مرحباً، أتمنى أن تكونوا بخير لأننا لسنا كذلك.
أنا إسلام مسعود، فلسطيني من غزة أدرس الطب البشري، استطعت السفر من غزة إلى مصر في اليوم الثالث من العدوان الإسرائيلي، قبيل قصف معبر رفح بساعات قليلة، لكن، ليتني لم أسافر، ليتني بين أهلي، أخاف خوفهم، أبكي معهم، أواجه نفس مصيرهم.
الوضع في غزة مخيف، بل مرعب، لا أجد كلمة لوصفه، ليتني أملك من البلاغة ما يكفي لأنقل لكم ما يحدث، حتى إن امتلكتها أعتقد أنها لا تفي بالغرض. ظننت أنني اعتدت، لكنها تأتي مختلفة في كل مرّة، كنت أظن أنه بعد خمسة حروب سأعتاد على ذلك، ولكن هذه المرة مختلفة، هذه المرة نحن نعيش تطهيراً عرقياً.
غزة الآن تواجه الموت، لا ماء، لا طعام، لا كهرباء، ولا إنترنت. من لم يستشهد من القذائف، سيستشهد من المجاعة أو من عدم توفر الأدوية والرعاية الصحية، أو حتى من القهر على صمت العالم والأخوة العرب على قتلهم.
ظننت أنني اعتدت، لكنها تأتي مختلفة في كل مرّة، كنت أظن أنه بعد خمسة حروب سأعتاد على ذلك، ولكن هذه المرة مختلفة، هذه المرة نحن نعيش تطهيراً عرقياً
لا أعرف إذا كان أهلي وأصدقائي على قيد الحياة أم لا، ولا أستطيع فتح وسائل التواصل الاجتماعي أو الأخبار، لأنني أخاف أن أرى صورهم تعلن وفاتهم. في كل مرّة أمسك فيها هاتفي، ترتعش يدي وأتخيّل ألف سيناريو قبيح لما يحدث في غزة.
أفكر بالمرضى، مرضى السرطان الأطفال الذين كانوا يتلقون العلاج خارج غزة، أفكر بمرضى السكر ماذا يفعلون عندما ينفذ الأنسولين. مرضى الضغط مرضى القلب، هؤلاء حكم عليهم بالموت، هل علي التفكير بالأصحاء جسدياً فقط والدعاء لهم للنجاة من القصف؟
أفكر في والدي. لديه مرض رئوي مزمن يحتاج الى استنشاق البخاخة يومياً. هل نفذت أدويته، كيف سيتنفّس؟ هل سيتمكن من الوصول إلى مستشفى إن حدثت له مضاعفات؟ وحتى لو وصل، يوجد آلاف الجرحى بالمستشفيات وخرج بعضها عن العمل.
أرى أحد أصدقائي من غزة على فيسبوك ينعى قريباً أو صديقاً له، وفي اليوم التالي أرى صورته، نحتسبه عند الله شهيداً.
إن الموت في غزة هو مسألة وقت ليس إلا، كما أن كل المجازر والتطهير العرقي تبثّ بشكل مباشر على التلفاز، والعالم يشاهد بصمتٍ، يتابعون ما يحدث كأنهم يشاهدون مسلسلاً يكون فيه المحتل الظالم هو البطل، ويلعب أطفال غزة دور الشرير الذي تتم إذابته بقنابل الفسفور الأبيض.
نعم إذابته بالفوسفور الأبيض، سلاح كيميائي محرّم دولياً يحرق جسم الإنسان ولا يبقي منه إلا العظام، تكمن خطورته في قدرته الرهيبة على استقطاب الماء من الهواء والأنسجة الحية خلال تفاعله، ليكوّن حمض الفسفوريك، وما يزيد من خطورته هو قدرته العالية على الذوبان في الدهون والانتشار السريع داخل الجسم المصاب وإكمال تفاعلاته، باعثاً حرارة عالية تؤدي إلى حرق الخلايا والأنسجة والأعضاء الداخلية حتى يصل إلى العظم، وحتى استنشاقه يسبب جروحاً في الفم ويكسر عظام الفك.
لا أعرف إذا كان أهلي وأصدقائي على قيد الحياة أم لا، ولا أستطيع فتح وسائل التواصل الاجتماعي أو الأخبار، لأنني أخاف أن أرى صورهم تعلن وفاتهم
لم أكتب من قبل مقالاً باللغة العربية، ولم أفكر يوماً أن علي ان أكتب عن غزة للجمهور العربي، ماذا أكتب وهم أصحاب القضية؟ هل هم لا يعلمون بالحصار والقتل والتهجير على غزة منذ 17 عاماً؟ ألا يعلمون عن الفسفور الأبيض؟ ألا يشاهدون الجزيرة ويرون أكياس الجثث مكتوب عليها "أشلاء الطفل فلان"؟ ألا يدرسون في جامعاتهم مع فلسطينيين انهاروا بعد أن وصلهم خبر إبادة عائلاتهم بأكملها؟ كيف أطلب منكم التضامن والقضية قضيتكم؟
أشعر بالعجز التام، بالاحباط، بالضياع، مع كل خبر، مع حياد حكام الدول العربية، مع دعم القوى العظمى للاحتلال الإسرائيلي، مع منع الأنظمة العربية حتى التضامن مع فلسطين. هل تعتقدون أن غزة سوبرمان لا تحتاج أحداً؟ صدقوني أن المباني في غزة إذا انفجر الصاروخ بجوارها فإنها تتهدم، وأبناء غزة حين تصيبهم الشظايا يموتون، يشعرون بالخوف على أنفسهم وعلى أطفالهم. إنها ليست أکثر من مدينة فقيرة صغيرة تقاوم، غزة تلفظ أنفاسها الأخيرة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...