نَافِقْ، وَنَافِقْ
ثمَّ نَافِقْ، ثمَّ نَافِقْ
لا يَسْلَمُ الجَسَدُ النَّحِيلُ مِنَ الأَذَى
إنْ لَمْ تُنَافِقْ
نَافِقْ
فَمَاذَا في النِّفَاقِ
إذَا كَذَبْتَ وَأَنْتَ صَادِقْ؟!
صاحب الأبيات القصيرة، والألفاظ البسيطة، ذات القوة والتأثير، هو الشاعر العراقيّ أحمد مطر، الذي ولد في "تنومة" التابعة لمحافظة البصرة، على ضفاف شط العرب سنة 1954، وعانى في حياته من القمع؛ فقد سُجن لأنه رفض كتابة قصيدة بمناسبة ذكرى ثورة تموز/يوليو في العراق، وكان لإعدام أخيه الأثر البارز في تحول شعره من الغزل إلى الثورة والغضب والسخرية اللاذعة، حيث يقول في إحدى قصائده:
كفرتُ بالشّعرِ الذي
لا يوقف الظلمَ ولا يحرّك الضمائر...
لعنتُ كلَّ كلمةٍ...
لم تنطلقْ من بعدِها مسيرة...
ولم يخطّ الشعب في آثارها مصيرَه...
لعنتُ كلَّ شاعر...
ينام فوق الجُمَل الندية الوثيرة
وشعبه ينام في المقابر...
تبدو القصائد الثلاث التي كتبها أحمد مطر عن "عباس" وكأنها قصة قصيرة تُجسد تاريخنا وواقعنا الحالي بطريقة سوريالية، لا وجود فيها لأي "مكياج" سياسي أو عاطفي؛ هي كوميديا سوداء مُخلصة لمعاناة الملايين من العرب
هرب أحمد مطر من العراق إلى الكويت، فاحتضنته جريدة "القبس" الكويتية، ومنها بدأ في نشر "لافتاته" الأدبية على صفحتها الأولى، ومن "القبس" انطلقت شهرته إلى العالم العربي، حيث كانت تُباع قصائده سِرّاً، وكذلك "الكاسيتات" المسجلة لشعره، حيث كان يُكتب على الكاسيت بخطٍ رفيع "إنت عمري، أم كلثوم!"، وبرغم الكثير الذي قدمته جريدة "القبس" لأحمد مطر، غير أنها لم تكن ولاءه الأول الذي أعطاه لكلمته وضميره الحي، وحين ضاقت به السبل في القبس، سافر إلى لندن بعد أن كتب قصيدة "حيثيات الاستقالة":
أيتها الصحيفة... الصدق عندي ثورةٌ
وكذبتي إذا كذبت مرةً... ليست سوى قذيفة
فلتأكلي ما شئتِ، لكنّي أنا
مهما استبدّ الجوع بي... أرفض أكلَ الجيفة
إلى أن قال:
أما أنا... فهذه رِجلي بأمِّ هذه الوظيفة.
عباس وراء المتراس
تبدو القصائد الثلاث التي كتبها أحمد مطر عن "عباس" وكأنها قصة قصيرة تُجسد تاريخنا وواقعنا الحالي، بطريقة سوريالية، لا وجود فيها لأي "مكياج" سياسي أو عاطفي، هي كوميديا سوداء مُخلصة لمعاناة الملايين من العرب.
يبدأ أحمد مطر ملحمته الشعرية، بالتعريف عن عباس:
"عبّاس" وَراء المتراسْ
يَقِظٌ... مُنتبِهٌ... حَسّاسْ
منذ سنيّ الفتح... يُلمِّع سَيفه
ويلمِّع شَاربَه أيضاً...
منتظراً... مُحتضنًا دَفَّه!
إنه عباس إذاً، الذي صدّع رؤوسنا بالاستعداد للمعركة والفتح والتحرير، والخطب والشعارات، ولكن عندما "بَلعَ السّارق ضفَّة"، ماذا كان موقف عباس؟ توقعنا أن ينقض عباس على العدو ليمزقه، ولكنه فاجأنا: "قلّب عبّاسُ القرطاس، ضرب الأخماسَ لأسداس: بقيت ضَفّه، لملمَ عبّاس ذخيرته والمتراس، ومضى يصقل سيفه".
لكن يأتيه صوتٌ أنثويٌ ملتاع، عله يوقظه من سُباته "صرخت زوجته: عبّاس، أبناؤكَ قتلى... عبّاس، ضيفكَ راودني عبّاس، قُم أنقذني يا عبّاس"، لقد كررت زوجته اسمه في نداءاتها علها تحصل على مساعدةٍ منه، لكنها لم تُفلح: "عبّاسُ وَراء المتراس، مُنتبهٌ... لم يسمَع شيئاً، زوجته تغتابُ الناسْ!".
يُصور أحمد مطر هنا الشخصية المريضة التي كانت ترى الظلم ولكنها تتظاهر بأنها لم تره: "مُنتبهٌ... لم يسمَع شيئاً". فعباس قد رأى الحقيقة حتماً، لكنّ الخوف المتجذر فينا يجعلنا بوعي أو من دون وعي نتعامى عن الحقيقة، ونعتقد أنّ الحق مع القوي، فلم يُصدق عباس ما تقوله زوجته وما رآه في بيته، أنكر ذلك ووضع الحقّ على زوجته التي اتهمها بأنها تغتاب الناس.
برغم أنّ عباس كان غارقاً في لا مبالاته تجاه الكارثة التي بدأت تحلّ في بيته، غير أنّ زوجته لم تيأس فصرخت به: "عباس الضيفُ سيسرقُ نعجتنا". هنا ربما تحرك شيءٌ داخله: "عباس اليقظُ الحساس، قلب أوراق القرطاس، ضَرب الأخماسَ لأسداس: أرسلَ برقية تهديد!".
عباس يستخدم تكتيكاً جديداً
بدأ عباس تحضيراته للجولة الجديدة، "اللص هدّ بابهُ وعابه/ واقتحم البيت بغيرِ رخصةٍ وانتهره:/ ياثورُ... أين البقرة؟/ عباس دسّ كفَّهُ في المخصره/ واستلّ مِنها خِنجره، وصاح في شجاعة: فى الغرفة المجاورة!". هنا يشير أحمد مطر إلى دخول إسرائيل إلى الأراضي الفلسطينية وسط الصمت العربي المطبق من ناحية الأفعال، ولكن من ناحية الكلام صاحوا واستلوا خناجرهم، وفي نهاية الأمر ساعدوا العدوّ وسهلوا عليه الأمر.
"عبّاس" وَراء المتراسْ
يَقِظٌ... مُنتبِهٌ... حَسّاسْ
منذ سنيّ الفتح... يُلمِّع سَيفه
ويلمِّع شَاربَه أيضاً...
منتظراً.. مُحتضنًا دَفَّه!
وقبل أن يخرج اللص من بيت عباس خطّ حولهُ دائرة "وأنذره: إياك أن تجتاز هذي الدائرة"، لم يكتفِ اللص بالسرقة والقتل بل فرض شروطاً وقيوداً أصعب من ذي قبل، ثم "علا خُوار البقره، خف خُوار البقره، خار خُوار البقره" وهنا صوّر أحمد مطر بدقة فظاعة ما فعله اللص، ولكن هل تضاهي فظاعة سكوت عباس، وحقيقةً عباس لم يسكت بل صرخ ثلاث مرات مزلزلاتٍ – بعدما قام اللص وقضى لديها وطره- "فلتسقطِ المؤامره!"، يصوّر أحمد مطر الشخصية النرجسية التي ترفض الاعتراف بأخطائها وتُلصق كل المصائب التي تحدث معها بالآخرين الذين يتآمرون عليها، وأكمل عباس "قطعتُ دابِره، جعلتُ منهُ مسخره!"، يصيح الجميع مدهوشين من شجاعة عباس غير المتوقعة: ماذا فعلتَ به يا عباس، فيجيب "لقد غافلتهُ، واجتزتُ خط الدائره"، وهو تصوير دقيق لما يقنع العرب به أنفسهم أنها انتصارات على العدو من خلال تحقيق بعض المكاسب البسيطة، ولكنها في الواقع ليس إلا اجتياز" لخط الدائرة" التي رسمها لهم العدو في عقر دارهم.
عباس فوق العادة
يتجلى في هذه المقطع من القصيدة تعنت الحكام العرب وتمسكهم بكرسي الحكم رغم كل الخسائر الفادحة، فبعد أن "هدّ الخصوم بيته، واغتصبوا زوجته، وأعدموا أولاده، لم يكسروا عناده" أحابهم بعنجهيته المعهودة: "لي زوجة ثانية ولّادة"، وهنا يشير شاعرنا الكبير لنظرة الحكام نحو الشعوب، فليمت من يمت وليبقَ من يبقى، فالشعب كالبحر مهما ضحيتَ به وقتلتَ منه، فهو متجددٌ، لا ينتهي كالبحر تماماً.
وفي نهاية القصيدة "حاصره الخصوم حتى منعوا، دواءه وماءه وزاده"، هنا خاف عباس وتخلى عن عنجهيته قليلاً "وأعلن استنجاده!"، فجلسوا معه على طاولة المفاوضات وقالوا له: "نعطيك بعض الخبز لو.. أعطيتنا السجادة!"، وهنا صاح عباس بصوت طافح بالعز فوق العادة: "كلا... فهذا عمل، مخل بالسيادة!"
وكعادة أحمد مطر يجعل القارئ ينتظر حتى الجملة الأخيرة لينقضّ على خصمه، وكأنها الضربة القاضية، فبالرغم من كل ما حل بعباس، حيث احتل الغرباء بيته وقتلوا أولاده واغتصبوا زوجته، لكنه رفض بعد كل ذلك أن يتنازل عن "سجادة" لأنّ ذلك يُخل بالسيادة، وقد قصد أحمد مطر كل من يتنطح بالسيادة وفي الوقت نفسه باع البلاد بمن فيها.
أحمد مطر وصدام حسين
ويقول محمد صقر، رئيس تحرير جريدة القبس الكويتية (1983-1999) التي عمل فيها أحمد مطر، في برنامج "السطر الأوسط" على قناة mbc السعودية: "وضعتُ لافتات أحمد مطر في الصفحة الأولى من الجريدة، لأنها كانت قصيرة وبسيطة ومحملة بالمعاني، وبالفعل لقد أحب الناس أحمد مطر وأصبح له شهرة واسعة، ولكن بدأت المشاكل تنهال فوق رأسي".
بالرغم من كل ما حل بعباس، حيث احتل الغرباء بيته وقتلوا أولاده واغتصبوا زوجته، لكنه رفض بعد كل ذلك أن يتنازل عن "سجادة" لأنّ ذلك يُخل بالسيادة، وقد قصد أحمد مطر كل من يتنطح بالسيادة وفي الوقت نفسه باع البلاد بمن فيها
وأضاف صقر: "كان السفير العراقي يأتي كل شهر إلينا مرة أو مرتين ليحتج على قصائد أحمد مطر، ومرةً أتى محتجاً بشدة على قصيدة (صاحبي حسن) وقال إن مطر يقصد فيها السيد الرئيس -صدام حسين-، فاستدعيت أحمد مطر، فنفى أن يكون قاصداً صدام، لكن السفير العراقي لم يعجبه الرد، واشتكى علينا في وزارة الخارجية، الذين اتصلوا بنا وقالوا: 'خففوا من أحمد مطر!'".
في لندن، مثقلاً بالخيبات
يقول حمزة عليان، مدير مركز المعلومات والدراسات بجريدة القبس في وثائقي بثته قناة الجزيرة يحمل اسم "خارج النص": لافتات أحمد مطر كانت تخضع للمراقبة مرتين، الأولى من مديرة الرقابة التابعة لوزارة الإعلام الموجودة في كل صحيفة، والثانية من رئيس التحرير والمدير المسؤول والسكرتير، فكان يرمي قذائفه في وجوهنا ويلقي المسؤولية على عاتقنا، وكان لا يقبل أن نغير حرفاً أو فاصلة، فإما القصيدة كما هي أو إلغاؤها كلها.
وكان الكاتب فائق منيف آخر من حاور الشاعر الكبير أحمد مطر، ووصف اللقاء في حديثه في "خارج النص": كان لقائي معه بعد خروجه من مواجهة مريرة مع السرطان، وكذلك بعد ظهور شائعة موته، وسألته عن سبب هذه العزلة الطويلة، فقال لي: من الخيبات؛ خيبات الوطن العربي الذي ظل لعقود ينادي له بالحرية والكرامة والاستقلال، ولم يتحقق منها شيء، ومن خيبة الأصدقاء، ومن خيبة أفول الربيع العربي قبل أن يبرعم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 4 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...