تمتزج الرؤى وتفسيرات الأحلام بأحداث التاريخ العربي والإسلامي، فتصنع سردية روائية لها طابعها المميز للتاريخ، تقف وراء تلك السردية روح الحكي والدراما في طبيعة الشخصية العربية ربما، لكنها تُعزز من حيث لا تدري العقيدة الإسلامية نفسها، كما تستمد قوتها منها، ونستطيع من هنا أن نستنتج أن العلاقة بين الرواية التاريخية المتكئة على تفسيرات الرؤى والأحلام، وبين روح العقيدة الإسلامية علاقة متبادلة تستند فيها الرواية إلى العقيدة لتكون أقرب إلى قلب المتلقي وعقله، كما تُعزز الرواية نفسها العقيدة في مرماها النهائي، وهو حال تلك الروايات في كل الحضارات.
امتزاج تفسيرات الرؤى بالرواية التاريخية في الواقع يبني عالماً ساحراً يُمكن الاعتماد عليه في صناعة سينمائية بطابع مختلف تماماً عن الطابع السائد للسينما العربية الحالية، ربما يجعلها أكثر سحراً وجاذبية، وأكثر تأثيراً.
في هذا المقال، حلقة جديدة من سلسلة ممتدة لتمازج الأحلام بالأحداث التاريخية عموماً وفي الحضارة العربية الإسلامية على وجه الخصوص، ينضم فيها فيل أبرهة الحبشي إلى جيش الملك ألفونسو الإسباني، لمحاربة المسلمين في الأندلس، بعد فشله في هدم الكعبة في عام الفيل.
معارك الأندلس
لم تكن المعارك في الأندلس تهدأ حتى تشتعل مرة أخرى، سواء بين المسلمين والإسبان أو بين ملوك الطوائف المسلمين وبعضهم بعضاً.
في هذا المقال، حلقة جديدة من سلسلة ممتدة لتمازج الأحلام بالأحداث التاريخية عموماً وفي الحضارة العربية الإسلامية على وجه الخصوص، ينضم فيها فيل أبرهة الحبشي إلى جيش الملك ألفونسو الإسباني، لمحاربة المسلمين في الأندلس، بعد فشله في هدم الكعبة في عام الفيل
في الفترة بين عامي 1065 و1109 كان الملك ألفونسو السادس، يحكم مملكة ليون وقشتالة في أقصى الشمال الغربي لشبه الجزيرة الأيبيرية، ونجح في تحقيق العديد من الانتصارات على ملوك الطوائف، لدرجة أنه انتزع منهم مدينة طليطلة سنة 1085، بمعاونة بعض ملوك الطوائف المسلمين أنفسهم، ورأى الملك الإسباني أن يواصل تقدّمه ليُنهي الوجود الإسلامي في شبه الجزيرة بشكل كامل، وجمع لذلك الغرض جيشاً هائلاً بهدف القضاء على من تبقى من ملوك الطوائف. لكن الخوف بدأ يتسلل إلى قلبه بعدما عرف أن المسلمين الذين أنهكتهم الانقسامات أرسلوا إلى دولة المرابطين في المغرب لطلب النجدة والمساعدة، تلك الدولة الفتية التي كانت لها سمعة ممتدة بغزواتها وفتوحاتها الكبيرة في الغرب الإفريقي، والتي امتدت من السنغال جنوباً وحتى الأندلس شمالاً.
قوة الملك ألفونسو
وصلت القوة بالملك ألفونسو السادس منتهاها، فكان ملوك الطوائف يدفعون له جزية سنوية، لا يتأخرون عنها اتقاءً لغضبه، لكن المعتمد بن عباد صاحب إشبيلية، تأخر عليه في دفع الجزية، فأرسل إليه ألفونسو قافلة من 500 فارس، يتزعمهم القائد العسكري ألبار هانس، ووزيره اليهودي ابن شاليب، ليُحصّل الجزية، فلمّا وصلوا عند المعتمد، أنزلهم في مكان قريب من إشبيلية، وأرسل إليهم الأموال، لكن الوزير ابن شاليب، رفض وقال: "لا آخذ منه إلا ذهباً خالصاً"، وفقًا لما ذُكر في كتاب "نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب" للشيخ أحمد بن محمد المقري التلمساني، تحقيق الدكتور إحسان عباس، وأساء الوزير ابن شاليب الأدب.
