"لم أعد أؤمن بحدوث المعجزات في هذا الزمن، لكنني أنتظر أن تحل، اليوم، على شارع عبدالخالق ثروت". هكذا وصف أحد الصحافيين معركة الانتخابات النقابية التي أعلنت نتائجها مساء أمس الجمعة 17 مارس/ آذار الجاري، بفوز الصحافي المستقل خالد البلشي، رئيس تحرير موقع "درب" الإخباري المحجوب في مصر، على منافسه الصحافي خالد ميري، رئيس تحرير صحيفة الأخبار القومية "المملوكة للدولة" الذي قدمته حملته باعتباره "مرشح الدولة" على رأس قائمتها التي ضمت أيضاً الصحافيين محمد شبانة وحماد الرمحي.
وكانت الانتخابات التي انتهت إلى اختيار البلشي، هي انتخابات التجديد النصفي لمجلس النقابة، وهي تجري كل عامين بحسب اللائحة النقابية. وأعلنت اللجنة القضائية المشرفة على الانتخابات فوز البلشي بمنصب "نقيب الصحفيين" حائزاً 2450 صوتاً مقابل 2211 صوتاً لمنافسه خالد ميري.
وعلى الرغم من أن مؤشرات غضب الصحافيين كانت واضحة منذ ما قبل عقد الانتخابات، وتجسدت في اجتماع الجمعية العمومية صباح يوم الانتخابات، الذي اتخذت فيه الأغلبية قراراً برفض الميزانية المقدمة من المجلس المنتهية ولايته، مطالبةً المجلس الجديد بإعادة النظر في تلك الميزانية ومراجعتها وسط اتهامات متناثرة بإهدار أموال النقابة ووجود شبهات فساد. إلا أن كثيرين حتى اللحظات الأخيرة، استبعدوا أن تسمح الدولة بنجاح صحافي محسوب على صفوف المعارضة وقريب من قطاعات واسعة من الصحافيين الشباب. لهذا مثل فوز البلشي مفاجأة حتى لأنصاره الذين توقعوا تدخلاً لتغيير النتيجة، خاصة بعدما طالبت حملة ميري بإعادة فرز الأصوات عقب إعلان فوز البلشي، إلا أن إعادة الفرز لم تغير من النتيجة.
مؤشرات غضب الصحافيين تجسدت في اجتماع الجمعية العمومية الذي اتخذت فيه الأغلبية قراراً برفض الميزانية المقدمة من المجلس المنتهية ولايته، مطالبةً المجلس الجديد بإعادة النظر في تلك الميزانية وسط اتهامات متناثرة بإهدار أموال النقابة ووجود شبهات فساد
كان الأمر أشبه بمعجزة عند البعض بسبب ضعف فرص تيار الاستقلال داخل "نقابة الصحفيين" أمام مرشح تقف خلفه أجهزة الدولة، إلا أن النقابة شهدت يوماً فاصلاً في تاريخها الممتد منذ أربعينيات القرن الماضي، بفوز أول نقيب لا ينتمي للمؤسسات القومية التي احتكرت هذا المنصب منذ تأميم الصحف في ستينيات القرن الماضي. ويعدّ البلشي أول نقيب لا ينتمي لمؤسسة قومية من جانب، ومنتمياً للصحافة الشابة والصحافة الإلكترونية من جانب آخر.
تلقى شباب الصحافيين في الصحف القومية "نصائح" بالتصويت لمرشحي الدولة "حرصاً على استقرار النقابة في مواجهة غضب الدولة إذا فاز المعارضون"
وسبق للبلشي أن فاز بعضوية مجلس النقابة لمدة عامين، قاد خلالهما لجنة الحريات النقابية وأسهم في ملف التسويات ووقف ضد فصل الصحافيين تعسفياً إلى جانب نشاطه الذي استمر حتى بعد إطاحته من المجلس في هذين الملفين إلى جانب ملف حرية الصحافيين المعتقلين.
لم يكن فوز البلشي المفاجأة السارة الوحيدة في هذه الليلة، إذ استطاع أربعة من مرشحي تيار الاستقلال الفوز بأربعة من ستة مقاعد تنافس عليها 40 مرشحاً، منهم وجهان حكوميان بارزان في المجلس السابق، هما محمد شبانة رئيس تحرير الاهرام الرياضي وسكرتير عام النقابة الأسبق، وحماد الرمحي رئيس لجنة التدريب سابقاً. وفاز من تيار الاستقلال محمود كامل ومحمد الجارحي وجمال عبدالرحيم وهشام يونس، ما يسمح بإعادة تشكيل مجلس النقابة لصالح تيار الاستقلال بعد سنوات غلب على تشكيله الطابع الحكومي.
التصويت العقابي والسرّي
لعب التصويت العقابي والسري دوراً حاسماً في توجيه الدفة إلى ناحية البلشي على حساب ميري، إذ أدارت قطاعات بالمؤسسات القومية والجرائد والمواقع الخاصة التابعة لمجموعة المتحدة، الذراع الإعلامية لجهاز المخابرات الحربية، ظهرها لمرشح الحكومة هذه المرة، وفضلت إعطاء أصواتها لواحد من 10 مرشحين نافسوا ميري، أبرزهم البلشي.
عمد كثيرون إلى إخفاء تأييدهم للبلشي والمرشحين المحسوبين على تيار الاستقلال، من منطلق مهني وسياسي، خشية التضييق عليهم في مؤسساتهم في ظل مناخ مؤيد لمرشح الحكومة، وهو ما أكده صحافيون يعملون بمواقع وقنوات تلفزيونية تملكها الدولة
ورغم أن رئيس تحرير الأخبار حسم مبكراً أهم معارك النقيب، بحصوله على موافقة حكومية بزيادة البدل المالي للتكنولوجيا والتدريب، بخلاف دعمه بأكثر من 25 مليون جنيه لزيادة المعاشات، واعتمادات مالية لمشروع العلاج، فقد أظهرت لجان الاقتراع عدم رضا قطاعات - تبني اختيارها للنقيب عادة على أساس الخدمات واعتبارات الدخول- عن الزيادة الطفيفة التي جرت على البدل الممنوح من الحكومة، في ظل موجة الغلاء التي طالت جميع أسعار السلع.
صحافيون بجريدة الأخبار، التي يترأس الميري تحريرها، ذكروا لـرصيف22 أنهم لم يدلوا بأصواتهم لرئيس تحريرهم، وآثروا انتخاب البلشي، لقناعة بعضهم أنه المرشح الأفضل في هذه الانتخابات، وغضب آخرون من الأسلوب الإداري لميري، في وقت عَزَت مصادر عدم حصول ميري على كتلة الأهرام لتنحية رئيس مجلس إدارة الأهرام عبدالمحسن سلامة عن خوض هذه الانتخابات لصالح مرشح مؤسسة الأخبار، إلى عدم رضا قطاع واسع من الصحافيين الشباب في الأهرام عن الأوضاع المهنية في ظل القيود المتزايدة من جيل ميري – نيابة عن الدولة- على الحريات الصحافية، برغم أن أعضاء المجلس الباقين المنتمين إلى الأهرام وجّهوا الصحافيين قبل الانتخابات إلى التصويت لمرشحي الدولة "حرصاً على استقرار النقابة في مواجهة غضب الدولة إذا فاز المعارضون".
صحافيون بجريدة الأخبار، التي يترأس الميري تحريرها، ذكروا لـرصيف22 أنهم لم يدلوا بأصواتهم لرئيس تحريرهم رفضاً لأسلوبه في الإدارة، أما شباب الصحافيين في الأهرام فكانت أسباب بعضهم في مخالفة "النصائح التصويتية" مرتبطة بغضبهم من القيود التي يفرضها جيل ميري نيابة عن الدولة على الحريات الصحافية
الصراع الكلاسيكي بين المؤسستين الصحافتين العريقتين كان واضحاً بشدة في هذه الانتخابات، وهو ما تبين من مداخلة لخالد ميري مع الإعلامي عمرو أديب عبر فضائية "إم بي سي مصر" قبيل الانتخابات، إذ تحدّث عن وجود مدرستين فقط للصحافة في مصر، هما أخبار اليوم وروز اليوسف، متجاهلاً دور الأهرام، ومكتفياً بالإشارة إلى انتعاشها على مستوى الخبر بعد انتقال الصحافي الراحل محمد حسنين هيكل من الأخبار إلى الأهرام.
عدا التصويت العقابي، عمد كثيرون إلى إخفاء تأييدهم للبلشي والمرشحين المحسوبين على تيار الاستقلال عموماً من منطلق مهني وسياسي، خشية التضييق عليهم في مؤسساتهم الصحافية، في ظل مناخ مؤيد لمرشح الحكومة، وهو ما أكده صحافيون يعملون بمواقع وقنوات تلفزيونية تملكها الدولة. قالوا لرصيف22 إنهم دأبوا على إخفاء أي ملامح دعم لحملة البلشي حتى بعد إعلان فوزه نقيباً.
ما زاد من هذه العملية التباساً هو استضافة القنوات الإعلامية المحسوبة على الدولة لوكيل مجلس "نقابة الصحفيين" السابق المرشح خالد ميري، باعتباره المرشح الأبرز لهذه الانتخابات والفائز الحتمي بها، وسط تجاهل تام لمرشح المعارضة خالد البلشي، الذي حُرم من الظهور تلفزيونياً طوال أيام الانتخابات، الأمر الذي رسخ فكرة أن الدولة لا تريد لمرشح آخر سوى ميري النجاح في هذه الانتخابات.
سر نجاح الحملة
رغم هذه الضغوط ومحاولة تفكيك التكتلات الانتخابية، فإن إيمان عوف، إحدى قيادات حملة خالد البلشي، لم يفتر حماسها أو تتلاشى ثقتها طوال أيام عمل الحملة لإيمانها بحسم هذه الانتخابات.
تشرح عوف لـرصيف22: "إدارة الحملة كانت بشكل مختلف هذه المرة، من خلال إدارة النقاش مع الصحافيين حول أوضاعهم وهمومهم وكيفية الوصول لآليات لحل أزمات المهنة".
العبء الأكبر الذي تحملته حملة البلشي هو طمأنة الصحافيين في ظل حملة الترهيب من انتخاب نقيب محسوب على تيار المعارضة، إذ تشير عوف إلى أن فريقها كان حريصاً على وضع الأمور في نصابها، والرد على التساؤلات المتعلقة بمستقبل العلاقة بين الحكومة والنقابة، على خلفية أزمة اقتحام أجهزة الأمن مبنى النقابة في 2016 للقبض على عضوين فيها هما عمرو بدر ومحمود السقا، علماً بأن الأول كان مرشحاً لتيار الاستقلال على مقاعد عضوية المجلس وسبق له الانضمام لعضوية مجلس النقابة عامين نشط خلالهما في لجنة الحريات.
عضوة في حملة البلشي: ركزنا على تأكيد الصورة الصحيحة عن البلشي نفسه، باعتباره نقابياً نشطاً ومدافعاً شرساً عن حرية الصحافة واستقلالها، وتقديم الجانب الذي لا يراه الناخبون فيه
تلفت عوف إلى أن الحملة دأبت خلال الأسابيع القليلة الماضية على "تأكيد الصورة الصحيحة عن البلشي نفسه"، باعتباره نقابياً نشطاً ومدافعاً شرساً عن حرية الصحافة واستقلالها، وتقديم الجانب الذي لا يراه الناخبون فيه.
ورغم تسلل القلق إلى إيمان عوف في منتصف اليوم الانتخابي بعد تكثيف شحن الأتوبيسات التي تقل موظفي وصحافيي الجرائد الحكومية للانتخاب، كانت واثقة من أن الجماعة الصحافية عازمة على تغيير الوضع السيىء الذي آلت إليه النقابة في عهد ضياء رشوان.
"الفول يهزم وجبات أبو شقرة"
كعادة انتخابات "نقابة الصحفيين"، تتصدر الجرائد القومية، تحديداً الأهرام والأخبار، مشهد حشد الناخبين في مقر النقابة، عبر أتوبيسات تابعة لتلك المؤسسات، ودائماً يرافق ذلك إحضار وجبة الغداء من أحد مطاعم المشهورة.
في هذه المناسبة، كان مطعم "أبو شقرة"، أحد أشهر مطاعم المشويات بالقاهرة، المورد الرئيسي لمرشحي الحكومة، إذ امتلأت شوادر الانتخابات بأطباق مغلفة تحمل شعاره، بينما في الجهة المقابلة كانت حملة المعارضة التي تضم البلشي ومحمود كامل وهشام يونس وعمرو بدر والجارحي، تتكدس كراتينها بسندوتشات الفول والطعمية، وهي المفارقة التي عنونتها النتيجة بانتصار فول اليساريين على "أبو شقرة" الداعم لمرشحي الحكومة.
بالونة إعادة الانتخابات
سيطر القلق على أعضاء حملة خالد البلشي بعد تسريب أنباء من داخل اللجنة المشرفة على الانتخابات، مفادها أن الفوز غير مكتمل، وثمة احتمال لجولة إعادة مع منافسه خالد الميري، لعدم تحقيق أفضلية الـ50%+1 من عدد الأصوات الصحيحة.
دقائق صعبة مرت سحُب خلالها الأكجسين وتناثرت معها جرعات الإحباط، ودارت الكثير من السيناريوهات في مخيلة البلشي وفريقه بوجود توجيهات عليا بعدم اعتماد فوزه، خصوصاً مع حذف مواقع محسوبة على أجهزة تابعة للدولة خبر فوزه بعد دقائق قليلة من نشره، مما دفع بالكثيرين للاحتشاد في مقر اللجنة العامة بالطابق الرابع في النقابة، لاستجلاء الحقيقة من فم القاضي المشرف على الانتخابات.
في هذه الأثناء، أدرك البلشي أن خبر الإعادة ما هو إلا بالونة اختبار أراد البعض من خلالها "جس نبض" المعارضين بِشأن مصير هذه الانتخابات، سرعان ما فرغت محتواها بإعلان نقيب الصحافيين السابق ضياء رشوان فوز البلشي بمقعد النقيب، بحصوله على 2450 صوتاً مقابل 2211 صوتاً لأبرز منافسيه خالد ميري.
في تصريح خاص لرصيف 22 عقب إعلانه نقيباً، وجّه البلشي الشكر للجمعية العامة التي دعمته في معركة وصفها بالعادلة مع منافسه خالد ميري، معتبراً أن مشاركة الأعضاء بهذه الكثافة تؤكد أنهم أصحاب السلطة العليا داخل النقابة
البلشي يتعهد
فور إعلان النتائج بشكل رسمي، ضجت القاعة بالهتافات المؤيدة للنقيب الجديد مصحوبة بزغاريد الصحافيات، وحُمل على الراحات من قبل بعض أنصاره الذين احتشدوا حتى الساعات الأولى من الصباح، على وقع هتاف: "قول ما تخافشي نقيبنا هو البلشي"، في وقت هتف النقيب الجديد "عاشت وحدة الصحافيين"، في إشارة إلى وحدة الكيان النقابي.
في تصريح خاص لرصيف 22 عقب إعلانه نقيباً، وجّه البلشي الشكر للجمعية العامة التي دعمته في معركة وصفها بالعادلة مع منافسه خالد ميري، معتبراً أن مشاركة الأعضاء بهذه الكثافة تؤكد أنهم أصحاب السلطة العليا داخل النقابة.
وأكد التزامه كل العهود التي قطعها على نفسه خلال حملته الانتخابية، ومن بينها التفاوض مع السلطة فيما يخص إقرار زيادة البدل بنسبة سنوية لا ترتبط بنقيب بعينه لضمان بقاء أصوات الصحافيين خارج دائرة المساومة على أرزاقهم، ومواصلة جهود النقيب السابق ضياء رشوان في إغلاق ملف الصحافيين المحبوسين احتياطياً على ذمة قضايا الرأي، وإعادة النظر في القوانين المكبلة للعمل الصحافي.
وقال النقيب الجديد للصحافيين: "ملتزمون فتح كل الملفات التي تعهدناها، سنكون نقابة للتفاوض على حقوقنا وحقوق كل الناس، وستظل الجمعية العمومية صاحبة الفضل على جميع المجالس المنتخبة".
اهتمام حزبي بالانتخابات
حظيت الانتخابات الأخيرة لنقابة الصحفيين باهتمام سياسي من الأحزاب السياسية، لما لها من تأثير كبير على أوضاع الصحافة التي شهدت تراجعاً حاداً خلال السنوات الأخيرة، مما جعل فوز البلشي بمنصب النقيب ينظر إليه كبارقة أمل في مستقبل العملية السياسية.
حتى أن محمد أنور السادات، رئيس حزب الإصلاح والتنمية، اعتبر هذا الفوز برسالة قوية للدولة، تؤكد أن الإرادة الشعبية تنتصر في النهاية، مهما كان حجم الدعم أو المساندة لمرشح الدولة، ومهما كان حجم المعوقات المباشرة أو غير المباشرة التى يواجهها بعض المرشحين.
وأوضح السادات في بيان أن تجربة البلشي تحمل أملاً جديداً فى تحقيق المزيد من النجاحات، وتؤكد أن المعارضة إذا آمنت بقدراتها وأعادت شحن طاقاتها ربما تصنع معجزات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...