للحروب تداعيات منطقية أهمها اهتزاز الاقتصاد، وإذا كنا في صدد حرب أهلية، فنحن نتحدث هنا عن شبح انهيار يتجاوز مفهوم الاهتزاز ليقترب من الدمار التام.
أشارت تقارير الأمم المتحدة الصادرة في مطلع تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، إلى تراجع حاد في الاقتصاد السوداني بلغ قرابة الـ42%، نتيجة الصراع المسلح الجاري الآن في البلاد.
تزامنت إشارات الأمم المتحدة عن وضع الاقتصاد السوداني، مع بيان عاصف صدر من جهاز المخابرات العامة، اتهم فيه قوات الدعم السريع بالمضاربة على العملات الأجنبية، التي نجم عنها انهيار الجنيه السوداني أمام الدولار الأمريكي، حتى وصل إلى 860 جنيهاً لكل دولار.
ما حقيقة اتهامات المخابرات السودانية لقوات الدعم السريع بالمضاربة في العملات الأجنبية؟
بيان المخابرات السودانية
أصدر جهاز المخابرات العامة مؤخراً، بياناً رسمياً كشف فيه عن رصده قيام قيادات من قوات الدعم السريع وبعض المواطنين، بعمل ممنهج لتخريب الاقتصاد الوطني من خلال المضاربات في العملات الأجنبية، معلناً اعتزامه اتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة ضد أصحاب تلك التحويلات المشبوهة، سواء كانوا أفراداً أو مؤسسات تجاريةً أو خيريةً، داعياً السكان إلى عدم التعامل مع عناصر الدعم السريع وضعاف النفوس المتعاونين معهم.
الاتهامات التي وجهتها المخابرات العامة إلى قوات الدعم السريع بذلك الخصوص، بدت منطقيةً للبعض، في حين تعامل معها البعض الآخر بتوجس، مشيرين إلى تبعية المخابرات للجيش، وعليه فلا يمكن وصف تقاريرها بالنزاهة والحيادية.
لعنة المضاربات
مع تزايد وتيرة الحرب، بات معظم السودانيين يعتمدون على تحويلات المغتربين لتسيير شؤون حياتهم، بعد تعطل أعمالهم، وعادةً ما يلجأ المغتربون إلى السوق السوداء في التحويلات، للاستفادة من فرق سعر الصرف، حيث لا تزال المصارف تحدد قيمة الجنيه في حدود 635 جنيهاً مقابل الدولار الواحد.
المحلل الاقتصادي عثمان مالك، يتحدث إلى رصيف22، شارحاً المقصود بالمضاربة في السودان، قائلاً: "تتم المضاربة عبر شراء أكبر قدر من العملات الأجنبية في فترة زمنية وجيزة، بغرض التأثير على سعر الصرف، دون أن تكون لذلك علاقة بالتبادل التجاري اليومي".
ويسترسل الخبير الاقتصادي: "تتم المضاربة هنا علي يد 'تجار العملة' الذين يستغلون عدم وجود احتياطي نقدي كافٍ في البنوك، ويستحوذون على دولارات التحويلات، والمفارقة أن الحكومة نفسها تحولت إلى مشترٍ من السوق السوداء".
المخابرات مع أم ضد؟
يرفض المحلل السياسي طلال إبراهيم، إسناد الأمر إلى جهاز المخابرات، قائلاً لرصيف22: "حلول جهاز المخابرات الذي يُعدّ واحداً من المؤسسات التي تخضع لسيطرة الجيش، لوقف تراجع قيمة الجنيه، لن تجدي نفعاً لأنها أمنية فقط، بينما يتطلب الأمر حلولاً اقتصاديةً، هم بعيدون عنها البعد كله".
لكن المحلل الاقتصادي هيثم فتحي يشير بأصابع الاتهام إلى قوات الدعم السريع، ويقول: "الحرب مستمرة منذ نيسان/ أبريل الماضي، وكانت العملة مستقرةً نوعاً ما، لكن فجأةً انخفضت قيمتها مما يشير إلى وجود عمل منظم ومدبّر من قبل الدعم السريع". ويضيف: "من قام بعمليات السطو على فروع المصارف وودائع الجمهور وماكينات السحب الآلي والمنازل، يحتاج إلى تحويل هذه الأموال إلى عملات حرّة، ما يعزز حدوث مضاربات خاصةً أن رقابة البنك المركزي على التحويلات المالية معدومة".
يختتم فتحي، حديثه رافضاً بشدة إرجاع انهيار الجنيه السوداني إلى زيادة الواردات وضعف الصادرات، مشدداً على وجود توازن بينهما.
مع تزايد وتيرة الحرب، بات معظم السودانيين يعتمدون على تحويلات المغتربين لتسيير شؤون حياتهم
تبرئة أم تعبئة؟
الخبير الاقتصادي محمد الناير، يشير من جانبه قي حديثه إلى رصيف22، إلى أن المضاربات من عوامل انهيار العملة، لكنها ليست العامل الوحيد، إذ لا يمكن إغفال تداعيات تراجع حجم الصادرات، وضعف إيرادات الدولة على سعر الدولار.
ويبدي في حديثه إلى رصيف22، أسفه على عدم اتخاذ بنك السودان المركزي تدابير لمنع تحويل الأموال التي نُهبت واستبدالها بعملات حرّة، لتفادي انخفاض قيمة العملة المحلية. ويقول إنه "كان من الممكن أن يصدر البنك المركزي منشوراً يلغي التعامل بفئات الألف جنيه والـ500 جنيه، في المعاملات التجارية، شريطة إلزام البنوك بقبولها لتلافي تضرر المواطنين، بالإضافة إلى تنشيط التداول الإلكتروني عبر التطبيقات. وهو ما يجعل أي شخص، مرغماً، يأتي إلى المصارف للتعامل الرسمي عبرها، كما أنه يُعيد الكتلة النقدية إلى البنوك حيث أن 92% منها في أيدي الجمهور".
يختلف المحلل الاقتصادي عثمان مالك مع فتحي والناير، ويقول إن تقلص النشاط الاقتصادي والصادرات بما في ذلك الذهب الذي أُنتج منه طنان فقط، طوال فترة الحرب، وهي خمسة أشهر مقارنةً بـ18 طنّاً العام المنصرم، سبباً رئيسياً لتراجع قيمة العملة المحلية.
ويتوقع مالك، في حديثه إلى رصيف22، توالي الانخفاض في قيمة الجنيه، نظراً إلى ارتفاع مستويات المخاطر في الاقتصاد وخروج التدفقات الرأسمالية واعتماد البلاد بصورة شبه كلية على الاستيراد لتغطية احتياجاته بعد تعطل إنتاج المواد الغذائية والدواء نتيجةً لانعدام الأمن.
تآكل القدرة الشرائية
عادةً ما يرافق انهيار قيمة العملة، تآكل القدرة الشرائية للسودانيين الذين يُعاني نصفهم من انعدام الأمن الغذائي الحاد وفقاً للأمم المتحدة، بينما يوجد منهم أكثر من 6 ملايين شخص على حافة المجاعة، في وقت تزداد فيه صعوبات توصيل الإغاثة لهم.
لا يؤدي انخفاض قيمة العملة إلى زيادة نسبة التضخم وتآكل رأسمال التجار والمصارف والشركات فقط، بل قد يدفع الاقتصاد إلى حافة الانهيار، خاصةً إذا نظرنا إلى توقف الأنشطة الإنتاجية، وزيادة الإنفاق العام، وضعف التحصيل الضريبي، وقلة الصادرات وزيادة عجز الميزان التجاري الذي بلغ 6.7 مليارات دولار نهاية العام السابق.
في خاتمة المطاف، برغم تبادل الاتهامات، وإضفاء بعد سياسي على الأزمة التي تفاقمت مؤخراً، إلا أن عاقلاً لا يتصور أن هناك سبيلاً لإيقاف الانهيار المرعب للجنيه السوداني، قبل إبرام تسوية سياسية شاملة تُحقق الاستقرار. الذي من دونه سينهار الجنيه وتنهار معه حياة السودانيين المنهارة في الأساس.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...