شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
عن ستّي جميلة وحسنة وصافية ورشيدة... أشهر نساء مخيّم درعا

عن ستّي جميلة وحسنة وصافية ورشيدة... أشهر نساء مخيّم درعا

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والنساء

الاثنين 26 فبراير 202406:02 م

ستّي هي جميلة يوسف الأسعد، الحادبةُ الحانية التي كنتُ أمضي معظم يومي في غرفتها الطينية، وهي تكلمني عن فلسطين وعن حيفا والمنارة التي تقع بين عين غزال و إجزم بقضاء حيفا، وحقول الموز واللوز المسوّرة بالصبار، ونساء الطنطورة (المعدّلات) أي الأنيقات المرتبات في بيوتهن، ستّي التي محصلة عمرها نكبات ونكسات و نزوح ولجوء وسقوط عواصم، وآخر سقوط عاصرته كان سقوط بغداد والذي أدى لإصابتها بجلطة في الدماغ فانسكب من ذاكرتها الكثير من الأحداث والأحاديث.

توّفي زوجها وهي في عمر السّابعة عشر، مروراً بوفاة ابنها البِكر وهو في ريعان شبابه، الأستاذ هاشم وهو من أوائل المعلمين في مخيم درعا، وأُسِر ابنها الآخر، والدي عطا أبوعطا، وقضائه سنواتٍ في الأسر. تقول والدتي أنه "مكث في سجن العفولة الإسرائيلي لمدة سنتين وشهرين ويومين"، والتحاق ابنها الصغير، عمّي تيسير أبوعطا، بصفوف الثورة وظلّ لعدة أعوام في ليبيا دون أن تعرف عنه أي شيء. يا لمقدار الألم الذي يتحتّم على شخص واحد أن يحمله على ظهره، كما حمل الفلسطيني متاعه ومشى أياماً حين فارق أرضه ودياره مُكرها، وهو يرتدي حذاء الشّوك والوحل ويحمل الخسائر والمتاع على ظهره المكسور.

ستّي هي جميلة يوسف الأسعد، الحادبةُ الحانية التي كنتُ أمضي معظم يومي في غرفتها الطينية، وهي تكلمني عن فلسطين وعن حيفا والمنارة التي تقع بين عين غزال و إجزم بقضاء حيفا، وحقول الموز واللوز المسوّرة بالصبار، ونساء الطنطورة 

وحقيقةً لا أعلم يا ستي الحنون لم رجعت أوتار صوتك النّدي تعزف في عقلي ومخيلتي، لعلّها النكبة التي مر عليها خمس وسبعون سنة، لعلّها النكبة التي تأبى أن تنتهي والتي امتدت لمخيّم درعا المتواضع الذي أجهزت الحرب الأخيرة على أكثر من نصفه، فالمخيم هو ظلّ فلسطين وفلسطين مبتورة الظلال.

ميرمية وسُكر للحلو المكَشِر

"عزا ولك يا مشحّر من ايمت النسوان بغنن كُدام ( بحضور ) الزُلم"، ما بصير هالخُراف ( الكلام ) تبعك يا ستي ما بصير".

لم تكن النّساء تغني أثناء الحصاد، لتواجد الرّجال معهن!!! هكذا كان جواب ستّي الحازم عندما سألتها ذات مرة عن الأغاني التي كانت تغنيها أثناء الحصاد. صدمتني ستي عندما أخبرتني بهذه المعلومة، وصدمتني أيضاً عندما علمت أنها كانت تٌشرف على الرجال والنسوة حينما كانوا يعملون بحقول والدها الملقّب بالحج يوسف التّكز وتُكز تعني الرجل القصير والقوي، وهذا الأمر لا ينسحب على باقي الحقول لعدم تشارك الرجال والنساء في العمل، لكنها قالت لي معلومة طبية فريدة من نوعها أنستني صدمتي الأولى.

فقد كانت النّسوة يحضرن شاشة قطنية يضعن بها بعض الميرميّة والسّكر، تعطيها الأم لرضيعها/لرضيعتها، يمصّها طوال الوقت، وتضعه تحت فيء شجرة الخروب، أو أي شجرة أخرى متوفرة، لكن الخروب كان ينمو بكثرة هناك، والمعروف أن الميرميّة تساهم في تهدئه الرضيع حيث تخلّصه من النفخة وتساعده على النّوم حتى تنتهي الأم من عملها أثناء الحصاد، وتظل تدندن له "ميرمية وسُكر للحلو المكَشِر" ومكشِر تعني الغاضب أو المزعوج وعندما يهدئ الرضيع/الرضيعة، تدندن له والدته "ميرمية وسُكر للحلو المغَندر".