وذكر الدكتور شوقي خليل في كتابه "معركة الزلاقة بقيادة يوسف بن تاشفين" أن وفد الملك ألفونسو كان معه خبير نقد يهودي دون ذكر اسمه، وأنه رفض أن يتقبل الأموال دون فحص للتحقق من صحتها، ودار نقاش حاد حاول ألبار هانس بعده تسوية الخلاف، فاقترح أن يُقدم ابن عباد بدل المال المطلوب سفناً حربية بقيمة الجزية، لأن الوزير مأمور ألا يتسلم المال دون فحص وتحقيق، فازداد غضب المعتمد بن عباد وصاح: "لا أستطيع أن أتحمل بعد طغيان النصارى الأوغاد".
وذُكر أن مجموعة من العبيد الصقالبة تسللوا إلى خيامِ وفدِ ألفونسو في إشبيلية، وقتلوا ابن شاليب ومن معه، لكنهم تركوا القائد ألبار هانس يعود إلى طليطلة وهو يتوعد بانتقام مولاه. وبذلك وجد المعتمد نفسه قد تورط بالفعل في الدخول في حرب لا قبل له بها ضد جيش مملكة ليون. محاولة منه لتفادي الهزيمة الساحقة التي تنتظره على يد جيش الملك ألفونسو طاف على ملوك الطوائف يُحدّثهم عن ضرورة طلب النجدة من المرابطين، واستدعى ابنه وولي عهده، الرشيد، وأخبره اعتزامه استدعاء المرابطين إليه، وتسليم حصن الجزيرة لابن تاشفين استعداداً لاستقبال جيش المرابطين، وهو ما حدث بالفعل.
ولما حذره بعض ملوك الطوائف من الاستعانة بابن تاشفين الذي لديه مطامعه هو الآخر في الاستحواذ على الأندلس، وضمها إلى ملكه، قال المعتمد بن عباد: "تالله إنني لأوثر أن أرعى الجمال لسلطان مراكش على أن أغدو تابعاً لملك النصارى وأن أؤدي له الجزية. إن رعْيَ الجمال خير من رعي الخنازير".
فيل أبرهة يلتحق بجيش ألفونسو
علم الملك ألفونسو السادس باستنجاد المعتمد بالمرابطين في المغرب، فتسلل القلق إلى قلبه، وكما ذكر توفيق فهد في كتابه "الكهانة العربية قبل الإسلام" أن ألفونسو رأى في منامه أنه كان يمتطي فيلاً، وبين يديه طبل يقرعه، فقصّ حلمه على القساوسة الذين عجزوا عن تفسيره، وحينئذ استدعى عالماً مسلماً ضليعاً في تفسير الأحلام، وروى له حلمه، فطلب منه العالم أن يُعفيه من ذلك، فأبى، فقال له: تفسير حلمك موجود في كتاب الله، فهو أولاً كلام الله الذي يقول فيه "ألم ترَ كيف فعل ربّك بأصحاب الفيل"، إلى آخر الآيات، ثم إنه كلامه الذي يقول فيه: "فإذا نُقر في الناقور، فذلك يومئذٍ يوم عسير، على الكافرين غير يسير". إن جيشك الذي جمعته سيُباد.
وهكذا فإن الرمزية تسير في تفسير الأحلام عند المسلمين بناءً على اقتباسات من آيات قرآنية مسرى ثابتاً في جميع تفسيرات الأحلام عبر التاريخ الإسلامي، ودائماً ما كانت تجد الرمزية في الحلم مكانها الملائم بين آيات القرآن الكريم، عند مفسري العصور الوسطى.
لم يقتنع الملك الإسباني بكلام الشيخ المسلم، خاصة عندما رأى جيشه بعد انتهاء الاستعدادات للحرب، وكثرة عدده وعتاده، واستدعى المفسر المسلم الذي لم يُذكر اسمه، وقال له: "سأذهب بهذا الجيش لملاقاة ربّ محمد، صاحب كتابك"، ولكن، بلا شك، كان لتلك الكلمات وقعها على قلب الملك الإسباني، الذي لم يكن لديه معرفة وافية بما لدى جيش المرابطين من قوة.
