تملّكني مزيج من الفخر والحزن والغضب والدهشة والذهول، وأنا أشاهد مئات من مقاتلي حركة حماس يعبرون الحاجز الفاصل بين قطاع غزة والعمق الفلسطيني في شجاعة منقطعة النظير، وبتكتيكات عسكرية في غاية الذكاء، أظهرت هشاشة الاحتلال الإسرائيلي لأرض فلسطين. لكن سرعان ما اعتراني رعبٌ شديد أعاد إلى ذاكرتي فصولاً دمويةً من قصف النظام السوري للمدن والبلدات في أعقاب أعمال عسكرية كانت تقوم بها الفصائل الثائرة على النظام السوري.
وطوال الساعات والأيام اللاحقة للعملية، حاولت فهم الأبعاد الإستراتيجية لمثل هذا النوع من التصعيد الهائل الذي قامت به الحركة. وليست هذه المقالة لمناقشة أو مساءلة حق الفلسطينيين في الدفاع عن أنفسهم بالطريقة التي يرونها، ومن خلال كل الوسائل المتاحة، وهو حق لا جدال فيه ضد الإبادة الجماعية التي تمارسها إسرائيل. ولا يمكن في أي حال من الأحوال، ومهما كانت نتائج العملية، أن تكون مسوّغاً لما ارتكبته وسترتكبه إسرائيل من جرائم بحق الفلسطينيين.
أناقش هنا مآلات العملية العسكرية من الناحية التكتيكية لفهم تبعاتها، مستنداً إلى تاريخ حركات التحرر العالمي، ومنها حركات "المقاومة الفلسطينية"، بالإضافة إلى مواكبة تجربة عمل فصائل الجيش الحر والفصائل الإسلامية في سوريا، والتي تتشارك مع حركة حماس البنية التنظيمية وسياق العنف الممارس عليها، سواء من قبل النظام السوري أو الاحتلال الإسرائيلي، حيث عرّت تلك الدموية المقولة التي حاول البعض ترسيخها بأن إسرائيل هي النظام الإنساني الديمقراطي الوحيد في المنطقة، وأظهرت تشابه الأنظمة الاستبدادية والمحتلة في سياسة القتل والإبادة.
فرضت ظروف المواجهة خلال السنوات الطويلة مع المحتل أو الأنظمة الدكتاتورية، أشكالاً مختلفةً للكفاح المسلّح، لكن تطوّر آليات الفصائل وهيكليتها، والتي نشطت في المقاومة على اختلاف جبهاتها، أوجد إشكاليات معقدةً استخدم معها "العدو"، سياسة الأرض المحروقة، وهي إستراتيجية تتبعها الأنظمة المحتلة أو المستبدة لتفريغ العمق الحيوي البشري والجغرافي للحركات المقاومة، والتي تجعل منها كيانات لا تقف على أرض ثابتة وتجعلها عرضةً لخسارات فادحة لا تُعوَّض، وأهمها العنصر البشري، وهو الأهم في مجمل الصراع، سواء مع الأنظمة الدكتاتورية أو مع قوات الاحتلال. فالهدف من المقاومة سواء ضد مستعمر أو مستبد، هو الحصول على الحرية وعيش آمن كريم يستطيع معهما الإنسان التطور فكرياً ومعنوياً والمساهمة في الحياة السياسية والثقافية والاقتصادية له ولأولاده من بعده.
لعل إحدى أهم هذه الإشكاليات وأعقدها، التباس بنية الفصائل المقاومة كلما كبر حجم تمويلها وتمظهرت أيديولوجيتها كسلوك سياسي وعسكري، حيث تتأرجح هذه الفصائل بين بنية "الجيوش النظامية" وعملها، وبين تكتيكات "حرب العصابات" وأساليبها
ولعل إحدى أهم هذه الإشكاليات وأعقدها، التباس بنية الفصائل المقاومة كلما كبر حجم تمويلها وتمظهرت أيديولوجيتها كسلوك سياسي وعسكري، حيث تتأرجح هذه الفصائل بين بنية "الجيوش النظامية" وعملها، وبين تكتيكات "حرب العصابات" وأساليبها.