عن ستّي حسنة وستّي صافية وستّي رشيدة

وبما أني كنت دائم المرافقة لستّي جميلة، فقد كانت تصطحبني معها بزياراتها القصيرة إلى صديقاتها الحجّات، وأذكر ذات مرة أني ذهبت برفقتها لزيارة الحجّة حسنة توفيق الأسعد أمّ محمد ابنة عمّها في المخيم، وكلمة حاج أو حجّة يلقب بها الرجل أو المرأة التي حجّت إلى مكة المكرمة. وكان في بيت ستي حسنة مطهّر الصبيان يقوم بتطهير (ختان) حفيدها الصغير، فراحت النساء تغني للولد الصغير، ليكفّ عن البكاء، طبعاً بعد انصراف المُطهّر، تقول كلمات الأغنية:

زيّنه يا مزيّن ناوله لأمّه /دمعته هالغالية سقطت على كمّه/زيّنه يا مزيّن تحت فيِّ التين

يا ميمته فرحانه/وقلبها حزين/زيّنه يا مزيّن تحت فيِّ عراق/يا ميمته فرحانه وقلبها مشتاق

زيّنه يا مزيّن بمواس الذهب/لا توجّع لي العريس عمنّه عزب.

طبعاً مع ضرورة تحويل القاف إلى كاف حسب اللهجة الفلسطينية.

كسرنا اليهود في معارك عديدة، حتى استعانوا بفرقة خاصة اسمها الشريط الأخضر، فانتصروا عليهم الثوار انتصاراً ساحقاً لدرجة أنهم لم يتمكنوا من سحب جثثهم حتى أنتن الهواء برائحة جثثهم المتعفنة، ثم استهدفونا بالقصف من البحر، وثم من الطيران الحربي فاضطررنا للرحيل عن المنارة.

والحجّة حسنة توفيق الأسعد هي من أشهر الحجّات في مخيم درعا، حيث أنّه تم تسمية الشارع الضيق الذي تقطنه باسمها "شارع حسنة الحج" حيث لاتزال تعيش هناك في بيتها لليوم، وتُعرف بقوّة شخصيتها وحلاوة لسانها وطلاوة لغتها الموشاة بالسّخرية، وأذكر أنها كانت تظلّ تدندن بأغنية تصف الختيار الذي يُقدِم على الزواج من الصبايا اللواتي في عُمر بناته، تقول كلمات الأغنية السّاخرة:

بذيلِ الأرنب بذيلِ الأرنب/واربطوا لي الشّايب بذيلِ الأرنب

بدّه يِتشبّب بدّه يِتشبّب/ملعون أبو شيبهُ بدّه يتشبّب.

ولا يفوتنا في هذا المقام ذكر الحجّة صافية النّصار، وهي أيضاً من أجمل نساء المخيم، تتميز بزرقة العينين و بياض البشرة الصافي وهي من أشهر حجّات مخيم درعا وأقواهن شخصية، وتم تسمية زاوية الشارع الذي تسكن فيه "زاوية صافية". وفي وسط شارع المخيم الرئيسي تسكن الحجّة رشيدة فايز، وهي معروفة بقوة شكيمتها، وهناك قصة حقيقية يعرفها جميع أهالي مخيم درعا، أنّه إبان النكبة وخلال تهجير الفلسطينيين من قراهم، تم قصفهم بالطائرات، فانشق بطن زوجها، فقامت بتقطيّبه وحملته على ظهرها حتى وصلت الحدود السّورية، وهناك الكثير من حجّات المخيم المناضلات ولكن ما من سبيل لذكرهن جميعاً في هذا المقام.

ومن الأغاني الطريفة التي كانت تستذكرها حجّات (عجائز) المخيم حين جلوسهن سويّةً على مصطبةِ بيت ما، والمصطبة هي عتبة مرتفعة يصبّها أصحاب البيت بجانب الباب، ليجلسوا عليها في المساء والصباح وهي بمثابة غرفة الضيوف وخاصة في أيام الصيف، وذلك لضيق البيوت في المخيم وارتفاع حرارة الغرف الصغيرة. وكانت هذه المصاطب مثل الندوات التراثية حقيقة حين اجتماع عجائز المخيّم، وهنا أستذكر هذه الأغنية التي تتحدث عن الموضة في القرن الفائت:

أجتنا موظة وشنطن لابسين بلاطين الشّارلستون/كأنّا ساكنين بلُندن وأنا من يومي. أيوه آه

شايفك لابس ومتلبِّس ومربي شعرك ومتخنفس/والحق ع الشرطة يلي ما تحبس وأنا من يومي. أيوه آه

كلمة متلبّس تعني (ذو هندام جيّد) ومتخنفس أي من يطيل شعره ويجعله بشكل حلقات صغيرة ملفوفة.

لا أعلم يا ستي الحنون لم رجعت أوتار صوتك النّدي تعزف في عقلي ومخيلتي، لعلّها النكبة التي مر عليها خمس وسبعون سنة، لعلّها النكبة التي تأبى أن تنتهي والتي امتدت لمخيّم درعا المتواضع الذي أجهزت الحرب الأخيرة على أكثر من نصفه، فالمخيم هو ظلّ فلسطين وفلسطين مبتورة الظلال

ومن الأغاني التي كانت تغنيها النسوة، مقطوعة صغيرة للحاج البطل أمين الحسيني، ينشدن فيها:

الحاجّ أمين طاح البحر بيدهُ كيله/ياريتهُ يروّح سالم لَها العيله

الحاج أمين طاح البحر بيدهُ شَربِه/ياريتهُ يروح سالم من ها لغربه.

والكيله هي وعاء ماء من المعدن أمّا الشّربه فهي وعاء ماء من الفخار. ​

معنى كلمة مشحّرة و عزّا وأغنية للدجاج البيّاض

تُكثر الفلسطينيات وليومنا هذا من استخدام كلمة مشحّرة أو مشحّر، فحين لا تفلح إحداهن بعمل ما، تقول يا مشحرة يا... يامشحّرة يا لطيفة... يا مشحّرة يا آمنة... وتسمي اسمها...والشحار هو المادة السوداء الموجودة في الفرن أو كما نسميه الطابون الفلسطيني، وبالعودة لهذه الصفة (المشحّرة) تبين لي ما يلي بعد سؤالي لإحدى نساء المخيم المعمّرات حيث أجابتني:

"إذا حدا بكون كرايب العيله وبعظ ع لسانه ياحبيبي بتدشع النسوان للطابون ويشحرن وجوهن من الكهر عليه". أما الترجمة تقول:

إذا مات (عظ ع لسانه) أحد أقرباء العائلة، تهرع (تدشع) النساء للطابون ويسوّدن وجوههن بالشحار (الكهر) قهراً وأسفاً عليه. أمّا كلمة "عزّا " أو "عزايين " وهي تضعيف عزا فهي تفيد الاستهجان، وتستعمل النساء الفلسطينيات هذه الكلمة بشكل مفرط، وهناك نكتة فلسطينية تقول "قال رجل لزوجته : ولك يا مَره بكفي تحكي عزا، كركعتيني فيها" أزعجتني "فردت عليه: عزايين مين كال عزا ".

أمّا كلمة كاروط وكاروط العزا "قاروط" فهي تستخدم لوصف الصبيان المشاكسين.

وهناك طرفة فلسطينية تستخدمها النساء في مخاطبة الدجاجات لحثّها على أن تبيض، فيقلّن:

"كاكي يا ركيشة كاكي، يا بيضك ملّى المكالي، تنزل على كليبي باللاكاكيم".

كاكي وهي تعني قاقي أي أن تصدر صوتا، وركيشة هي الدجاجة البيضاء المرقّشة بالأسود ويسمونها "رزّية" و ملّى تعني "ملأ" المكالي هي جمع مفردة مقلاة، وكليبي هي قلبي، واللاكاكيم هي تعني لُقم وهي جمع مفردة لُقمة.

كسرنا اليهود في معارك عديدة، حتى استعانوا بفرقة خاصة اسمها الشريط الأخضر، فانتصروا عليهم الثوار انتصاراً ساحقاً لدرجة أنهم لم يتمكنوا من سحب جثثهم حتى أنتن الهواء برائحة جثثهم المتعفنة، ثم استهدفونا بالقصف من البحر، وثم من الطيران الحربي فاضطررنا للرحيل عن المنارة.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

رصيف22 من أكبر المؤسسات الإعلامية في المنطقة. كتبنا في العقد الماضي، وعلى نطاق واسع، عن قضايا المرأة من مختلف الزوايا، وعن حقوق لم تنلها، وعن قيود فُرضت عليها، وعن مشاعر يُمنَع البوح بها في مجتمعاتنا، وعن عنف نفسي وجسدي تتعرض له، لمجرد قولها "لا" أحياناً. عنفٌ يطالها في الشارع كما داخل المنزل، حيث الأمان المُفترض... ونؤمن بأن بلادنا لا يمكن أن تكون حرّةً إذا كانت النساء فيها مقموعات سياسياً واجتماعياً. ولهذا، فنحن مستمرون في نقل المسكوت عنه، والتذكير يومياً بما هو مكشوف ومتجاهَل، على أملٍ بواقع أكثر عدالةً ورضا! لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم، وأخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا!.

Website by WhiteBeard