قوة جيش ابن تاشفين
على الضفة المقابلة جنوبي البحر المتوسط، بدأ يوسف بن تاشفين في عبور البحر بجيشه انطلاقاً من مدينة سبتة، في آب/أغسطس من العام 1086، وفور وصوله إلى الضفة الأوروبية، تسلم قلعة الجزيرة الخضراء باحتفال حضره القضاة والفرسان، كما حضره المعتمد نفسه -بحسب الدكتور شوقي خليل- وأمّن المعتمد المؤن لتزويد جيش المرابطين أولاً بأول، وتأمين خطوط الإمداد، ومكث ابن تاشفين في إشبيلية 8 أيام، جهّز فيهم عدته وعتاده.
الجمل يحلّ محلّ الفيل
كما فعل القرطاجيون من قبل بزعامة القائد حنا بعل، ونقلوا الأفيال من إفريقيا إلى قلب أوروبا لمحاربة الرومان، نقل جيش المرابطين الجمالَ من صحرائهم إلى سهول الأندلس، إذ كان يعتمد المرابطون اعتماداً كلياً على الإبل، ولا يكثرون من الخيل، إذ روى المؤرخون، كما ذكر الدكتور عادل عواد الطائي في بحثه عن "تسليح جيش المرابطين" أنهم دخلوا المغرب في ثلاثين ألف جمل مسرج، واستفاد منها يوسف بن تاشفين، فكان يجعلها ترعى حول معسكره لتأمينه، وعند احتدام القتال تُساق إلى الحرب فتُدخل الرعب في قلوب الفرنجة ويجمح لمرآها خيلهم فيقع الارتباك في صفوفهم، وهو ما حدث بالفعل عندما رأى جنود ألفونسو الجِمال العملاقة غير المألوفة لديهم تهجم على جيشهم.
ذكر توفيق فهد في كتابه "الكهانة العربية قبل الإسلام" أن ألفونسو رأى في منامه أنه كان يمتطي فيلاً، وبين يديه طبل يقرعه، فقصّ حلمه على القساوسة الذين عجزوا عن تفسيره، وحينئذ استدعى عالماً مسلماً ضليعاً في تفسير الأحلام، وروى له حلمه، فطلب منه العالم أن يُعفيه من ذلك، فأبى
وكان يطلق على هذا السلاح اسم "الأبالة" أو "الهجانة"، وهم الفرسان الذين يمتطون الإبل، ويتسلحون بالدروع والسيوف والرماح، كما ذكر الطائي في بحثه "الصنوف والخدمات في جيش دولة المرابطين في المصادر والمراجع العربية".
حلم ألفونسو يتحقق
بعيداً عن تفاصيل المعركة التي يوردها الدكتور شوقي خليل في كتابه "معركة الزلاقة بقيادة يوسف بن تاشفين"، فقد دفع ابن تاشفين، بحرسه وقوامه 4 آلاف إلى قلب المعركة، واستطاع أحدهم أن يصل إلى الملك ألفونسو، وأن يطعنه بخنجر في فخذه طعنة نافذة، لكنه نجح في الفرار منه، وأدرك حينها الملك الإسباني أنه وفرسانه يواجهون الموت، ولما حل الليل، بادر ألفونسو في قلة من فرسانه بالتراجع والاعتصام بتل قريب، ثم انحدر منه تحت جنح الظلام إلى مدينة قورية، ولم يحج من جيش ألفونسو الجرار الذي تجاوز المائة ألف جندي، إلا بضعة مئات مع ملكهم أغلبهم جرحى.
وهكذا رأى ألفونسو تفسير حلمه عن الفيل الذي يمتطيه، والطبل الذي يقرعه، بحسب ذلك المفسر المسلم المجهول، وطويت صفحة معركة الزلاقة التي أمدت في عُمر الحكم الإسلامي للأندلس نحو 4 قرون أخرى.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...