تمر هذه الأيام العصيبة على العالم العربي والعالم الحرّ بأسره، بمرارة مفجعة، حيث لا يمكن لأي إنسان على وجه الأرض أن يرسمها في مخيلته، أو يشعر بها أكثر من الفلسطينيين/ات أنفسهم/ن. وتزداد هذه الأيام الأليمة ألماً مع فرض إسرائيل تهجير أهالي قطاع غزة من أراضيهم، بذريعة حمايتهم من الموت!
وبصمت المجتمع الدولي عن الانتهاكات الإسرائيلية التي ترتقي إلى جرائم حرب، أصبح العالم يقترب من مشاهدة نكبة أخرى في تاريخ فلسطين، كنكبة عام 1948 التي لا تزال حتى الآن عالقةً في ذهن الكثير.
عن هذا الحدث التاريخي، صُنعت أعمالٌ فنية وأُلّفت قصصٌ وروايات وكتب ومقالات ومذكرات كثيرة على يد فنانين/ات وكاتبين/ات ومثقفين/ات من العرب والمسلمين، وذلك للتعريف بحقيقة الأمر في تلك البرهة، كما الحال في إيران، فالإيرانيون المهتمون بالقضية الفلسطينية عملوا على تعريفها بشتى الوسائل والطرق.
وتعريفاً بالنكبة، صنع المخرج الإيراني الراحل سيف الله داد، عام 1994، فيلم "المتبقي" (بالفارسية: بازمانده)، الذي يُعدّ حتى الآن أنجح الأفلام الإيرانية في هذا المجال وأفضلها، والخالد في ذاكرة الإيرانيين.
"المتبقّي"
قصة فيلم "المتبقي"، نتاج قراءة المخرج سيف الله داد في إحدى القصص القصيرة للكاتب والروائي الفلسطيني غسان كنفاني بعنوان "عائد إلى حيفا". والمثير في تلك القصة أنها كانت مريرةً للغاية، حيث يمكنك الشعور بخيبة الأمل التي من خلالها فشل أبطال القصة. ينتقد الكاتب بشدة الجيل السابق من الفلسطينيين/ات الذين قبلوا بالتهجير وترك أراضيهم، ويتساءل: لماذا لم يقاوموا عندما تم تشكيل دولة إسرائيل المزيّفة؟
قصة فيلم "المتبقي"، نتاج قراءة المخرج سيف الله داد في إحدى القصص القصيرة للكاتب والروائي الفلسطيني غسان كنفاني بعنوان "عائد إلى حيفا"
في عام 1948، في فلسطين، وفي مدينة حيفا المحتلة تحديداً، كان الدكتور سعيد يعيش مع زوجته لطيفة وطفلهما فرحان. يرى الدكتور سعيد، شمعون (جاره اليهودي وصديق طفولته) في أثناء تفجير قطار. شمعون يهدده بمغادرة المدينة، لكن سعيد يرفض. صفية والدة سعيد تأتي إلى حيفا لتقنع ابنها بمغادرة المدينة، وفي صباح اليوم الذي من المفترض أن تغادر فيه عائلة الدكتور سعيد، تتعرض حيفا لغزو إسرائيلي، على إثره لم يبقَ من هذه العائلة سوى صفية وفرحان.
يُحتل منزل الدكتور سعيد، على يد زوجين يهوديَين (شمعون وزوجته)، حيث يقومان برعاية فرحان الذي بقي وحيداً في المنزل. جدّته صفية التي تريد استعادة حفيدها الوحيد، تدخل بين العائلة اليهودية بصفة مربية أطفال، وبعد أن تستقرّ في ذلك البيت وتصير مربّية فرحان، يطلب منها زوجها حمل حقيبة تحتوي على قنبلة وإدخالها إلى قطار يقلّ مستوطنين إسرائيليين، وهو القطار نفسه الذي تستقلّه صفية وحفيدها والزوجان الإسرائيليان. وفي اللحظة التي يتم فيها الكشف عن هوية صفية، تقفز من القطار مع فرحان ويحدث الانفجار.
كواليس العمل وطاقمه
قام سيف الله داد، برحلات عدة إلى سوريا ولبنان لكتابة سيناريو فيلم "المتبقي"، حيث قرأ عدداً كبيراً من الكتب التاريخية عن هذه الأراضي، وذلك لمعرفته باللغتين العربية والإنكليزية، وقد تمكّن من قراءة النصوص الأصلية دون الحاجة إلى ترجمة، كما درس المخرج العديد من الوثائق في مجال المقاومة الفلسطينية.
وبعد كتابة السيناريو ذهب إلى سوريا، وأرسل نص الفيلم إلى بعض العاملين في مجالات الأدب والفن والتلفزيون في سوريا، الذين أشادوا بقدرة هذا العمل وميزته، وذلك مقارنةً بكتابات فناني الدول العربية. وعلى الرغم من جودة النص، كانت لديهم شكوك جدية في إمكانية إنتاج هذا الفيلم، إلى درجة أن المصوّرين والسينمائيين السوريين، قالوا إنه لمجنون من يقوم بصنع هذا الفيلم.
كما استبعد أحد المسؤولين السوريين، إمكانية تصوير فيلم "المتبقي"، نظراً إلى عدم وجود بنية تحتية لإنتاج مثل هكذا فيلم، لكن سيف الله داد صنع هذا الفيلم بنجاح، وعُرض في مهرجان دمشق السينمائي، حيث أكد النقاد والخبراء العرب أن هذا الفيلم "لم يسبق له مثيل".
وشارك في بطولة هذا الفيلم، كل من: سلمى المصري في دور "الخالة صفية"، وجيانا عيد في دور "لطيفة"، وجمال سليمان بدور "الدكتور سعيد"، وبسام كوسا جَسّد دور "المخرج اليهودي"، وغسان مسعود قام بدور "شمعون"، وصباح بركات مَثّلت دور "هناء"، وعلاء الدين كوكش دور "رشيد".
حظر عرض فيلم تضامني مع الشعب الفلسطيني في إيران
حول حظر هذا الفيلم في إيران، كتب منتجه منوشهر محمدي، عام 2012، في افتتاحية في جريدة "اعتماد"، أنه قبل إقامة مهرجان فجر السينمائي في إيران عام 1995، وفي الموعد المحدد، أُرسلت نسخة نهائية من فيلم "المتبقي"، لكن لم يأتِ أي رد من قبل لجنة المراجعة وترخيص العرض. وبعد مرور أكثر من أسبوعين، يتصل أحد مسؤولي السينما الإيرانية بمنتج العمل، وخلال محادثة قصيرة يخبره بأنه يرغب في إجراء حديث معه حول فيلم "المتبقي"، ولكن يفضّل أن يكون هذا اللقاء في مكان آخر غير مكتب المهرجان، وبناءً على طلب هذا المسؤول، عُقد الاجتماع في مكان خارج مكتب المهرجان.
في اللقاء، أكد المسؤول في السينما الإيرانية، على أهمية هذا الفيلم، من حيث تناول وتعريف القمع الممنهج الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني، والممارسات العدوانية التي ترتكبها إسرائيل، إلا أنه تم عدّ الفيلم غير قابل للعرض، بسبب "نوعية الحجاب والملابس التي ترتديها النساء"، والتي لم تكن مناسبةً من وجهة نظر المسؤولين المتشددين في تلك البرهة.
لكن ما كان مثيراً في هذا اللقاء، هو أنه طُلب من المنتج أن يعلن أن الفيلم لا يتمتع بالجودة والمواصفات اللازمة، ولهذا السبب لا يمكن عرضه في المهرجان، ووافق سيف الله داد بعدما عرف بالموضوع، وأعلن أن فيلم "المتبقي" لم يُعرض في هذه الدورة من المهرجان بسبب مشكلات تقنية.
الفيلم في مهرجان "فجر"
بعد عام من تلك الأحداث، أُرسل الفيلم دون أدنى تغيير إلى مكتب المهرجان من جديد، وهذه المرة لاقى قبولاً وحظي باهتمام الجمهور والنقاد ومسؤولي المهرجان، كما أُبلغ منتج الفيلم قبل 24 ساعةً تقريباً من حفل الختام، بأن الفيلم حصد ثلاث جوائز في المهرجان، وكانت الجوائز هي: جائزة "أفضل سيناريو"، و"أفضل مخرج"، و"أفضل ممثلة"، حيث توجب على طاقم إنتاج الفيلم، إحضار سلمى المصري التي جسدت دور صفية إلى طهران، خلال الساعات المتبقية من المهرجان، لتحصل على جائزتها بنفسها في حفل توزيع الجوائز.
استبعد أحد المسؤولين السوريين، إمكانية تصوير فيلم "المتبقي"، نظراً إلى عدم وجود بنية تحتية لإنتاج مثل هكذا فيلم، لكن سيف الله داد صنع هذا الفيلم بنجاح، وعُرض في مهرجان دمشق السينمائي
وبالطبع تسبب هذا الأمر بسعادة كبيرة لطاقم الفيلم، لكن كان من غير الممكن إحضار الممثلة السورية في هذه الوقت الضيق، ومن حسن الحظ أنها لم تأتِ إلى إيران، لأنه قبل 12 ساعةً من حفل الاختتام، أُخبروا المنتج والمخرج بأن لجنة المهرجان تراجعت عن قرارها وسحبت الجوائز من هذا العمل، واكتفت بإعطائهم جائزة العمل المميز لهذا الفيلم، الذي حظي بتقدير في الأوساط السياسية والفنية لسنوات بعد ذلك.
من هو سيف الله داد؟
وُلد سيف الله داد، في الخامس والعشرين من أيلول/سبتمبر 1955، في مدينة خرمشهر (المحمرة) جنوب غرب إيران، وعمل في مجال الإنتاج وكتابة السيناريو والإخراج، وهو شقيق الصحافي والمدون الناقد "بابك داد". أسس معهداً للسينما تحت عنوان "سينا"، كما عمل في منصب رئيس مجلس إدارة السينما الإيرانية بين عامي 1995 و1997.
شغر منصب نائب مدير شؤون السينما في وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي من عام 1997 إلى عام 2000. ويعدّ البعض تلك الفترة، العصر الذهبي للسينما الإيرانية. توفي هذا المخرج عن عمر يناهز 53 عاماً في 28 تموز/يوليو 2009، بمرض السرطان في مستشفى مهر في طهران.
خلال سنوات نشاطه، أخرج أفلاماً مثل: "طهران بحثاً عن الجمال"، و"تحت المطر"، و"كاني مانغا"، و"المتبقي"، كما أنه عمل محرراً لأفلام شهيرة عدة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكلام صحيح والله الواحد كان مكسوف وهو بيقرأ الكلام ده و فى ناس حوله لسه بيهزروا فى نفس الموضوع ،...
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعن أي نظام تتكلم عن السيدة الكاتبة ، النظام الجديد موجود منذ سنوات ،وهذه الحروب هدفها تمكين هذا...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ اسبوعينمقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ 3 اسابيععزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...