كأنها مدينة مسيّجة بالإسمنت، لا تشهد إلّا زراعة المباني، ولا تجد النباتات ولا الحدائق إليها طريقاً إلّا في ما ندر بعد أن كانت مدينة حدائق واسعة في الفترة الاستعمارية وبداية الاستقلال.
مدينة الدار البيضاء الشهيرة بـ"كازابلانكا" عاصمة المغرب الاقتصادية، وتقع في منطقة شهيرة بخصوبة أراضيها، ومطلة على مياه المحيط الأطلسي.
ورغم ذلك فإن المدينة التي تحتضن في جوفها أزيد من 3,5 مليون مواطن على الأقل، وفقا للإحصاء العام للمندوبية السامية للتخطيط لسنة 2014، إضافة إلى مئات الآلاف ممّن يعيشون في مدن تحيطها وينتقلون إليها بشكل يومي للعمل والدراسة، التهمت المشاريع العقارية جلّ حدائقها العامة.
ومع هذا الانفجار السكاني والديمغرافي، يتقلص الأمل في نسبة المساحات الخضراء مع كل بقعة أرضية يشيد فيها مجمع سكني، يجعل اللون الأخضر هنا في خانة "المفقود".
في 2017، نبّه المجلس الجهوي للحسابات (مؤسسة رسمية)، في تقرير إلى الضعف الكبير المسجّل في المناطق الخضراء في العاصمة الاقتصادية، إذ أفاد بأن إجمالي المساحات المتوفرة هو 397 هكتاراً، أي ما يعني أن الحصة المتوسطة للمواطن منها لا تفوق 1.3 متراً مربعاً، في حين لا تتجاوز في بعض الأحياء 35 سنتمتراً مربعاً، فيما تعتبر منظمة الصحة العالمية أن الحصة الفردية لكل مواطن يجب أن تتعدى 25 متراً، كنسبة مثالية.
كما لفت التقرير عينه إلى "غياب رؤية استراتيجية تجاه الفضاءات الخضراء في الدار البيضاء، ذلك أن صيانة هذه الفضاءات كلّفت، في سنة 2013 فقط، أزيد من 47 مليون درهم (نحو 4.6 مليون دولاراً)"، معتبرا أن تنفيذ هذه الميزانية "يتم دون تحديد المعالم الكبرى والأهداف المنتظر العمل عليها على المدى القريب والمتوسط".
مدينة باللون الرماديّ
تفاعلاً مع هذه الأرقام، يقول أيوب كرير، الباحث في قضايا البيئة والتنمية المستدامة، في حديثه إلى رصيف22 إن "ضعف المساحات الخضراء هو إشكالية تعرفها غالبية المدن المغربية الكبرى، وتحديداً مدينة الدار البيضاء التي لا يزال مواطنوها يثيرون هذا الموضوع بكل جدية، وهو ما ينم عن غياب رؤية واضحة لدى عمادة ومجالس مقاطعات المدينة"، معتبراً أن "أغلبية مدن المملكة ميتة بيئياً ولا يرقى واقعها إلى ما يطمح إليه المغرب في مجال التنمية المستدامة".
يضيف كرير أن "سكان الدار البيضاء باتوا يعيشون تحت واقع تلوث بصري وهوائي، حيث جرى بعد الاستقلال توسيع المدار الحضري، ما أنتج لنا مدينة إسمنتية بلا حياة بيئية"، مبرزاً أن "وجود مساحات خضراء يعني ببساطة جودة الهواء وانبعاثات كربونية أقل، وكذا معدلات منخفضة من الاكتئاب والقلق، مادام أننا نتحدث عن مدينة مليونية".
يتقلص الأمل في نسبة المساحات الخضراء مع كل بقعة أرضية يشيد فيها مجمع سكني في الدار البيضاء يجعل اللون الأخضر هنا في خانة "المفقود"
ويشرح المتحدث ذاته كيف أن المسؤولين في مدن عدة "يلجؤون عند احتساب النصيب الفردي إلى احتساب المناطق الغابوية القائمة في الضواحي، وكذا الحدائق التابعة للإقامات الخاصة، وهذا أمر خطأ، لأن الأساس هو أن نعتمد على المساحات الخضراء العمومية فقط، والتي هي من صنيع وإحداث مجالس مقاطعات المدينة".
مدن بدون متنفسات
وفق الناشط البيئي ذاته فإن المغرب "لا يتوفر على مدينة نموذجية خضراء، لأنه في الأساس توجد تفاوتات في هذا الصدد بين مدن المملكة، ذلك أن الرباط على سبيل المثال تتوفر على مساحات خضراء أكثر من مدن أخرى، وهو ما يرجع أساساً إلى كونها عاصمة إدارية ولا تحتضن فوق ترابها مناطق صناعية".
من جهتها، سلمى بلمقدم، مهندسة ورئيسة حركة المغرب 2050، تقول في حديثها إلى رصيف22 بأن "أزمة البِيضَاوِيِّينْ (سكان المدينة) مع ضعف المرافق الخضراء الطبيعية معروفة منذ سنوات؛ ذلك أن المدينة تعاني أيضاً من ضعف التشجير الذي حاول المسؤولون تعويضه بالنخيل".
وتوضح بلمقدم أن "المعدلات الفردية من المساحات الخضراء بالمدينة تتراوح ما بين 0.5 و3 متر مربع كأعلى مستوى، فالنسب العليا تُسجل عادة في مقاطعة أنفا المعروفة بالإقامات الكبرى والفيلات، في حين أنه كلما اتجهنا على سبيل المثال إلى أحياء بنمسيك وسيدي عثمان والحي المحمدي (شرق المدينة) فإن النسبة هنالك كارثية"، داعية مجالس مقاطعات المدينة إلى "العمل بحزم بغية الرفع من نسبة الفضاء الأخضر بترابها، مادام أنها تتمتع بالاستقلالية المالية والسياسية".
وجود مساحات خضراء يعني ببساطة جودة الهواء وانبعاثات كربونية أقل، وكذا معدلات منخفضة من الاكتئاب والقلق
وعلى غرار كرير، ترى المهندسة المنظرية، أي المختصة في الجانب الطبيعي في مشاريع الهندسة، أنه "لا يمكننا اليوم أن نزعم أننا نتوفر على مدن خضراء، فربما المدن التي تمتاز بنسب مرتفعة اليوم هي مدينتا الرباط ومراكش، على الرغم من أن هذه الأخيرة فقدت كثيراً من مساحاتها بفعل تكثيف عمليات زراعة النخيل على حساب بقية النباتات".
بيضاويون أمام الأزمة
بالنسبة إلى المهدي ليمينة، الناشط المدني في الدار البيضاء، فإن المدينة كما يعرف جميع سكانها "تعاني من نقص حاد فيما يتعلق بما هو بيئي، حيث نسجل نقصاً في المساحات الخضراء، وبشكل متفاوت بين أحيائها".
ويقول ليمينة، لرصيف22 بأن هناك "حاجة إلى مخطط أخضر استعجالي، إذ أن الوزارة الوصية إلى جانب مجلس المدينة ومجالس المقاطعات مطالبون بخلق برامج بيئية خاصة، تهدف إلى التصدي للنقص المسجل في المساحات الخضراء العمومية، والتي تؤرق بال السكان".
ويتحدث الناشط المدني بدوره، عن مسألة التفاوت بين المقاطعات والأحياء على مستوى المساحات الخضراء معتبراً أن "منطِق وحدة المدينة يقتضي الحسم مع هذه التفاوتات الملموسة، فواقع الحال يقول بأن هناك أحياء ذات مناطق خضراء وأحياء أخرى تفتقر إليها، وهو ما بإمكانه تكريس الطبقية المجتمعية".
ويخلص إلى أننا "كناشطين مدنيين، ندعو مجالس المقاطعات (الدوائر) أو مجلس المدينة إلى جدية أكثر في مقاربة هذا الملف، ووجب في الوقت الراهن أن تلجأ هذه المجالس المنتخبة إلى نزع الملكية بالمناطق التي يتوفر فيها عقار، لإنشاء مناطق خضراء، نظراً لكون المنفعة العامة فوق كل اعتبار".
هذا وتقاسم عدد من سكان الدار البيضاء مع رصيف22 حسرتهم وشكواهم من تحول المدينة إلى مساحة "روتينية إلى درجة كبيرة"، ذلك أن الإشكالية البيئية جعلتها وفق أرائهم "مدينة قاسية".
واقع الحال يقول بأن هناك أحياء ذات مناطق خضراء وأحياء أخرى تفتقر إليها، وهو ما بإمكانه تكريس الطبقية
تعتبر كريمة إيدبوتيلي (19 سنة)، طالبة بيضاوية قاطنة مقيمة في سيدي البرنوصي (شمال المدينة)، أن "الدار البيضاء باتت أشبه بملاذ يلجأ إليه المغاربة للدراسة أو العمل ليس إلا؛ بمعنى أنها مدينة لا يشجع واقعها الإيكولوجي على الاستقرار بها، خاصة إذا استحضرنا الكثافة السكانية للمدينة ومعدلات التلوث الهوائي".
تضيف كريمة في حديثها إلى رصيف22 أن السكان هنا "يعيشون على إيقاع حياة صعب، إذ أن المواطنين يحتاجون إلى متنفسات خضراء تلبي حاجياتهم وتساعدهم على بناء الراحة النفسية التي تلعب دوراً مهما في التنشئة الاجتماعية خصوصاً بالنسبة للأطفال الذين يجب أن يجدوا بجانبهم هذه المرافق تفادياً لصعوبات الشوارع ومخاطر حوادث السير".
الإحساس ذاته، وكذا الهمّ ذاته، يتقاسمه الزبير الشرع مع كريمة، وهو المقيم منذ سنوات في حي درب غلف، وسط العاصمة الاقتصادية.
يقول الزبير في حديثه إلى رصيف22 "نعاني الأمرين، فمن جهة نعاني زحمة المساكن وتلوث الهواء وارتفاع نسب الرطوبة، ومن جهة ثانية نعاني من قلة الفضاء العمومي الأخضر، فرتابة وروتين الحياة هنا يدفعاننا إلى البحث عن فضاءات خضراء بالقرب منا".
ويطالب الزبير بتحقيق "عدالة خضراء بين البيضاويين"، ذاكراً أن "الفئات المتوسطة والفقيرة هي التي تتضرر كثيراً من هذا الاشكال، ما دام أن الطبقات الغنية تتوفر على إقامات كبرى بداخلها حدائق ومسابح كذلك وتسافر دوماً".
وعود خضراء
يجد منتخبو الدار البيضاء أنفسهم أمام الانتقادات في كل مرة يثار فيها إشكال نقص المساحات الخضراء في المدينة، والذي يعد من بين الملفات التي تثقل كاهل مجلس جماعة الدار البيضاء.
في فبراير 2023، سطر المجلس ذاته ضمن برنامج عمله مجموعة من المشاريع التي تهدف إلى "تحسين الظروف البيئية والتنمية المستدامة بالمدينة".
وبحسب برنامج العمل، فإن الجماعة اقترحت تخصيص أزيد من 4.2 مليار درهم (نحو 420 مليون دولاراً) لخلق مزيد من المساحات الخضراء وتحسين الظروف البيئية بالمدينة طوال فترة تنزيل البرنامج.
وعبرت عمدة المدينة، نبيلة الرميلي، في مناسبات سابقة، عن عزمها تحويل الدار البيضاء إلى مدينة خضراء عبر إطلاق طلب عروض لإعادة تفعيل عملية التشجير والتغطية النباتية بأرصفة وشوارع المدينة.
يجد منتخبو الدار البيضاء أنفسهم أمام الانتقادات في كل مرة يثار فيها إشكال نقص المساحات الخضراء في المدينة
واعتبرت الرميلي، إلى جانب مسؤولين بيضاويين آخرين، أن إشكالية ملكية العقارات "تقف ضد مبادرات توسيع الفضاء الأخضر بالمدينة"، موضحين في السياق ذاته، أن "مجلس المدينة يدرس خيار نزع الملكية من بعض ذوي الحقوق لإنجاز المشاريع المبرمجة، اعتبارا للضغط المتزايد على العقار في المدينة".
وتراهن العمدة على تطوير وتجهيز مجموعة من المنتزهات الترفيهية بمختلف الأحياء، إلى جانب تطوير المناظر الطبيعية للمدينة. وعلى النحو عينه، تم تحويل مطرح للنفايات بهضبة "سيدي مومن" إلى منتزه ترفيهي سيشمل 12 هكتارا بنحو مليار و900 مليون سنتيم، إذ انطلقت بها الأشغال منذ مارس الماضي.
وبين غضب البيضاويين وقراءات المتخصصين للشأن البيئي بمدينة الدار البيضاء، إضافة إلى وعود مجلس المدينة ومقاطعاتها، يبدو أن العاصمة الاقتصادية للمملكة لم تخرج بعد من منطقة "الحرج البيئي"، ما يجعل بذلك الوضع أكثر تفاقما، مع استحضار النمو الديموغرافي والسكاني المهول بالمدينة وأنها ستكون من المدن التي يفترض أن تقبل دورة 2030 من مونديال كرة القدم. وهو ما يفتح المجال للتساؤل عما إذا كانت هناك خطط عملية لإنقاذ المدينة وتقديمها بأحلى حلة إلى ضيوفها أم أنها وصف مدينة الإسمنت سيلاحقها إلى الأبد؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع