شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
احتملنا عشرية الخطاب السيسي السلفي... اعتذار إلى الأحفاد

احتملنا عشرية الخطاب السيسي السلفي... اعتذار إلى الأحفاد

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

أدينُ لأكثر قليلاً من مئة كلمة لعبد الفتاح السيسي أوحت إليّ بهذا المقال. سوف تجلدنا أجيال لم تولد بعد، وتردد بسخرية سؤال أبي الخيزران للذين تخلّص من جثثهم في الصحراء، في نهاية رواية "رجال في الشمس": "لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟ لماذا لم تقولوا؟ لماذا؟". ونحن، يا أبا الخيزران، دققنا ولا نزال ندقّ. تكلمنا ولا نزال نتكلم. مسموح ببعض الكلام، ومنه هذا المقال الذي يستحيل نشره في مصر. اكتمل قتل الإعلام وتشييع جنازته. لا تنجو صحافة ورقية أو إلكترونية من التكميم الفولاذي. تمّ الإكراه على البيع، والاستحواذ بالاحتكار، وتوزيع مناصب يحكمها الضابط "واهب اللؤلؤ والمحار والردى"، إذا سمح لي السيّاب.

ستأتي أجيال لم تشهد عشريّتنا الأخيرة، وتتساءل كما نتساءل بدهشة عن سيكولوجية ضحايا رأوا الموت ولم يصرخوا. كان الجندي الغازي يشرع في فصل أعناق الضحايا الطيبين، حتى يثلم السيف، فيذهب لاستبداله، ثم يرجع فيجد الصف غير منقوص. لم يثوروا أو يهربوا، وهم يرون المصير محتوماً. من رؤية القتلى أمامهم ومن السيف الجديد اللامع، كان عليهم بالحس الفطري إدراك حكمة أبي الطيب: "إذا لم يكن من الموت بدّ/ فمن العار أن تموت جباناً". ولن أسرف في التفاؤل فأحمّلهم دلالة قول طرَفة بن العبد: "فإن كنتَ لا تستطيع دفع منيّتي/ فدعْني أبادرها بما ملكت يدي". فكيف يرانا أحفاد سيعيشون بعد زوال الكابوس؟

خطاب السيسي ديني يداعب جموع المتدينين. من يتأمل خطابه يظنه والياً على إمارة إسلامية، أميراً على مقاطعة تتبع دولة الخلافة، وليس رئيس أقدم دولة في التاريخ

وقاكم الله، يا أحفادي، شرور البارانويا العمياء. في التمهيد للتنازل عن جزيرتي تيران وصنافير، خطب السيسي في ممثلي البرلمان والنقابات ومجلس حقوق الإنسان وأساتذة جامعيين ومثقفين وإعلاميين. مساء ذلك الأربعاء 13 نيسان/أبريل 2016، توقعت أن يتأسى رجل رشيد بأرسطو، وهو ينبه الإسكندر: "تذكر أنك إنسان".

خطب السيسي ولم يتعب، وجادل بأنه مسؤول أمام الله يوم القيامة. ويخلو الدستور من حساب الله للرئيس الذي واصل المحاضرة بالعامية وبالفصحى، إلى أن طلب النائب البرلماني محمد كلوب الكلمة، فغضب الرئيس: "أنا ما اديتش لحد الإذن إنه يتكلم"، وانقطع البث التلفزيوني قبل أن يكمل السيسي كلامه. وفي 2 تشرين الأول/أكتوبر 2023 واصل السيسي خطابه الديني.

الرئيس أمّ الحضور متوجهين "إلى الله سبحانه وتعالى وندعوه، ونقول له: يا رب (هتاف)... إن كان يا رب، إن كان يا رب، فيه غيري أولى بها مني فوفقه، ويسّر له (تصفيق وهتاف) ويا رب ويا رب: إذا كنت أنا أولى بها، فوفقني، ويسّر لي (تصفيق وهتاف). فإنني بإذن الله ألبي اليوم نداءهم مرة أخرى، وعقدت العزم... (هتاف وتصفيق)، ها أقول مرة تانية، ها أقول مرة تانية: يا رب، يا رب أكون أنا أولى بها. يا رب أكون أنا أولى بها. يا رب أكون أنا أولى بها". دعاء تثليثي، وأمنية تستند إلى دعم إلهي. معادلة لا وجود فيها للشعب، ولا اعتبار.

تقول صبية، في ألف ليلة وليلة، للأمير شركان: "الكذب عند الملوك منقصة". صدقتْ.

وعاد إلى قراءة الكلمة المكتوبة: "وعقدت العزم على ترشيح نفسي لكم، لاستكمال الحلم، في مدة رئاسية جديدة... أنا عايز أقول لكم، إن أنا عمري ما وعدت وعود، ولا قلت كلمة ما أقدرش أعملها، أنا كل اللي ها أقدر أقوله لكم، إن أنا ها أفضل أشتغل، أشتغل، أشتغل. وربنا اللي يوفق. (تصفيق وهتافات)".

إذا استبعدنا تكراراً وإعادة تخلو من إفادة يغري بها، بالإعادة لا الإفادة، التجاوب المفتعل من مسؤولين لا يملكون إلا تجاوباً ترصده عيون الكاميرات، فإن الإعلان عن الترشح يصفصف على نحو مئة كلمة. كلام رئاسي بلا برنامج للمستقبل، ولا كشف حساب للماضي. وهذه المئة كلمة تحتاج إلى عدة وقفات.

أولاً: خطاب السيسي ديني يداعب جموع المتدينين. كتبتُ كثيراً، خلال هذه العشرية، أن من يتأمل خطابه يظنه والياً على إمارة إسلامية، أميراً على مقاطعة تتبع دولة الخلافة، وليس رئيس أقدم دولة في التاريخ. يستبعد دائماً الاحتكام إلى دستور ينص على محاسبة الرئيس، ويؤكد أن الله وحده من يحاسبه، بالطبع في الآخرة.

أما في الدنيا فلا حساب، ويعطي ظهره لممثلي الشعب والحكومة وللشعب أيضاً، ولا يقاطعه أحد وهو يستبعد التفكير العلمي وعقلانية التخطيط الاستراتيجي، ويسهب في كلام فضفاض عن حماية الله للبلاد. ولا يختلف خطاب السيسي السلفي في ليلة القدر، عنه في مؤتمر صحفي في باريس مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.

ثانياً: يذكر السيسي أنه لم يعِد بشيء إلا وفى به. ابن المقفع في "الأدب الكبير" ينزّه الحاكم عن الكذب؛ فلا أحد يكرهه "على غير ما يريد". والخواجة جوجل يسّر التوثيق. السيسي، عام 2014، طالب الشعب بإمهاله عامين، لكي يحقق وعوده بتحسّن أحوال المعيشة. وساءت الأحوال، فطمأن الناس في نيسان/أبريل 2016 بعدم رفع أسعار السلع الأساسية "وعد إن شاء الله، وعد إن شاء الله"، وطلب الصبر عليه ستة أشهر أخرى. ومع نهاية المدة الرئاسية الأولى، في حزيران/يونيو 2018، قال إن الأيام القليلة القادمة، عقب عيد الفطر، ستشهد بشرى سارة. وفي العيد نكّد الشعب برفع أسعار الوقود بنسبة 66 في المئة. حريق.

عشر سنين من الحلف والوعيد وتناسي الوعود تكفي أن نمدّ الخيط على استقامته، فنرى المصير بعد عشرية ثانية. لن يتغير خطاب السيسي السلفي، ولا مخاطبة الشعب: "يا مصريين". استبعاد غريب لنداء: "أيها الشعب"، "أيها المواطنون"

هامش: تقول صبية، في ألف ليلة وليلة، للأمير شركان: "الكذب عند الملوك منقصة". صدقتْ.

ثالثاً: في كل خطاب، مرة على الأقل كل أسبوع، نرى ونسمع. نرى غضباً ووعيداً، ونسمع قسَماً بالله، يحلف ثلاث مرات دائماً. وابن المقفع يربأ بالحاكم أن يغضب أو يحلف؛ "لأن القدرة من وراء حاجته... وليس له أن يكون حلّافاً؛ لأن أحق الناس باتقاء الأيْمان الملوكُ، فإنما يحمل الرجلَ على الحلف إحدى هذه الخصال: إما مهانة يجدها في نفسه، وضرَعٌ وحاجة إلى تصديق الناس إياه. وإما عِيٌّ بالكلام، فيجعل الأيمان له حشواً ووصلاً. وإما تهمة قد عرفها الناس لحديثه، فهو ينزل نفسه منزلة من لا يُقبل قوله إلا بعد جهد اليمين. وإما عبث بالقول وإرسال للسان على غير روية ولا حسن تقدير، ولا تعويد له على قول السداد والتثبت".

رابعاً: والآن لا أمل. عشر سنين من الحلف والوعيد وتناسي الوعود تكفي أن نمدّ الخيط على استقامته، فنرى المصير بعد عشرية ثانية. لن يتغير خطاب السيسي السلفي، ولا مخاطبة الشعب: "يا مصريين"؛ استبعاد غريب لنداء: "أيها الشعب"، "أيها المواطنون".

لا حكيم في أهل الثقة يُفهمه أن هذا النداء يذكّر بالغزاة. كان لنابليون نداء قريب يستميل به "المصريين"، ويصطنع به شرعية بالتحريض على المماليك، "أهل الشر"، والتذكير بمساوئهم. وليس للغازي أن ينادي: "أيها المواطنون".

والآن لا أمل، وقبل مسخرة تعديل الدستور عام 2019، كتبت في "العرب" اللندنية في 27 حزيران/يونيو 2018، مقالاً عنوانه "ما بعد السيسي... أربع سنوات تكفي لتغيير آمن".

كنت أظن أن الحكم سينتهي، وفقاً للدستور، عام 2022. كنت أحلم.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard