يردّ رئيس مجلس السيادة، قائد الجيش، الجنرال عبد الفتاح البرهان، على الأحاديث الرائجة عن وجود تصدعات في صفوف الجيش السوداني الذي يخوض معركة كسر عظم ضد قوات الدعم السريع (شبه العسكرية)، منذ ما يزيد على ستة أشهر بعبارة: "الجيش على قلب رجل واحد"، فهل هذا صحيح؟
ولمعرفة ما إذا كان عناصر الجيش يقاتلون في سبيل حسم المعركة مع قوات الجنرال محمد حمدان (حميدتي)، كأنهم بنيان مرصوص، سنحتاج إلى مقاربة الأوضاع بواقع الميدان.
بعد مضيّ ستة أشهر على حرب 15 نيسان/ أبريل، لا يزال الجيش بعيداً كل البعد عن تعهداته بالحسم العسكري، حيث تدين معظم العاصمة الخرطوم لسيطرة قوات الدعم السريع، والمتبقي من مقارّ الجيش العسكرية فيها، قابع تحت حصار القوات شبه العسكرية.
خارج الخرطوم، يبسط الدعم السريع نفوذه على معظم إقليم دارفور، وأجزاء من إقليم كردفان، في ظل هجمات مستمرة لعناصره في الولايات المتاخمة للعاصمة الخرطوم.
تقول إحصائيات أممية إن ما يزيد عن 9 آلاف سوداني قضوا في الحرب الجارية، ونزح ما يزيد عن 7.4 ملايين آخرين، في وقتٍ تعرضت فيه البنى التحتية لدمار غير مسبوق.
ما حقيقة التصدعات التي تحدث في صفوف الجيش السوداني؟
سلاح الملل
لإظهار مدى تماسك الجيش، نبدأ من آخر حدث، أو الحدث الخاص بالبيان الصادر عن ضباط الدفعات من 39 وحتى 43، تحت اسم "شرفاء القوات المسلحة"، الذين أمهلوا خلاله البرهان 72 ساعةً -انتهت في 19 تشرين الأول/ أكتوبر الجاري- لاتخاذ القرارات الحكيمة التي تُخرج البلاد من النفق المظلم، أو أن يتولوا هم "مسؤولية اتخاذ هذه القرارات"، دون إعطاء مزيد من التوضيحات.
وحثَّ البيان الذي اطلع عليه رصيف22، قادة الجيش والدعم السريع، على الجنوح إلى الحل السلمي، وحذّر في الصدد قوى سياسيةً -لم يسمّها- من محاولات اتخاذ الجيش مطيةً للوصول إلى السلطة.
ويعكس البيان طبقاً للمحلل العسكري، العقيد سلمان الضي، أبرز المعضلات في صفوف الجيش، والمتعلقة بطريقة حسم الصراع الجاري مع ميليشيا الدعم السريع "حسب توصيفه".
يقول الضي لرصيف22، إن إطالة أمد الصراع تزيد من قوة التيار الرافض لخيار الحسم العسكري الذي يتبناه البرهان، ويدفع نحو الحل التفاوضي.
ولفت إلى ما وصفه بتنامي حالة الملل داخل الجيش من استمرار الحرب، خاصةً أن القوات المسلحة عجزت طوال الفترة الماضية، عن الإيفاء بتعهداتها المتكررة بحسم المعركة مع ميليشيا الدعم السريع، وإعادة النازحين إلى منازلهم.
وحذّر الضي من أن تقود النظرة المتباعدة بشأن الحل، إلى انشقاق في الجيش، خاصةً بين أفراده المحاصرين منذ بدء المعارك داخل مقار الفرق العسكرية.
سيطرة الإسلاميين
يُعد تنظيم الإخوان المسلمين الذي أطاحت ثورة شعبية بنظامه في نيسان/ أبريل 2019، معضلةً حقيقيةً للجيش.
فقد غذّى التنظيم الحرب الكلامية بين الجيش والدعم السريع قبيل الحرب، برفض إطار اتفاق لنقل السلطة إلى المدنيين، أيّده حميدتي، وانقلب عليه البرهان بعد أن وقّع عليه.
