في العدوان الإسرائيلي على غزة بعد عملية "طوفان الأقصى" والذي تستخدم فيه إسرائيل أسلحة تبدأ بالطائرات ولا تنتهي بقنابل الفوسفور، هناك مواجهات غير متكافئة أيضاً تُخاض على الفضاء الرقمي ومنصات التواصل الاجتماعي، وتتمثل في انتشار مخيف وخطير للأخبار الكاذبة المرتبطة بالأزمة، ترافقها سياسات "ميتا"، والمنصات التابعة لها، والتي تنحاز بشكل واضح إلى الاحتلال الإسرائيلي، خصوصاً بعد بيانها الأخير في 13 تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، الذي ذكرت فيه: "لقد شعرنا مثل كثيرين بالصدمة والرعب إزاء الهجمات الإرهابية الوحشية التي شنّتها حماس، ونتوجه بأفكارنا إلى المدنيين الذين يعانون في إسرائيل وغزة مع استمرار العنف".
على إثر هذا، قامت "ميتا" بحذف أكثر من 795،000 منشور باللغتين العربية والعبرية من منصاتها، بالإضافة إلى "تغيير سياساتها دون إعلام مستخدميها"، وفقاً لما ذكرته مؤسسة "أنسم"، المختصة بالحقوق الرقمية، حيث قالت يوم 14 تشرين الأول/ أكتوبر الجاري في بيانها: "بدأت شركة ميتا والمنصات التابعة لها منذ صباح اليوم السبت، بتقييد المحتوى المرتبط بالقضية الفلسطينية والحسابات التي تنشر الانتهاكات التي تُرتكب في غزّة، وتوصلت أنسم إلى هذه النتيجة بعد إبلاغ عدد من المدوّنين والناقلين للأحداث في غزّة، عن تراجع نسب مشاهدات محتواهم/ نّ بشكل لافت واستثنائي، وهذا ما يتعارض مع سياسات ميتا المعلنة، التي لا تضع بنداً يتعلق بحجب المحتوى الخاص بالقضية الفلسطينية".
بالنظر إلى هذه المعطيات، أصبحت مهمة مدقّقي المعلومات صعبةً، خصوصاً أن تقارير التحقق تواجه قيوداً تقلل من مدى انتشارها وعدد مشاهديها، على النقيض تماماً من الأخبار الكاذبة واسعة الانتشار، وبنسبة هي الأكبر لتلك التي تبثّها وسائل إعلام داعمة للاحتلال الإسرائيلي، دون أن تواجه قيوداً كالتي تنشر الحقائق وتوضح التضليل، وقيود المنشورات الأخرى التي تدعم القضية الفلسطينية وتعبّر عن رأيها الرافض لانتهاكات غير مبررة ضد الإنسانية. وعلى الرغم من هذا كله، منصات تدقيق المعلومات في الوطن العربي لا تزال مستمرةً في عملها، وتواجه مدّ التضليل الذي يلقي بظلاله على الواقع والذي من شأنه قلب الموازين وتغيير الوقائع.
بسبب طبيعة الصراع والتحديات التي نواجهها، مثل انحياز بعض المصادر الإخبارية المعروفة دون الاستناد إلى الحقائق، نقوم بتحليل المعلومات لفهم التطورات الجارية في فلسطين
تحدثنا مع بعض منصات تدقيق المعلومات من بلدان عربية مختلفة عن هذا الأمر ومفاصله، وعن استطاعة المستخدم أن يكون مدققاً وراصداً في ظل هذه الأحداث الحسّاسة والمتسارعة، وكيف يبرز دور الأخبار الكاذبة ومن يبثها؟
الرصد
مدققة المعلومات فاطمة حمّاد، من "مرصد تحقق" الفلسطيني، تقول لرصيف22: "إنَّ عملية الرصد والتحقق خلال الحرب، اختلف فيها أولاً رصد المنصات والحسابات الناطقة باللغة الإنكليزية التي تعمل على نشر مقاطع وصور مضللة تخدم الاحتلال وروايته، بالإضافة إلى ترجمة المواد التي يتم رصدها من هذه المنصات ونشرها باللغة الإنكليزية في محاولة لإيصال الحقيقة إلى أكبر قدر ممكن من المتابعين، وتفنيد الروايات المضللة الداعمة للاحتلال، حيث انضمّ للتحقّق عدد من المتطوعين/ ات الجدد خلال الأسبوع الماضي، للدعم في عملية الرصد بسبب كثافة انتشار المواد".
أما الرصد في منصة "الفاحص" العراقية، فيقول المدير التنفيذي للمنصة حيدر حمزوز، لرصيف22: "نرصد من خلال المواقع الإخبارية العربية والعالمية على منصات التواصل الاجتماعي، وأيضاً من خلال سلسلة من الحسابات موثوقة المصادر من صحافيين ومواطنين، بالإضافة إلى التقارير الصادرة عن المنظمات الدولية. وبعد جمع هذه المصادر، وبسبب طبيعة الصراع والتحديات التي نواجهها، مثل انحياز بعض المصادر الإخبارية المعروفة دون الاستناد إلى الحقائق، نقوم بتحليل المعلومات لفهم التطورات الجارية في فلسطين. كما نعمل على تقييم مصداقية المصادر والتأكد من أن المعلومات التي نقدّمها دقيقة وحديثة، حيث أن انتشار المعلومات المضللة في ازدياد كبير مع صعوبة الوصول إلى بعض المصادر بسبب الحصار المفروض من قبل الاحتلال، الذي أدى إلى إنترنت شبه معدوم مع انقطاع تام لأساسيات الحياة من ماء وكهرباء وأزمة نزوح إنسانية".
المدققة ريهام أبو عيطة من مرصد "كاشف"، تقول عن رصدهم: "نحن نعمل على شكل فرق مقسمة بين الليل والنهار للرصد والتحقق من الأخبار، وأحياناً كل الفريق يعمل في الليل والصباح دون الالتزام بساعات عمل محددة، لأنها ظروف غير عادية. فنحن في حالة حرب وطوارئ. حتى أننا قمنا باستحداث قسم التحقيقات باللغة الإنكليزية لمواجهة الأخبار التي تؤثر على صورة الفلسطينيين أمام العالم، وتقلل من حجم التضامن معهم".
من يستخدم التضليل... وكيف؟
تقول فاطمة حمّاد: "يصعب توفّر الإحصائيات حالياً. ولكن النشر الكاذب بوضوح، هو من طرف إسرائيل وبشكل واسع جداً، إذ تستخدم التضليل والإعلام في كل الأحداث، وبالتأكيد ازداد خلال الحرب في التحريض على المقاومة الفلسطينية والفلسطينيين وتشبيه المقاومة بالإرهاب وداعش، لتبرير جرائمهم ومجازرهم في غزة سواء في المنصات الناطقة بالعبرية أو العربية أو الإنكليزية، بالإضافة إلى حسابات الصحافيين الإسرائيليين؛ إيدي كوهين مثلاً، يبث الأخبار الكاذبة عبر حسابه على منصة إكس".
الأخبار المضللة والكاذبة سلاح يُستخدم من قبل كل الحكومات غير الديمقراطية والقمعية والميليشيات والتنظيمات المتطرفة، وإسرائيل جزء من هذه المنظومة
وتضيف: "الأمثلة على تضليل الاحتلال كثيرة. هناك مثلاً الأخبار التي تحدثت عن قتل الأطفال والرضّع من قبل المقاومة، وهذا ما أثبتنا أنه مضلل بعد تدقيق المعلومات من قبلنا، وما أثبتته الفصائل بعد نشرها مقاطع مصورةً عن كيفية تعاملهم مع الأطفال داخل المستوطنات في اليوم الأول من عملية طوفان الأقصى. مثال ثانٍ هو خبر آخر زعم أن المقاومة الفلسطينية أسرت مستوطنةً -بصيغة أوضح مدنيةً- لكن أثبتنا في تقرير أنها مجنّدة في جيش الاحتلال، بالإضافة إلى فيديو تم تداوله على أنه يُظهر تدريب حركة حماس للأطفال الفلسطينيين على القتل، لكن أثبت التدقيق الحقيقة وهي أنه مقتطع من فيلم لمخرج فلسطيني".
من جهته، يشدد حمزوز على أنَّ "الأخبار المضللة والكاذبة سلاح يُستخدم من قبل كل الحكومات غير الديمقراطية والقمعية والميليشيات والتنظيمات المتطرفة، وإسرائيل جزء من هذه المنظومة. وللأسف انخرطت شركات التكنولوجيا في التضليل وأصبحت جزءاً منه عبر انحياز الخوارزميات في تقييد المحتوى الفلسطيني، وتالياً تقييد الوصول إلى الحقيقة. وتوجد أدلة تُثبت استخدام إسرائيل للأخبار الكاذبة كسلاح خلال العدوان على غزة، والأمثلة كثيرة منها: شائعات حول إطلاق حماس صواريخ على إسرائيل من مناطق مدنية، بهدف تبرير قصف إسرائيل للمدنيين الفلسطينيين، وهذا الاستخدام هو جزء من إستراتيجية كبيرة تهدف إلى تبرير انتهاكات إسرائيل للقانون الدولي وحقوق الإنسان. كما من المهم ذِكر أن القانون الدولي حظر استخدام المعلومات الكاذبة أو المضللة كسلاح لتدمير الثقة أو التأثير على السلوك العسكري، ويشمل ذلك إطلاق حملات تضليل إعلامي ضد الفلسطينيين".
كذلك، تقول أبو عيطة: "إعلام إسرائيل بثّ خبراً يزعم قيام أحد عناصر حماس بشقّ بطن امرأة وسحب الجنين منها، ثم تركه ليموت، لكن هذا الخبر لا توجد أدلة تثبت صحته، وعند البحث بالكلمات المفتاحية عن الخبر، تبيّن أنَّ الحادثة حصلت في مجزرة صبرا وشاتيلا عام 1982، التي ارتكبها الاحتلال في ذلك الحين، لكنهم الآن أعادوا نشر الخبر مع قلب الأدوار".
التحديات في أثناء التدقيق
تشير فاطمة حمّاد إلى أنّ "تأثير المشاهد الإنسانية علينا كفلسطينيين هو ذاته، سواء كنا مدققين، أو صحافيين أو مواطنين، ولكن الفارق هو أنَّ المدقق يتابع ويدقق في كل ما يُنشر من فيديوهات وصور صعبة جداً لأطفال ومواطنين ارتقوا شهداء جرّاء القصف على غزّة".
وعن العراق يقول حمزوز: "حتى إن كان المدقق يجلس على بعد آلاف الكيلومترات من مكان الحادث، إلا أن المشاعر والعواطف يمكن أن تكون موجودةً بشكل كبير، خصوصاً إذا كان المدقق يبحث عن موضوع أو منطقة تربطه بها قضية إنسانية أو مظلوميات وانتهاكات لحقوق الإنسان. فمشاهد الضحايا والتعمق في النظر إليها خلال عملية التدقيق، يمكن أن يدخلا الصحافي في دوامة من الاضطرابات النفسية والصدمات العصبية، وهذا ما يحصل الآن خلال العدوان على غزة وكمية المشاهد المروعة التي نُجبر على التدقيق فيها من أجل إيضاح الحقيقة ومحاربة التضليل. في مواقف أخرى، قد يتأثر المدقق بمشاعر تجعله منحازاً أكثر في تحقيقه، ويمكن أن يفقد التحقيق ركناً مهماً من أركانه أو جزءاً كبيراً من المصداقية والحيادية في نتائجه، لذا يجب أن يأخذ المدقق قسطاً من الراحة حين يشعر بالتعاطف أو التأثر بمشهد قد رآه، ولا يقترب من التدقيق إلا إذا كان مستعدّاً لتلك المهمة".
تقول ريهام أبو عيطة، عن هذا الجانب الذي يشكل تحديّاً: "تُصادفنا مواقف صعبة، خصوصاً أننا نفقد التواصل مع عدد من الصحافيين والمصادر داخل غزّة، حتى أنه يصعب علينا سؤالهم عندما نراهم يمرّون بظروف صعبة جداً. وحتى الآن لم نصل إلى نتيجة تتعلق بزميلنا المفقود نضال الوحيدي، سوى أننا عرفنا أنه كان في آخر مرّة يغطي عند معبر إيرز مرتدياً زي الصحافة، ولا نعلم ما إذا كان معتقلاً لدى الاحتلال أو استشهد بقصف لا سمح الله. فريقنا في الضفة الغربية لا يعاني من صعوبات تتعلق بالإنترنت والكهرباء، إلا أن فريق غزّة يعاني وغير قادر على العمل لأن الأجواء مرعبة، ولا يوجد مكان آمن، بالإضافة إلى انقطاع الكهرباء التي لا تتوفر سوى ساعات قليلة في اليوم، لا تكفي لشحن الهواتف والأجهزة الالكترونية. وقد فقدنا العمل معهم تماماً خصوصاً أن زميلنا الأساسي في غزّة أحمد جودة، لا يملك اتصالاً بالإنترنت حالياً".
"استخدم الاحتلال أيضاً تقنية الذكاء الاصطناعي على مستوى إنتاج المحتوى، حيث نشرت حسابات للرواية الإسرائيلية صوراً مشكوكاً في صحتها أو مولدةً عبر الذكاء الاصطناعي، مثل صور ضحايا أو جثث أطفال متفحمة"
وتضيف أبو عيطة: "على الرغم من كل المواقف الإنسانية التي تصادفنا ونقدّرها، إلا أننا لا ننحاز، ولدينا منهجية مستقلة ويستحيل أن ننشر تقريراً يحتوي على معلومات مغلوطة مهما كان مصدره. أحياناً يتم اتّهامنا على إثر بعض التحقيقات بالتحيّز أو التبعية. لكن همنا أن نوصل الحقيقة بصرف النظر عن مضمونها، وفي الواقع توجد جرائم وأدلة واضحة على الانتهاكات والظلم، ولذلك لسنا في حاجة إلى ضرب مصداقيتنا. الأخبار الكاذبة تنعكس سلباً على القضية الأساسية".
تكتيكات بث الأخبار الكاذبة
أنس ناصيف، محرر أول في موقع "مسبار"، الذي يعمل على تدقيق الأخبار ضمن النطاق العربي، يقول في حديثه إلى رصيف22: "منذ بداية عملية طوفان الأقصى، رصدنا أنواعاً متعددةً من البروبغندا الإسرائيلية، حيث وجّهت الشخصيات الإسرائيلية المؤثرة كالصحافيين، والمسؤولين، وصفحات رسمية إسرائيلية، محتوى عربياً إلى الجمهور العربي، وآخرون وجهوا محتواهم باللغة الإنكليزية كي يكسبوا التعاطف العالمي مع الإسرائيليين بعد عملية طوفان الأقصى، ومنها مثلاً مشاهد مرتبطة بمناطق أخرى لكن تُنشر على أنها من غزّة، وادّعاء قطع حماس لرؤوس 40 طفلاً، وهذا الخبر بثّته قناة إسرائيلية اسمها 'آي 24 نيوز'، ومنها انتشر إلى وسائل إعلام وصحف أجنبية".
ويضيف: "لكن في ما بعد، حصلت وكالة الأناضول على نفي من الجيش الإسرائيلي الذي قال إنه لا يعلم عن هذه الحادثة شيئاً، ثم سُحِب الخبر من بعض وسائل الإعلام وأخرى استمرت في نشره. حتى أنَّ الرئيس الأمريكي جو بايدن، روّج له، لكن البيت الأبيض تراجع لاحقاً عن تصريحاته، لعدم وجود ما يثبت صحتها، أو صحة خبر اغتصاب نساء إسرائيليات، ومزاعم استهداف حماس للأطفال بشكل مباشر، وهذه ادّعاءات لا أدلة عليها، قابلها نشر حماس لمقاطع فيديو تظهر تعامل عناصرها مع الأطفال".
ويضيف ناصيف: "جزء من البروباغندا الإسرائيلية، محاولات ربط حماس بتنظيم داعش الإرهابي، وهذا لجذب التعاطف والدعم العالميين من أجل الحصول على شرعية تمكّنهم من فعل أي شيء في غزّة. هذا الادّعاء خارج السياق بالتأكيد. وأيضاً ترويج أنَّ إسرائيل إنسانية عندما أعلنت وسائل إعلام عبرية عن إعادة المياه إلى غزّة، وهذا الكلام غير صحيح بالتأكيد. واستخدم الاحتلال أيضاً تقنية الذكاء الاصطناعي على مستوى إنتاج المحتوى، حيث نشرت حسابات للرواية الإسرائيلية صوراً مشكوكاً في صحتها أو مولدةً عبر الذكاء الاصطناعي، مثل صور ضحايا أو جثث أطفال متفحمة. لكن الكثير من الخبراء أكدوا أنها مولّدة عبر الذكاء الاصطناعي، وغير حقيقية".
ومن ناحية تقنية، يلفت ناصيف إلى أنه "توجد شكوك حول ترويج المحتوى الإسرائيلي خصوصاً على منصة X، برفع تفاعل حسابات المؤثرين عبر (البوتات) والحسابات الوهمية كي تدعم المحتوى الإسرائيلي، وخوارزميات شركتي ميتا وإكس التي أصبحت أداةً تساهم بشكل كبير جداً في تقويض المحتوى الداعم للقضية الفلسطينية، وهذا يُعدّ حجباً لحق الضحية في إبراز مأساتها وقضيتها".
ويختم ناصيف: "لكن في المقابل هناك ترويج للدعاية الاسرائيلية بشكل كبير، ونواجه عملياً صعوبةً في إيصال الحقيقة إلى أكبر عدد من الجمهور -ربما في إكس أقلّ من فيسبوك- لكن أيضاً يوجد منع وحجب للمحتوى الدائم لفلسطين، ومزاعم لإظهار إسرائيل على أنها دولة استُهدِفَت فقط من قبل تنظيم حماس، دون التطرق إلى أن إسرائيل دولة احتلال، وماذا فعلت وتفعل".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.