المفهوم والآليات
من الضروري فهم الفارق بين الحرب النظامية وحرب العصابات. فإذ تبدو الأولى أكثر وضوحاً، فمن الأهمية اليوم، محاولة فهم أكبر لحرب العصابات، لأنها ترتبط بحركات التحرر والثورات التي في الغالب تبدأ بمجموعات صغيرة وأحياناً بأفراد، وتعمل على بناء تشكيلات صغيرة وأسلحة خفيفة تقاتل خلالها سنوات طويلةً. يلعب العنصر البشري في حركات التحرر والثورات دوراً في غاية الأهمية، وذلك لأن الروح المعنوية والبناء الثوري والتحرري يصعب بثهما في روح المقاتلين على مدار سنوات طويلة، وخسارة الفرد فيها خسارة لا تُقدَّر بثمن.
"إنّ أمّةً تكافح من أجل حريتها، تستطيع أن تلقي ما وراء ظهرها بما وضع للحرب من قوانين وقيود. ويمكن الأمة الصغيرة أن تواجه أعداداً أقوى منها بعصابات الأنصار والمخربين"؛ بهذه الكلمات التي كتبها كارل ماركس في تقرير صحفي كتبه لجريدة "نيويورك تربيليون" عام 1853، ووردت في كتاب "حرب العصابات" لأوبري ويكسون أوتو هيلبرون، أسس لما يُعرف بحرب العصابات في العصر الحديث، حيث استطاعت حروب العصابات تكبيد "العدو"، على اختلاف أشكاله، خسائر فادحةً. ففي الحرب العالمية الثانية، كبّد الجيش الثاني، أو ما عُرف بـ"الأنصار"، خسائر كبيرةً للجيش النازي، وأنهكه أكثر من الجيش الأحمر. كما أن حرب التحرير الكوبية كانت حرب عصاباتٍ بامتياز، وهو ما أكسبها زخمها وحيويتها.
وربما يُعدّ ماو تسي تونع المنظّر الأول لحرب العصابات، ففي كتابه "الحروب الصغيرة"، وضع أسس حرب العصابات ضد اليابانيين، وهو ما يمكن تلخيصه في مراحل عدة:
المرحلة الأولى: تتقدّم المجموعات (العدو)، وتتقهقر المجموعات المقاتلة، ويقتصر بعدها الدفاع على مناورات هجومية خاطفة يتفرق بعدها المقاتلون في رقعة جغرافية واسعة تهدف إلى سحق معنويات العدو شيئاً فشيئاً.
المرحلة الثانية: هي إجبار العدو على القتال طوال 24 ساعةً كل يوم، حتى تتلاشى قوته. ووصف ماو تسي تونغ حرب العصابات بأنها "سلاح ماضٍ ولكن لا يمكن أن يسحق العدو"، وقد شبهها بالبعوض الذي "تهاجم أسرابه الكثيفة عملاقاً فترديه بلدغاتها".
منع ماو تسي تونغ، دخول الأنصار في حرب حاسمة، أو حرب خنادق، فنشاطهم كان يقوم على المباغتة والحركة المستمرة.
ويمكن إيجاز نصائح ماو تسي تونغ المذكورة في "الحرب الصغيرة"، بمجموعة من النقاط الاستراتيجية. وتورد كلمة الأنصار هنا بناء على الكلمة التي استخدمها كارل ماركس في تقريره والتي تعني المجموعات الصغيرة المقاتلة، والنصائح كالتالي:
- ينبغي على الأنصار تفادي الاشتباك مع قوات متفوقة، وإذا ما واجهوا العدو المتفوق فعليهم أن ينسحبوا.
- المباغتة: يجب إعداد عمليات الأنصار، ويجب عليهم التصرف من عندهم.
- ينبغي توجيه الضربة الأشد إلى الفئات الأكثر ضعفاً في حال الاشتباك مع العدو، ويجب أن تكون قوات الأنصار أكثر عدداً، ويجب أن تكون قوات العدو في حالة حركة أو حالة توقف.
- شن غارات وهجمات عنيفة يمكن أن تكون إلى نتائج صاعقة.
"ينبغي توجيه الضربة الأشد إلى الفئات الأكثر ضعفاً في حال الاشتباك مع العدو، ويجب أن تكون قوات الأنصار أكثر عدداً، ويجب أن تكون قوات العدو في حالة حركة أو حالة توقف"، بحسب توصيات ماو تسي تونغ
أدّت الحروب الصغيرة لماو تسي تونغ إلى هزيمة الماريشال تشان كاي شك، وقيام الدولة الشيوعية على أنقاض الصين الوطنية. كما استخدم تشي غيفارا آليات مشابهةً في حرب العصابات شرحها في كتابه الذي يحمل الاسم نفسه "حرب العصابات"، وقد استخدمت حركات التحرر الوطني في العالم الآليات ذاتها، وطبّقتها تبعاً للبيئة والظروف الجغرافية والسياسية.
حرب العصابات في فلسطين
بدأت الثورة الفلسطينية بحرب عصابات، إذ يُعدّ عز الدين القسّام، من أوائل القادة العسكريين الذين أسسوا لحرب العصابات في بلاد الشام، وتحديداً في فلسطين، ضد العصابات الصهيونية. وكانت مجموعة القسّام تتحرك بين الجبال وتناوش الإنكليز، وكان مقتله في معركة "يعبد"، أحد أهم أسباب اندلاع الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936.
وبعد خسارة الجيوش العربية في النكبة، وسيطرة الاحتلال الإسرائيلي على الأراضي الفلسطينية، عادت حرب العصابات إلى الواجهة، وانبثق منها العمل الفدائي، وتشكلت جبهة التحرير الفلسطيني، وتطور العمل الفدائي في مختلف أنحاء فلسطين والعالم.
سعت معظم الفصائل الفلسطينية المنخرطة في العمل العسكري بمختلف أشكاله، إلى أهداف واضحة ساهمت في كسب تأييد عالمي مازال محفوراً في ذاكرة مئات الآلاف من دول العالم، الذين خرجوا في مظاهراتُ حاشدة رغم التضييق الأمني غير المسبوق في بعض عواصم دول "العالم الحر" كبرلين وباريس، وجعل من القضية الفلسطينية قضيةً عالميةً ورمزاً للكفاح والنضال العادل من أجل الحرية والعدالة.
وبالعودة إلى العمليات العسكرية التي قامت بها الفصائل الفلسطينية على اختلاف تكتيكاتها ومراحلها الزمنية، لم يكن هدفها إسقاط دولة إسرائيل، وإنما كانت ترمي إلى هدفين أساسيين هما:
- الدفاع عن النفس وهو ما رسّخه العمل الفدائي والعمليات العسكرية الفلسطينية.
- وكسب التأييد العالمي للضغط على إسرائيل وجرّها إلى المفاوضات وتنفيذ القوانين الدولية المتعلقة بالدولة الفلسطينية والقدس الشرقية كعاصمة لها.
أدّت عملية السلام مع إسرائيل إلى تغيّر ظروف العمل الفدائي وحرب العصابات، وإلى صعود القوى الإسلامية ومنها حركة حماس، وذلك ما أدى إلى تغيير آليات عمل الكفاح المسلّح وأساليبه، ولكن بقيت حرب العصابات مسيطرةً في تكتيكاتها على عمل الفصائل الناشطة ضد الاحتلال.
حرب العصابات في سوريا
صباح يوم جمعة، في منتصف شهر حزيران/ يونيو من العالم 2011، قام ثلاثة شبان في مدينة درعا البلد باستخراج ثلاث رشاشات كلاشنكوف مدفونة في إحدى مزارع البلدة، وشكّلوا حينها مجموعةً عُرفت باسم شهداء العمري، تحوّلت فيما بعد إلى كتيبة لواء توحيد الجنوب. كان قوام تلك المجموعة من المدنيين، وقد حاولت التنسيق مع منشقّين عن الجيش تمركزوا في منطقة بين نصيب والحدود الأردنية. أنهكت تلك المجموعات الأفرع الأمنية شهوراً عديدةً، وسمحت للحراك المدني بالتطور والنمو، حيث عملت على مناوشة دوريات الأمن التي توجهت لقمع المظاهرات. كما كبّدت الأفرع الأمنية خسائر بشريةً كبيرةً حيث أنها كانت مجموعات صغيرةً مؤلفةً من عدد من الأفراد، وتتميز بسهولة الحركة ضمن بيئة حاضنة تتيح التخفّي والرصد.
عملت تلك المجموعات على ضرب الحواجز العسكرية، وضرب مؤخرة الحملات العسكرية التي كانت تهدف إلى القيام باعتقالات واسعة. كذلك قام العديد من شباب الغوطة في دوما وحرستا وزملكا وعربين باقتناء بواريد قديمة من أجل ضرب خطوط الإمداد التي اعتمدها النظام، وقد قامت بعض المزارع في الغوطة بعمليات تدريب أشرف عليها منشقّون وبعض المدنيين. كما قام العديد من شباب مساكن بزرة من الجولان المحتل، بصناعة متفجرات يدوية كانت تستهدف اقتحامات الحملات الأمنية، واستهدفت بعض أهم الشخصيات العسكرية. كما قامت باختطاف شخصيات قيادية. حتى منتصف عام 2012، كانت حرب العصابات في مختلف المدن والمحافظات، إحدى أكثر الحروب إنهاكاً للنظام.
لم تستطع القوات الأمنية مواجهة حرب العصابات التي شُنّت في جميع أنحاء سوريا، والتي أنهكت الأفرع الأمنية وحيّدت الجيش كلياً عن ذلك الصراع. فالوحدات العسكرية لم تكن تستطيع مواجهة ما عُرف بالأشباح حينها. وتم الزج بالأفرع الأمنية في حرب منهكة وطويلة استنزفت الحل الأمني وسمحت للحراك المدني بالاستمرار، مما زاد الضغط على النظام وحدا بالكثير من القادة الأمنيين وفقاً للكثير من الشهادات، من كبار الضباط، للتفكير في تغيير شكل النظام السوري.
بدايات الثورة السورية، أنهكت المجموعات المسلحة الصغيرة، الأفرع الأمنية شهوراً عديدةً، وسمحت للحراك المدني بالتطور والنمو، حيث عملت على مناوشة دوريات الأمن التي توجهت لقمع المظاهرات
مع ازدياد حجم الفصائل العسكرية ونفوذها، سواء كانت تعمل ضد المحتل أو النظام القمعي، فإن الحاجة إلى التمويل تختلف، حيث تسعى العديد من القوى الدولية الإقليمية إلى مد هذه الحركات بالسلاح والذخيرة مما يؤدي إلى ارتهان جزء من قرارها بيد تلك القوى.
مشكلة الدين والأيديولوجيا
يخلط كثرٌ عن عمد، بين مسألتين مختلفتين، هما الانتماء الديني الذي يشكّل الخلفية الفكرية والنفسية لملايين من سكان المنطقة، وبين المشروع الأيديولوجي القائم على أساس سياسي، وهي مسألة معقدة مختلف عليها في التراث الإسلامي منذ ما يقارب ألف سنة، وما من متّسع هنا لمناقشتها.
الخلفية الإسلامية (أو المنظور الإسلامي)، سواء للثورة السورية أو للانتفاضة الفلسطينية، كانت جزءاً أساسياً منها بل لا يمكن فصلها عنها. ومفاهيم مثل الشهادة والتسليم والقضاء والقدر والجنّة لم تعنِ بالضرورة فرض نموذج معيّن لشكل المعارك والإدارة المدنية، لا بل سمح في الثورة السورية ببروز الحراك المدني من أوسع أبوابه.
لكن مع بدء دخول الأيديولوجيا، بدا الانقسام الحاد في نموذج الثورة السورية. وكان أحد أهم الأسباب في فشلها. ففي الحالة السورية، أدّت السيطرة اللوجستية (المادية)، على كثير من الفصائل التي أخذت بالنمو وعلى قرارها العسكري، وساعدت في تشكيل الأيديولوجيا التي تنظّر لقيادتها السياسية والعسكرية. فالمجموعات التي لم يكن لها أي هدف أيديولوجي في بداية الثورة، وكانت تمتلك خطاباً وطنياً تمثل في ثلاثة مطالب، هي الحرية والعدالة والكرامة، تحولت إلى فصائل أيديولوجية بامتياز، بسبب العنف الشديد الذي مارسه النظام وبسبب التمويل الذي لعب دوراً مهماً في تشكيل الوعي السياسي والعقائدي كما ذكرت.
عملت القوى الإقليمية، ومنها إيران والسعودية وقطر والإمارات وغيرها من الدول العربية، على إيهام الفصائل العاملة في البلدان العربية بأنها تحولت إلى جيوش، وبدا واضحاً ذلك في لبنان، حيث أقام حزب الله دولةً داخل الدولة، كما مارست هيئة تحرير الشام (النصرة سابقاً)، في الشمال السوري، ممارسات دولة على المستوى التنظيمي والعسكري. ولفهم هذه الإشكالية أكثر سنأخذ جيش الإسلام نموذجاً وندرس تطوره وممارساته.
بدأ جيش الإسلام عمله في سوريا في الغوطة، كفصيل صغير، إذ شارك في تحرير دوما، وهو الحدث الأبرز الذي شكّل نقلةً نوعيةً في عمل الجيش الحر الذي كان يتشكل من فصائل متنوعة واسعة الطيف، وهو ما ساعد في صعوده.
تلقّى جيش الإسلام تسليحاً غير مسبوق، جعل منه على المستوى التنظيمي جيشاً مصغّراً أحكم سيطرته على الغوطة، وأدخله في معارك سياسية مع ازدياد حجمه وثقله على الأرض، مما جعله يتصرف على المستوى السياسي والمستوى العسكري كدولة مستقلة في الغوطة.
قام جيش الإسلام بعمليات عسكرية معقدة تطلبت جهداً عسكرياً وتكتيكياً واضحاً، وشجاعةً من عناصره، لكنه في الوقت نفسه كان يعتمد مبدأ الانتهازية السياسية للوصول إلى السلطة على مستوى القيادة السياسية.
لذا سعت العديد من القوى الإقليمية إلى عمليات مفاوضات حول الدخول إلى دمشق، مما أوهم جيش الإسلام بوجود حجم له لا يمتلكه. كل ذلك وفّر معلومات استخباراتيةً عن مواقعه وأماكن تخزين أسلحته وخططه وإستراتيجياته، أدت في النهاية إلى اغتيال قائده زهران علوش في قصف مباشر، ومن ثم تدمير جيش الإسلام وخسارة الغوطة نهائياً في العملية العسكرية منتصف 2018.
حماس في غزة
يتشابه صعود الفصائل الإسلامية وتمددها في سوريا، مع صعود حماس في غزة، مع الأخذ بعين الاعتبار الفوارق الزمنية والجيو-سياسية بين الطرفين. ولكن نحن نتحدث عن نقطة جوهرية مشتركة، هي تحولهما من فصيل مقاتل إلى وحدات أشبه ما تكون بالجيش النظامي. إذ كان من الواضح خلال الحروب السابقة التي قامت بها حماس، تغيير أساليبها من حرب العصابات إلى حرب جيش مستقل له قيادة سياسية يسيطر على بقعة جغرافية محاصرة ومعزولة. وكانت من نتائج هذا التغيّر عمليات عدة أدت إلى حروب برّية مع المحتل الإسرائيلي كان آخرها عام 2008.
تأتي عملية "طوفان الأقصى" في السياق نفسه، وهو قيام حركة حماس وذراعها العسكرية القسّام، كجيش مستقل بتكتيكات حرب العصابات. تلك الإستراتيجية الملتبسة تدفعنا للتساؤل حول الأهداف الإستراتيجية لهذه العملية، وهذه الأسئلة لا تنفي حالة الإرباك والصدمة التي حدثت في المجتمع والجيش الإسرائيليين، ولا تنفي الشجاعة التي تمتّع بها عناصر القسّام لتنفيذ هذه العملية ومنها:
هل كان هدف الحركة هو كسر الحصار على غزة؟ هل كانت أهداف العملية كسب مناطق جديدة، وضمّها إلى القطاع، لكسب عمق حيوي وتقليص المسافة مع الضفة؟ هل كانت تهدف إلى إنهاك خطوط العدو، ووضعه في حالة من الإرباك طويلة الأمد، وجرّه إلى مفاوضات تحقق مكاسب سياسيةً واقتصاديةً، وتؤدي إلى رفع الحصار عن غرة؟ أم هل كانت ترغب في تسليط الضوء على القضية الفلسطينية وإعادتها إلى الواجهة؟ أم أسر قادة عسكريين والقيام بصفقة تبادل؟
سوف تنهك حرب العصابات الجيش الإسرائيلي وتكبّده خسائر كبيرةً مما سيبعث الشعور العام بأن "المقاومة" انتصرت، بينما الثمن الذي دفعته حماس لممارستها دور الدولة أكبر بكثير مما كان يمكن أن تحققه لو استمر عمل الفصائل الفلسطينية ومنها حماس، كحرب عصابات
لا يمكن القول إن هذه العملية ردّت الاعتبار والكرامة إلى الإنسان الفلسطيني، وذلك أن تاريخ المقاومة المستمر وغير المنقطع بشتى الوسائل، وأهمها إرادة الحياة والتمسك بالأرض، هو من يعطي الكرامة للإنسان الفلسطيني ولا يمكن لصاحب أرض متشبّث بأرضه ووطنه أن تُسلب منه كرامته في أي حال من الأحوال.
بالعودة إلى الأسئلة السابقة: هل حققت حماس أو "طوفان الأقصى" أياً منها؟
بعد ساعات من العملية، قامت إسرائيل بحشد رأي عام عالمي غير مسبوق، بدعم أمريكي منقطع النظير يدعم إسرائيل في عملية الإبادة غير المحدودة التي تستعدّ لها.
قتلت إسرائيل إلى الآن أكثر من ألف مقاتل من حماس، وتجاوز عدد الشهداء ألف شهيد، وقامت بارتكاب واحدة من أبشع المجازر في التاريخ الحديث، إذ قصفت مشفى الفرقان ما أدى إلى سقوط 200 شهيد، وأبادت عائلات فلسطينيةً كاملةً، وهدمت البنية التحتية للقطاع في أيام قليلة.
أدّت العملية العسكرية إلى ترسيخ صورة مختلفة عن الفلسطينيين في الكثير من الدول، بأنهم دواعش. استُخدمت هذه الكلمة مرات عديدةً من سياسيين، ومن الناطق الرسمي باسم الجيش الإسرائيلي، حتى وصل الأمر إلى عدّ التلويح في بريطانيا بعلم فلسطين، جريمةً، وعدّ ارتدائه أو ترديد هتافات في ألمانيا إلى استهداف من هيئة حماية الدستور والشرطة الألمانية.
مع الوقت، أعادت إسرائيل السيطرة على جميع المناطق التي تسللت إليها حماس. لكن مع ازدياد قوة العمل العسكري وهمجيته، سوف تستفيد حماس من التدخل البرّي، الذي سيكبّد الإسرائيليين خسائر فادحةً، وذلك أن الموازين ستنقلب، وسوف تعود حماس إلى تكتيكات حرب العصابات، حيث ستتحرك على أرض تعرفها وتدرسها جيداً، ولن يعود مفيداً سلاح الطيران.
ومع الدخول البري والنزوح الذي سوف يتسبب فيه، سوف يتناقص العبء المعنوي وسيسمح للمقاتلين بممارسة تكتيكات حرب العصابات من جديد، والتي سوف تنهك الجيش الإسرائيلي وتكبّده خسائر كبيرةً مما سيبعث الشعور العام بأن "المقاومة" انتصرت، في حين أن الثمن الذي دفعته حماس لممارستها دور الدولة أكبر بكثير مما كان يمكن أن تحققه لو استمر عمل الفصائل الفلسطينية ومنها حماس، كحرب عصابات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.