إن لم يفعل خالد البلشي، نقيب الصحافيين المصري الحالي، سوى استعادة سلم النقابة كمنبر للاحتجاج، لكفاه، لكنه فعل ما هو أكثر خلال فترة الأشهر التي تولى فيها منصب النقيب، في مفاجأة مبهجة لنا لكن غير سعيدة على النظام المصري، الذي لم يخسر الانتخابات بسبب مؤامرة أو صفقة مع النظام أو لحظة ضعف يمر بها، لكن لأن ثقته بنفسه كانت مطلقة، حتى أنه ظنّ أن اختياره لعناصر رديئة للمنافسة على منصب النقيب كافية لتثبيت عناصر حكمه، دون أن يدري أن ما كان ممكناً قبل عشر سنوات لم يعد ممكناً الآن، فقد أدرك الناس أن شيئاً عَطِنَاً ينبغي تغييره.
دون تحميل فوز خالد البلشي قبل أشهر، ما لم يحتمل، كدأب الراديكاليين أو من لم يتخطوا بعد ما حدث في 25 يناير، إلا أن ذلك الفوز الذي حرّر جزئياً نقابة الصحافيين، لم تعد تخدعه الأكاذيب.
قبل أيام، رأينا سلم نقابة الصحافيين مكاناً للاحتجاج ضد الاعتداء الإسرائيلي على أهلنا في غزة. صحفيون يتوسّطهم البلشي نفسه، ورغم أن المظاهرات كان مسموحاً بها من النظام المصري، بل أرادها لتصدير ضغط الشارع الرافض لتصفية القضية الفلسطينية، إلا أنه أيضاً أرادها مظاهرات غير حرّة، غير مدبّرة، غير محكومة، وهو ما لا يمكن أن يتهم به النقابة وسلمها في وجود خالد، فهتافاتها كانت حرة ولوجه فلسطين، تدرك أن النظام أرادها خلطاً للأوراق بين نصرة فلسطين والادعاء أنه مازال يملك الشعبية ذاتها التي امتلكها قبل عشر سنوات، مطالباً بما يعد اختراعاً مصرياً خالصاً في فن الاستبداد: أن يفوّضه الشعب في التصرف فيما شاء وكيف يشاء.
لم يتحمّل النظام المصري الهتافات الجادة التي فصلت بوعي القضية الفلسطينية عن تفويض الرئيس، في هتاف: "المظاهرة بجد... مش تفويض لحد"، وقبض على ما يزيد عن المائة شخص في القاهرة والإسكندرية، ممن شاركوا في المظاهرات
لم يتحمّل النظام الهتافات الجادة التي فصلت بوعي القضية الفلسطينية عن تفويض الرئيس، في هتاف: "المظاهرة بجد... مش تفويض لحد"، وقبض على ما يزيد عن المائة شخص في القاهرة والإسكندرية، ممن شاركوا في المظاهرات، بينهم أسماء تطوّعت في حملة أحمد طنطاوي، الذي عرقلته الدولة عن استكمال توكيلاته الانتخابية، في انتخابات دعت إليها بنفسها، بل كانت في أمس الحاجة إلى منافس حقيقي يمكن هزيمته، كي يثبّت الرئيس شرعيته التي تتداعى يوماً بعد يوم، بسبب النكسة الاقتصادية التي تعانيها البلاد.
لقد اقتنص البلشي فرصته في استعادة سلم النقابة، بعد أن علّمته الأيام أن يحوّل نضاله الواضح إلى الدور الذي يليق به كنقيب، حيث يعي بنضج أكبر ما هو فن الممكن.
لقد اقتنص البلشي فرصته في استعادة سلم النقابة، بعد أن علّمته الأيام أن يحوّل نضاله الواضح إلى الدور الذي يليق به كنقيب، حيث يعي بنضج أكبر ما هو فن الممكن.
عن ذلك التحوّل الهام، يقول محمد العريان، مدير حملته الانتخابية وزميل كفاح حقيقي لخالد البلشي في أغلب تجاربه الصحفية التي أجهضتها وطاردتها الحكومات المتعاقبة، حتى إن النكتة السائرة بيننا عند سماع خبر فوزه: "أن موقع درب الذي يرأس تحريره نقيب الصحافيين محجوب".
يقول العريان في شهادته التي نشرها على صفحته بفيسبوك، وأعيد كتابتها بالفصحى، عشية إعلان خبر فوزه بمنصب النقيب: "منذ خمس سنوات تقريباً وخالد البلشي يمارس دور نقيب الصحافيين كعرّاب، رأسه لا يشغلها شيئ سوى تفاصيل المهنة وهموم الصحافيين، جرّب أن تجلس معه لنصف ساعة، ستجد أن حديثه معك لن يكون إلا عن الصحافة وقضايا الصحافيين، كل مكالماته التليفونية تدور حول الأمر نفسه، أغلب الصحافيين المصريين يثقون بحكمه وتقديره، يلجأ الجميع إليه، سواء في ما يخصّ النقابة أو المعلومات القانونية، ورغم هذا إلا أنه حتى ذلك الحين لم يكن يصلح لمنصب نقيب الصحافيين، لأنه لم يكن قد نضج بعد على مستوى الخطاب الذي يليق بنقيب أو على مستوى تفهّمه لدور النقيب الذي عليه أن يستوعب المهنيين بكل درجاتهم واختلافهم".
يواصل العريان: "منذ عامين، وأثناء إعداد فيديوهات برنامجه الانتخابي على مقعد العضوية، فاجأني البلشي بقدرته على صياغة خطاب نابع من قناعات جديدة علينا، خطاب يتعامل مع الممكن دون تنازل، وآليات مختلفة للتعامل مع ظروف شديدة الحساسية".
أدرك حينها أن البلشي قد صار جاهزاً ليتولى منصب نقيب الصحافيين، ويستعير مقولة يحيى قلاش، النقيب الأسبق، أن "النقابيين يولدون من معارك مثل تلك". مقولة صحيحة، والكلام مازال للعريان، لكنها لا تنطبق على البلشي الذي يقاوم منذ سنوات ظروف شديدة الضراوة، وصلت لتهديده بالحبس وتلفيق القضايا، لكن الأهم هو " مقاومته ليأس من حوله".
لعقود غطت أغلب سنوات حكم مبارك وحكم السيسي، بل ومنذ عصر السادات الذي حاول تصفية نقابة الصحافيين بتحويلها إلى ناد اجتماعي لأعضائه، يواجه البلشي حالياً أمراً مماثلاً.
كان أهم ما بثّه البلشي في معركته الانتخابية ضد مرشحي النظام، هو التركيز مرة أخرى على "هموم المهنة"، لا وعود لزيادة البدل وتحويل النقابة إلى ناد اجتماعي.
لعقود غطت أغلب سنوات حكم مبارك وحكم السيسي، بل ومنذ عصر السادات الذي حاول تصفية نقابة الصحافيين بتحويلها إلى ناد اجتماعي لأعضائه، يواجه البلشي حالياً أمراً مماثلاً.
بعد نجاحه في تحريك المياه الراكدة في مستوى تقديم النقابة للخدمات واستعادة الثقة بين الأعضاء ونقابتهم، قام عضو النقابة عبد الرؤوف خليفة، بتدشين "جمعية الصحافة للخدمات والتنمية"، بهدف شقّ صف النقابة من الداخل وتحويلها إلى ناد اجتماعي، بعد جملة اتهامات في التليفزيون بأن البلشي وعدداً من أعضاء النقابة ينتمون إلى التيار الشيوعي.
وبحسب عضو مجلس نقابة الصحافيين السابق كارم محمود، إن تأسيس جمعية تقدم الخدمات نفسها التي تقدمها نقابة الصحافيين يشكل خطراً، ويهدّد بزعزعة النقابة وتفتيتها، ما يجعل من الواجب التعامل معه بحسم، وإن استلزم الأمر اتخاذ إجراءات تأديبية ضد من قاموا بتأسيسها، أو من يحاولون نشرها بين الصحافيين، وأن رفض الجماعة الصحفية لأي كيان مواز ليس مستغرباً، لأن النقابة تعرّضت لمحاولات عدّة بغرض إضعافها وشغلها عن أهدافها الرئيسية، وتدشين جمعية من قبل أحد أعضاء مجلس النقابة المنتخبين سيكون له تأثير قوي، لأنه يرفض القيام بأنشطة اجتماعية أو مهنية تتيحها مهام منصبه لصالح جمعية من خارج النقابة، ويمكن القبول بالجمعية إذا كانت تحت غطاء النقابة، وتقوم برعاية أنشطتها.
تمكن خالد البلشي من إطلاق سراح عدد من الصحافيين الذين حُبسوا، لأنهم أدوا مهنتهم، وربما أهمّهم، الصحفي كريم أسعد، الصحفي بمنصّة "ما تصدقش"، وكذلك تدخّله لصالح الصحفي كريم السيد، المحبوس احتياطياً منذ عام 2019، لتتمكن أسرته من زيارته بعد سنوات من المنع
تمكن خالد البلشي من إطلاق سراح عدد من الصحافيين الذين حُبسوا، لأنهم أدوا مهنتهم، وربما أهمّهم، الصحفي كريم أسعد، الصحفي بمنصّة "ما تصدقش"، وكذلك تدخّله لصالح الصحفي كريم السيد، المحبوس احتياطياً منذ عام 2019، لتتمكن أسرته من زيارته بعد سنوات من المنع، وكذلك خروج محبوسين احتياطياً وقت تولي البلشي منصبه، مثل محمد مصطفى موسى وهشام عبد العزيز وحسن القباني، وغيرهم، وتضامن البلشي مع صحفي مكتب هيئة الإذاعة البريطانية بمصر "بي بي سي" في أزمة التمييز المادية التي يعانونها، بعد سلسلة من المفاوضات، اختتمها البلشي في 19 أيلول/ سبتمبر الماضي، مع إدارة الخدمة العالمية لهيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) انتهت إلى تحقيق اتفاق بشأن أجور الصحافيين والعاملين في مكتب الهيئة بالقاهرة.
وفي خطابه في الحوار الوطني، أعاد البلشي قضية حرية الصحافة إلى الواجهة، وقد طلب من "الحوار" رفع الحجب عن المواقع واحترام وجود إعلام متنوع، واتخاذ إجراءات لإعادة الاعتبار للصحافة القومية، واعتماد كارنيه النقابة وخطابات الصحف المعتمدة كتصريح وحيد للعمل، دون الحاجة إلى تصاريح أخرى، وإجراء تعديلات تشريعية على قوانين الصحافة والإعلام والحبس الاحتياطي، وإصدار قانوني منع الحبس في قضايا النشر وحرية تداول المعلومات، ومراجعة القيود والضوابط القانونية المفروضة على حرية الإصدار، واختيار القيادات الصحفية من خلال الكفاءة والقدرة على الإدارة الرشيدة، ورفع القيود عن المؤسسات الصحفية والإعلامية بما يُبرز التعدّد والتنوع، ويتيح فرصاً متساوية للأطراف جميعها للتعبير عن نفسها.
خالد البلشي حرّر لنا النقابة، عقبى لكل بقعة محتلة في مصر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 21 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع