شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
يساريون وعلمانيون يفتون: لا يفتي قاعد لمجاهد

يساريون وعلمانيون يفتون: لا يفتي قاعد لمجاهد

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن وحرية التعبير

الأربعاء 18 أكتوبر 202311:12 ص

تنتشر على مواقع التواصل الاجتماعي بأنواعها، منشورات من قبيل: "لا يفتي أهل الدثور لأهل الثغور"، و"لا يفتي قاعد لمجاهد"، و"أهل مكة أدرى بشعابها"، وغير ذلك من الجمل والتوليفات اللغوية ذات الطابع "الفقهي"، والتي تؤكد أن لا حق لمن لا يشارك في المعركة بأن يكون له رأي فيها. وبدراسة بسيطة لهذه المنشورات وأصحابها، فإننا نلاحظ عدة نقاط، أهمها:

أولاً، إن هذه الجمل ليس لها سند شرعي ولا يمكن تتبع مسارها لنعرف من هو قائلها على وجه الدقة، ورغم أن ذلك لا يجب أن يعني من هم خارج عالم الفتوى والفقه، إلا أنه، ومن منظور أولئك الذين يروّجون لهذه المقولات، لا يمكن معرفة الخلفية العقائدية، أو الشرعية أو حتى التاريخية، للمقولة. أقصد أنه من وجهة نظر دينية لا يوجد ما يدعم هذه المقولات والنظريات المشتقة منها.

ثانياً، يلاحظ أن من ينشرون هذه التغريدات هم أنفسهم من القاعدين لا من المجاهدين. وهذا يعني أن المنع يسري على فتوى القاعد للمجاهد، ولكنه لا يسري على فتوى القاعد للقاعد. أي أن هؤلاء الذين يروّجون هذا الكلام يستقوون على من هم معهم في نفس المركب، ونفس قلة الحيلة، إن افترضنا أن الجميع يجب أن يقاتل. ويبدو لي أن أغلبهم ينتمون إلى ذلك الصنف الذي لا يملك "فتوى" حقيقية، إن شئنا استخدام هذه المصطلحات، فيلجأ الفرد منهم لإعلان عجزه عن استصدار أو تكوين رأي خاص، باستعارة رأي جاهز يبرّر سكوته ويمنع غيره من الحديث.

البيئة الفكرية المرافقة لأي عملية نضال في بلادنا هي بيئة مقموعة سلفاً، إذ لا يمكنك أن تقدّم أو أن تتفوّه برأي مخالف للسائد، فما دام "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، و"لا يفتي قاعد لمجاهد"، فعليك أن تخرس مؤقتاً إلى أن ينجلي غبار هذه الجولة

الملاحظة الثالثة هي أن هذه اللغة لم تعد حكراً على الإسلاميين الذين يتعاملون مع الأحداث والأشياء من منطلق الفتوى لا من منطلق إعمال العقل، بل تعدت ذلك إلى منتسبي اليسار الفصائلي، ومن يعرّفون أنفسهم كعلمانيين أو نشطاء. والناشط السياسي، كما كتبت في مقال قديم، هو البديل العصري للمناضل. فما أسهل أن تكتسب هذا المسمّى دون فعل حقيقي ودون تنظير مفيد، إذ يكفي أن تكون مندفعاً ولديك الوقت الكافي والقدرة على الكلام، أي كلام. وحين يعجز هذا الشخص عن تشكيل رأي، أو حين يكون الحدث أكبر وأعقد من فكرته البسيطة عن السياسة، فإنه يفضل اللجوء إلى الكلام الجاهز الذي لا بد وأنه أثبت فاعليته في الماضي، وإلا لما ظل في سوق التداول.

على أية حال، وبغض النظر عمن يستخدمون هذه الفتاوى، فإن التمعن البسيط في معنى المقولة، وأهدافها، يأخذنا إلى زمن وبيئة "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر". ففي هذه البيئة تتمركز السلطة في قبضة النص الجاهز وأصحابه، لا في الحوار والنقاش المفضي إلى المصلحة. وحتى كلمة نقاش أو حوار في عالمنا العربي هي كلمة مجازية لوصف وجهات النظر المختلفة، ومن يحملونها أو يعبرون عنها، هذا إن استطعنا تسميتها وجهات نظر أساساً. وهي ليست وصفاً لعملية عقلية يقوم بها اثنان باستخدام البراهين والدلائل، فما نسميه في بلادنا "نقاش" هو في الحقيقة فتاوى متبادلة في أحسن الأحوال، والبرهان في هذه الفتاوى هو الماضي ومقولاته التي "تصلح لكل زمان ومكان"، وهو عملية خاضعة للتمنّي أو منبثقة عنه، وليست خاضعة لدراسة المعطيات وتحليلها واستنباط حُكم أو خلاصة منطقية بناءً على تطورها أو افتراض تطورها، ثم دعم هذا الافتراض ببرهان عقلي.

ما أريد قوله هو إن البيئة الفكرية المرافقة لأي عملية نضال في بلادنا هي بيئة مقموعة سلفاً، إذ لا يمكنك أن تقدّم أو أن تتفوّه برأي مخالف للسائد، فما دام "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، و"لا يفتي قاعد لمجاهد"، فعليك أن تخرس مؤقتاً إلى أن ينجلي غبار هذه الجولة. ناهيك طبعاً عن أن الفتوى عموماً هي إخراس للمخالف، فما بالك حين تأتي لتحسم جدلاً يخصّ الحرب، مع ما يرافق الحرب من أدرينالين وتيستستيرون لا يمكن السيطرة عليهما.

من هو المقصود بمصطلح القاعد في هذه الفتوى إن لم يكن يشمل مفكري وكتّاب البلد، إضافة إلى المناضلين السابقين والذين اكتسبوا المعرفة والتجربة عبر سنين عملهم ، وبسبب العمر "قعدوا"؟

لا نريد الحديث أيضاً عن كل من تعنيه الحرب أو تؤثر عليه لكنه لا يستطيع المشاركة فيها. هل علينا إسكات كل هؤلاء ونسلّم الميكروفون للمقاتل، مع كل إجلالنا للمقاتل ودوره وتضحياته؟ هل من المعقول أن نستغني عن النصيحة، وعن التوجيه، وعن الرأي الذي يبتغي المصلحة العليا لنا ولقضيتنا؟ ولماذا الافتراض أن الرأي المخالف يصبّ في خانة العدو ومصلحته؟ ثم لماذا الافتراض أن السكوت خيانة في حالات (كالتي نحن بصددها)؟ ألم يسمع أصحاب هذا الرأي بأن الصمت موقف أيضاً إن كان مقصوداً، أو هو عجز عن تقديم وجهة نظر، أو هو خوف أو عدم معرفة؟ هل على الشعب كله أن يكون دوماً بنفس السوية والاندفاع والمعرفة والجرأة؟

من هم هؤلاء الذين اجتاحوا وسائل التواصل وتجرأوا على إصدار الأوامر لنا بأن لا يفتي قاعد لمجاهد، وبأن أصواتنا لا يجب أن تعلو فوق صوت المعركة. المعركة التي يختارونها دون استشارة ضحاياها؟

لا بد من التذكير هنا بتاريخ حافل للحركة الوطنية الفلسطينية، تاريخ من الرأي والرأي المضاد، والفكر والفكر المختلف، والأخذ والرد عبر الصحف ومجلات الفصائل، وداخل قاعات المجالس الوطنية والمؤتمرات الحركية، دون تجييش للناس العاديين بأن يكونوا أداة لقمع وإسكات الطرف الآخر. ولا بد من التأكيد أن لا ثورة تنتصر دون أن يكون خلفها منظّرون لهم وزنهم، يقوّمون أخطاءها ويصحّحون عثرات مقاتليها. لا أن يتم إخراس أي صوت ناصح أو صوت مختلف.

فلا الدول ولا المجتمعات يمكنها أن تنجح باللون الواحد الوحيد. كما لا يمكن للفتوى الجاهزة المعمّمة إلا أن تكون وصفة جاهزة للفشل. فلماذا وكيف وصلنا إلى هنا؟ كيف تم تأسيس أرضية للقمع الفكري يقوم من خلالها الشعب بقمع نفسه وقمع نخبه الفكرية؟ لماذا حلّت مجموعات مؤدلجة من لون واحد محل التنوّع الذي لطالما كان السمة التي تميز هويتنا، والصيغة التي نصدّر عبرها أنفسنا إلى العالم وشعوبه الحية؟ كيف تم اختطافنا كشعب كامل ومسح عقولنا لنرفض ونخوّن المختلف، وكيف صار المختلف نفسه إما جباناً وإما فاقداً للجدوى ومنزوياً في قوقعته؟ ثم من هم هؤلاء الذين اجتاحوا وسائل التواصل وتجرأوا على إصدار الأوامر لنا بأن لا يفتي قاعد لمجاهد، وبأن أصواتنا لا يجب أن تعلو فوق صوت المعركة. المعركة التي يختارونها دون استشارة ضحاياها؟

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ذرّ الرماد في عيون الحقيقة

ليس نبأً جديداً أنّ معظم الأخبار التي تصلنا من كلّ حدبٍ وصوبٍ في عالمنا العربي، تشوبها نفحةٌ مُسيّسة، هدفها أن تعمينا عن الحقيقة المُجرّدة من المصالح. وهذا لأنّ مختلف وكالات الأنباء في منطقتنا، هي الذراع الأقوى في تضليلنا نحن الشعوب المنكوبة، ومصادرة إرادتنا وقرارنا في التغيير.

Website by WhiteBeard
Popup Image