التي ينطلق منها المجتمع المسلم والتي يقوم عليها كذلك، ليست علاقات الدم، ولا علاقات الأرض، ولا علاقات الجنس، ولا علاقات التاريخ، ولا علاقات اللغة، ولا علاقات الاقتصاد. ليست هي القرابة، وليست هي الوطنية، وليست هي القومية، وليست هي المصالح الاقتصادية. إنما هي علاقة العقيدة". وفي موضع آخر من الكتاب نفسه قال: "وقد حارب الإسلام هذه العصبية الجاهلية في كل صورها وأشكالها، ليقيم نظامه الإنساني العالمي في ظل راية واحدة: راية الله... لا راية الوطنية. ولا راية القومية. ولا راية البيت. ولا راية الجنس. فكلها رايات زائفة لا يعرفها الإسلام".
من خلال هذه السطور وغيرها، دلل قطب على نظريته في "الحاكمية" باعتبار أن الوطنية والقومية والجنسية "من مفردات المجتمع الجاهلي" تساوي في مضمونها مفردات العشائرية والقبلية. وبما أن الدين الإسلامي جاء ليلغي الحواجز بين قبائل العرب ليصهرهم في كيان واحد، فالإسلام إذن ضد الوطنية والقوميات ويجعل من دولة المسلمين واحدة يحكمها خليفة واحد.
وكذلك يقول الشيخ حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان، الذي ينقل عنه توفيق الواعي - أحد رموز الإخوان المسلمين - في كتابه "كبرى الحركات الإسلامية شبهات وردود" أن "وجه الخلاف بيننا وبين القائلين بالوطنية؛ هو أننا نعتبر حدود الوطنية بالعقيدة، وهم يعتبرونها بالتخوم الأرضية والحدود الجغرافية، فكل بقعة فيها مسلم يقول لا إله إلا الله، محمد رسول الله؛ وطن عندنا له حرمته وقداسته وحبه والإخلاص له والجهاد في سبيل خيره. وكل المسلمين في هذه الأقطار الجغرافية أهلنا وإخواننا نهتم لهم ونشعر بشعورهم، ونحس بإحساسهم، ودعاة الوطنية فقط ليسوا كذلك".
تحويل الدين إلى هوية جامعة وليس مجرد مكون من مكونات الهوية الفردية، بدأ مع عقيدة الولاء والبراء التي ورثها السلفيون عن الشيخ ابن تيمية الحراني
جذور نفي مفهوم "الوطنية"
تحويل الدين إلى هوية جامعة وليس مجرد مكون من مكونات الهوية الفردية، بدأ مع عقيدة الولاء والبراء التي ورثها السلفيون عن الشيخ ابن تيمية الحراني، وفيها يقول تلميذه ابن قيم الجوزية في كتابه أحكام أهل الذمة: "لما كانت التولية شقيقة الولاية، كانت توليتهم نوعاً من توليهم. وقد حكم تعالى بأن من تولاهم فإنه منهم، ولا يتم الإيمان إلا بالبراءة منهم، والولاية تنافي البراءة، فلا تجتمع الولاية والبراءة أبداً، والولاية إعزاز فلا تجتمع ومعاداة الكافر أبداً".
والمقصود أنه يحرم تولية الكافر أمر المسلمين، وهو ما يتنافى مع مفهوم المواطنة الحديث. ومجمل كلام ابن قيم الجوزية هو حصر مفهوم الوطن بالعقيدة فلا ولاء سوى لمسلم سني ولا براء إلا من كافر أو مبتدع. وهو ما يشرحه الداعية السلفي الشيخ شحاتة صقر في كتابه "الرد على اللمع": "من أصول العقيدة الإسلامية أنه يجب على كل مسلم أن يوالي أهلها ويعادي أعداءها، فيحب أهل التوحيد والإخلاص ويواليهم ويبغض أهل الإشراك ويعاديهم". والكفار في بنوده التي يحددها لمعاداتهم، هم كل من لا يدين بالإسلام.
وكان الشيخ محمد رشيد رضا الموصوف بالإصلاحي، من أبرز مؤسسي فكرة تعارض الوطنية مع الدين، حيث يقول في تفسير المنار: "قد اجتهد أولئك الطامعون المغوون بإفساد أفكار الشعوب الإسلامية وقلوبها. ومنهم من يشكك في أصل الدين، أي وجود الإله وبعثة الرسل. كما بثوا فيها دعاة السياسة يرغبونها في قطع الرابطة الدينية التي تربط بعضها ببعض، واستبدال الرابطة الجنسية أو الوطنية بها".
وفي موضع آخر من الكتاب نفسه يقول "طفق بعض هؤلاء (المتمدنين) الذين قطعوا روابطها بأيديهم، يفكرون في جعل الرابطة الوطنية لأهل كل قطر بدلاً من الرابطة الملية الجامعة لأهل الأقطار الكثيرة".
وتبقى إحدى أكبر إشكاليات هذا التفسير العقائدي لمفهوم الوطن هو: ماذا لو تخاصم الحكام المسلمون لتلك الدول، ما المعيار الذي يحتكمون إليه لفض النزاع؟
الإجابة يحملها الطرح نفسه، وهو الاحتكام إلى النص المقدس للفصل في الخلاف، لا إلى قانون دولي أو اتفاقات جامعة. بم يذكرنا هذا في التاريخ الإسلامي؟
هذا هو عينه ما توّج أزمة الفتنة الكبرى في حادثة رفع المصاحف الشهيرة بين عمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري، ونظراً للقصور الذاتي الشديد في تفسير النصوص وكذلك القصور الموضوعي في اختراع ترسانة هائلة من الروايات المستندة للأحاديث قويها وضعيفها التي باتت بحكم التاريخ نصاً دينياً مقدساً لا يجب الخروج عنه؛ يصبح هذا التفسير العقائدي للوطن إشكالية ضخمة، نعرف أنها مسؤولة تاريخياً حتى قبل تسميتها والتنظير لها في إنتاج مآسي الفتنة الكبرى بين المسلمين، وما أعقبها من حروب أهلية دينية وعشائرية وسياسية لم تتوقف حتى اليوم.
يقول الشيخ ياسر سلمي أحد دعاة الأزهر، أن الولاء والانتماء للوطن من أهم عناصر بناء الإنسان واستقلاله، لكن الجماعات الإسلامية لا تريد أناسا يتمتعون بالعقلانية والاستقلالية، إنما تريد تابعين يلتزمون بالسمع والطاعة
اعتراض وتوضيح من علماء الأزهر
يعلق الشيخ ياسر سلمي أحد دعاة الأزهر على ذلك الطرح، بأن الولاء والانتماء للوطن من أهم عناصر بناء الإنسان واستقلاله، "لكن الجماعات الإسلامية لا تريد أناسا يتمتعون بالعقلانية والاستقلالية، إنما تريد تابعين يتسمون بالسمع والطاعة، ولذلك فكل تيارات الإسلام السياسي عمدت إلى تحقير فكرة الوطن في كل كتاباتها وأدبياتها، وعلى لسان كل مُنظّريها ومؤيديها، فالوطن عندهم ما هو إلا حفنة من التراب العفن بزعمهم، وعمدت إلى جعل الانتماء الوطني مضاد للانتماء الديني، وهذا فكر مغلوط يجب تصحيحه، فالانتماء عبارة عن دوائر متداخلة لا يكر بعضها على بعض بالبطلان".
ويضيف سلمي في اتصاله مع رصيف22: "نتج عن هذا الفكر العفن خلق عداوة بين أبناء هذه التيارات الإسلامية المتطرفة وبين الدولة الوطنية، فقد رسخت هذه الجماعات في أذهان أتباعها قناعة راسخة مفادها أنه لا عودة للدين إلا بتدمير الدول وهدم الأوطان وتفكيك الجيوش الوطنية، ولذلك ينبغي على كل وطني شريف سواء كان مثقفا أو عالما أو شيخا أو إعلاميا أو فنانا أن يشاركوا في تصحيح هذه الصورة المغلوطة وإعادة الانتماء والولاء للوطن وإلى مؤسساته الوطنية".
وكان شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب قد أطلق في عام 2014 حملة بعنوان "حب الوطن من الإيمان " وصرح أيضاً في عام 2016 بأن "الولاء لأي دولة أخرى خيانة وأن الواجب على الناس أن يدافعوا عن وطنهم الذين يعيشون فيه ولا يخرجوا على قوانينه وأنظمته".
ومن خلال تصريحات وفتاوى فقهاء الأزهر يتضح أن مفهوم "الوطن" مرتبط شرطياً بالدولة الحديثة، فمن يوالي هذه الدولة ومؤسساتها يؤمن به، ومن يرفض هذه الدولة يرفضه بالتبعية، ومن الواضح أن مواقف الجماعات الإسلامية الرافضة للوطنية مبنية على رفض لشكل ونظرية الدولة الحديثة الذي تعارف عليه العالم منذ القرن الـ18، حين بات الدستور عقد اجتماعي مُلزِم بين الحاكم والمحكوم، وعلى أن الدولة كيان اعتباري تحكمه سلطات مستقلة عن بعضها يكون اختيارها مبنيا على رضا الشعب بالانتخاب، وهو ما اصطلح عليه بالديمقراطية، فيكون رفض الوطن واعتبار الدين والعقيدة هي الروابط الوحيدة التي تجمع الناس يكون رفضا آليا للدولة الحديثة ومنتجاتها كالدستور والديمقراطية كما شرحها ماكس فايبر، ووسائلها كحقوق الإنسان وحق الانتخاب والمواطنة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...