ومن ثم، عززت عقوبات الخزانة الأمريكية المفروضة على رموز التنظيم، الزعم السائد بأن عناصر التنظيم وراء إطلاق الرصاصة الأولى التي أشعلت الحرب المدمرة.
ولكنّ معضلة الجيش الحالية، تتمثل في أن انحياز التنظيم إلى خيار حسم المعركة مع الدعم السريع عسكرياً، تحول إلى واقع معيش بإلحاق عدد كبير من عناصر التنظيم المسلحين بالجيش عقب إطلاق البرهان نداء الاستنفار العام، وظهرت كتيبة كاملة باسم "البراء بن مالك"، قوامها الإسلاميون الراديكاليون وهي تقاتل في صفوف الجيش.
وصعد عدد من ضباط التنظيم إلى كابينة القيادة، وأبرزهم اللواء الصادق سيد، الموقوف في معتقلات الدعم السريع، بتهمة المشاركة في قتل ما يزيد عن 200 من المعتصمين السلميين المطالبين بالحكم المدني، في حزيران/ يونيو 2019.
وما زاد من مخاوف هذا الصعود الإسلاموي، أن صعود ضباط التنظيم -الصادق مثالاً- يجيء على حساب عدد من ضباط الجيش الذين قُتلوا في ظروف ملتبسة، وآخرهم قائد ثاني سلاح المدرعات اللواء أيوب عبد القادر.
يرى المحلل السياسي، أحمد عبد الباقي، أن علاقة البرهان بالإسلاميين ظلت مصدر أزمة في صفوف الجيش.
وشغل البرهان منصب المفتش العام للجيش، إبان عهد المعزول البشير، وحصل على تأييدهم بعد قراره الإطاحة بالحكومة المدنية الانتقالية في تشرين الأول/ أكتوبر 2021، ومن بعدها عمد إلى إطلاق سراح قادتهم الموقوفين على ذمة قضايا ضد الدولة وقضايا فساد، مع إعادة الأصول المصادرة إليهم.
ويقول عبد الباقي لرصيف22، إن العناصر المهنية في الجيش، ترفض بشكل قاطع محاولات البرهان لزج الجيش في مضمار الحياة السياسية، وتعارض ميوله نحو الإسلاميين، وتبني خططهم في العودة إلى السلطة، سواء بالتسامح مع إثارتهم للقلاقل، أو الحصول على تأييدهم في الإطاحة بالسلطة المدنية، وصولاً إلى تقوية نفوذهم داخل الجيش، ما يهدد بنسخة جديدة من حكم الإسلاميين، بالقوة والسلاح.
ويشير عبد الباقي، إلى أنَّ جنوح البرهان نحو الإسلاميين، بما في ذلك تبنّي خطابهم الرافض لكافة أشكال الحل السلمي لإنهاء الأزمة السودانية، يزيد من مخاطر التمردات والانشقاقات في صفوف الجيش، ضارباً المثل ببيان شرفاء الجيش الأخير الذي انطوى على اتهامات واضحة للإسلاميين وأنشطتهم لأجل تجيير الجيش لمصالحهم الخاصة.
لماذا يُعد تنظيم الإخوان المسلمين الذي أطاحت ثورة شعبية بنظامه، معضلةً حقيقيةً للجيش.
أزمة ولوم
علَّ أحد أكبر منغصات أحاديث التماسك في صفوف الجيش السوداني، تلك الخاصة بالسجل الأسود للبرهان مع قوات الدعم السريع.
ويعلم القاصي والداني، أن علاقة البرهان وحميدتي، قديمة، ونشأت إبان نشاطهما العسكري لصالح النظام إبان حرب الإبادة الجماعية في دارفور (2003-2008).
وخلال فترة حكم المدنيين، عارض البرهان كل محاولات الإصلاح الأمني، وعلى رأسها تفكيك قوات الدعم السريع، وظل يهدد بحسم كل من ينتقص من هذه القوات، بزعم أن "الدعم السريع خارجة من رحم الجيش".
وتغافل البرهان عن تمدد قوات الدعم السريع على حساب الجيش، وإمبراطوريتها الاقتصادية المخيفة، المؤسسة على إرسال قوات كبيرة للمشاركة في اليمن، والمسؤولة عن قطاع الذهب في كامل إقليم دارفور، حد أن تقارير صحافيةً دوليةً أشارت إلى أن حميدتي هو المصدر الرئيس لتغذية الخزانة الروسية بالذهب السوداني المهرّب الذي تُستخدم عائداته في غزو أوكرانيا.
ولم يحفل البرهان كذلك بمساعي الدعم السريع لتعزيز قواته، بما في ذلك إبرام قادته صفقات سريةً مع إسرائيل، وصلت طبقاً لتقارير غربية إلى الحصول على تقنيات تجسس إسرائيلية عالية المستوى وتحسين عتادها العسكري عبر امتلاكها أحدث مضادات الطائرات مع أنها قوات برية، ولم تنتهِ بزيادة قواتها من 13 ألف مقاتل في 2013، إلى 120 ألف مقاتل على أقل التقديرات قبيل اندلاع الحرب.
يؤكد ضابط برتبة وسطية في استخبارات الجيش العسكرية، طالب رصيف22 بحجب اسمه، أن عدداً كبيراً من ضباط وعناصر الجيش رفضوا ومنذ الوهلة الأولى للحرب، خوض غمارها كونها حرباً تخص البرهان ولا علاقة لها بالجيش.
ويقول إن البرهان هو من تسبب في الأزمة الحالية بتقويته لقوات الدعم السريع حد تحولها إلى ندّ للجيش ذاته، مضيفاً: "كيف يطالبنا البرهان بصرف ما صنعه بنفسه".
ويشير الضابط إلى أن عزل البرهان هو السبيل الأوحد في حال أردنا المحافظة على الجيش.
ضعف عسكري
من أبرز مآخذ الجيش على البرهان، الخاصة بأدائه العسكري في نصف السنة الماضية، ما يقوله المحلل العسكري، العقيد سلمان الضي، بأن أداءه الميداني كان مخيباً للآمال، إذ خسر الجيش على الرغم من قوته وخبراته، مقارّه الرئيسة بما في ذلك مصانع الإنتاج الحربي لصالح قوات الدعم السريع، وظلت قواته محاصرةً في مناطقها طوال الأشهر الماضية.
ويشدد على أن الكثير من الآراء تذهب إلى أن البرهان يتعامل بتساهل غير مفهوم مع قوات الدعم السريع، حيث يتباطأ في اتخاذ قرارات ميدانية مفصلية، تشمل تحريك سلاح الطيران، ما يؤثر على سير العمليات القتالية.
ويزيد أن تصريحات البرهان المتكررة هي سبب آخر في زيادة الفرقة بينه وبين الجيش، حيث وصف الحرب في أولى أيامها بأنها "عبثية"، ثم ها هو يطالب بخوضها حتى آخر جندي، كما أن خروجه من القيادة العامة المحاصرة منذ 15 نيسان/ أبريل الماضي، مثّل مصدر إحباط لدى الجنود الذين ما فتئ يقول لهم إنه لن يخرج منها "إلا منتصراً أو على نعش".
ويؤكد الضي أن على البرهان إظهار مزيد من الاحترافية والحزم والمرونة -بما في ذلك تغليب الحل التفاوضي- وإلا سينتهي الأمر بانفضاض الجيش من حوله إلى انشقاقات تنذر بتفكك أهم مؤسسة وطنية "حسب تعبيره".
وعلى أي حال، فإن الحرب الدائرة وتأثيراتها التي طالت الجميع بما في ذلك الجيش، تؤكد صحة إصرار القوى المدنية على إصلاح القطاع الأمني والعسكري، حيث أن صراعات الأجنحة العسكرية، والتصدعات المتزايدة في داخلها، لم تعد قضيةً هينةً، ولا تنذر بنقل الصراع إلى مستويات جديدة فحسب، وإنما تهدد بسقوط كامل للدولة السودانية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين