تعيش موصولًا بالأجهزة، لا تحرك سوى عينيك، أنفاسك متثاقلة عبر الأنابيب البلاستيكية، تشعر أنك مسجون في هذا الجسد الذي أتعبه المرض، تريد أن تتحرر من هذا الألم، تريد أن تحلق بعيداً، فتبدو لك فكرة الموت كطوق نجاة من هذه المعاناة الشديدة، لكن حتى الموت يصبح صعب المنال، فتمضي شهوراً وربما سنوات وأنت على هذا الحال، لا أمل في التحسن ولا أمل في التحرر من جسد منهك.
يدفع الألم بالإنسان في بعض الأحيان للرغبة في إنهاء حياته.
فماذا يحدث لأولئك الذين يعانون بشدة وليس لديهم أمل بالشفاء؟
في إسبانيا وبعد جدل تشريعي طويل وسنوات من المطالبات وحملات "الموت بكرامة" تم إقرار قانون الموت الرحيم، لتنضم إسبانيا إلى بلدان قليلة في أوروبا بعد هولندا وبلجيكا ولوكسمبورغ، بالسماح لساكنيها بهذا الحق، ممن يعانون أمراضاً مستعصية وآلاماً فادحة، بمعنى آخر سيتم وضع حد لحياة المتعبين بمساعدتهم على الموت.
في إسبانيا وبعد جدل تشريعي وسنوات من حملات "الموت بكرامة"، تم إقرار قانون الموت الرحيم، لمن يعانون أمراضاً مستعصية وآلاماً فادحة
قد تبدو فكرة الموت الرحيم أو ما يعرف ب"يوثانيجيا" مرعبة للكثيرين، لكنها ليست كذلك لأصحاب الأمراض المزمنة والميؤوس من علاجها والتي تسوء مع الوقت.
فعلى كرسيها المتحرك تستمتع باحتساء فنجان قهوة تحت أشعة الشمس في الحديقة العامة، أظافرها مطلية ومرتبة، لا تفارقها الابتسامة اللطيفة، ومع وجهها البشوش تقول: "أعرف بالفعل كيف ستكون النهاية... محاطة بعائلتي"، آنا موسكيرا، 53 عاماً، المصابة بمرض العصبون الحركي منذ 16 عاماً، هذا المرض الذي يصيب الخلايا العصبية الحركية ويتلفها ولا يمكن بعد ذلك تحريك العضلات أو التحكم بها، مما يؤدي إلى شللها. خلال المرض أيضاً تصاب العضلات المسؤولة عن تحريك الأطراف والبلع والنطق وحتى التنفس تدريجياً.
يقول خوانخو زوج آنا: "العالم انهار حولنا عند معرفة الخبر، كانت ضربة صعبة وقاسية للغاية لعائلتنا. أخبرونا أن أمل الحياة يتراوح بين سنتين وخمس سنوات. كانت بناتنا حينها في الخامسة والثامنة، ماذا سنفعل في مثل هذا الوضع؟".
لكن الحياة ما زالت مستمرة بالنسبة لهذه العائلة، كما تقول آنا، التي لا تفكر في المستقبل البعيد: "المهم هو اليوم بالنسبة لنا. يجب أن نستمتع بالحاضر لأنني لا أعرف كيف سأكون غداً، السعادة تكمن في الأمور الصغيرة، في تبادل الحب، في تماسك العائلة، في الدعم الذي نتلقاه من الأصدقاء".
"إنها جميلة وتحب التزين كثيرًا"، يكمل زوجها: "رغم مرضها الصعب لسنوات عديدة تتحمل الألم دون التعبير عنه. بدأت المشكلات في نطقها بالظهور لكنها لا تشتكي كثيراً وتحاول القيام بمعظم الأمور بمفردها".
تعتبر الأمراض المستعصية، تلك الأمراض غير القابلة للعلاج، والتي تسبب معاناة جسدية أو نفسية مستمرة ولا يمكن تحملها مع توقعات محدودة بالحياة.
فرحت، آنا، عندما علمت بمصادقة مجلس النواب الإسباني على مشروع قانون الموت الرحيم عام 2021 لوضع حد للألم، وحتى لا يكونوا وحدهم عندما يرحلون، فيمكنهم الرحيل وهم محاطون بمن يحبون وبهدوء وسلام، وتحت إشراف طبي، فهي لا تريد أن تكون عبئاً ثقيلاً على وزجها وبناتها، تريد أن تستمتع معهم وترحل عندما يسوء وضعها أكثر. لاقى إقرار هذا القانون رفضاً كبيراً، فرغم تأييده فإنه قد أثار حفيظة الكنيسة التي اعتبرته جريمة بحق الإنسان، وجمعيات الرعاية التي تخوفت من سوء استخدام هذا القانون.
لكن هذا القانون لديه شروط لضمان شرعيته حدثتنا عنها المحامية فكتوريا فيانويفا فوفقاً لوزارة الصحة الإسبانية، يضمن هذا القانون الحق لكل شخص يستوفي مجموعة من الشروط طلب المساعدة اللازمة لوضع حد لحياته وهي:
أن يكون في سن البلوغ، عاقلاً وواعياً في لحظة تقديم الطلب، وأن يكون لديه الجنسية الإسبانية أو إقامة قانونية في البلاد أو شهادة تثبت وجوده في إسبانيا لمدة تزيد عن سنة، وأن يعاني من مرض خطير لا علاج له أو إعاقة خطيرة ومزمنة تجعله غير قادر على القيام بواجبات حياته.
وتعتبر الأمراض الخطيرة تلك الأمراض غير القابلة للعلاج والتي تسبب معاناة جسدية أو نفسية مستمرة ولا يمكن تحملها مع توقعات محدودة بالحياة.
أما بالنسبة للإعاقات الجسدية الخطيرة والمزمنة أو التي تؤثر بشكل مباشر على الاستقلالية الجسدية وأنشطة الحياة اليومية، بحيث لا يمكن للمريض أن يكون مستقلاً، فإن القرار يشمل الإعاقات التي تؤثر على القدرة على التعبير والتفاعل والمرتبطة بمعاناة جسدية أو نفسية مستمرة، لا يحتملها المريض واحتمالية تحسنه معها معدومة.
وتشير الإحصائيات الى أنه وبعد إقرار مشروع القانون بين يونيو 2021 وديسمبر 2022، لجأ 370 شخصاً إلى الموت الرحيم في إسبانيا، وفقاً للبيانات التي جمعتها جمعية الحق في الموت بكرامة (DMD).
كثير من العرب في إسبانيا لم يستسيغوا هذا القانون، لكنهم يعرفون أنه يطبق على من يريدونه ويسعون إليه فقط، لكننا سألناهم عن رأيهم وإن كانوا سيلجؤون إليه إن اشتد عليهم الألم واستعصى الشفاء.
"هذا القانون يسلب المريض فرصة العيش، فماذا لو كانت لديه فرصة ولو ضئيلة بأن يشفى؟". محمد، 26 عاماً، مولود في إسبانيا لأبويين مغربيين.
محمد، 26 عاماً، المولود في إسبانيا لأبويين مغربيين، قال: "هذا القانون حرام، لأنه يسلب المريض فرصة العيش، فماذا لو كانت لديه فرصة ولو ضئيلة بأن يشفى، هل نحن البشر مخولون أن نسلبه حقه في الحياة؟ الله قادر على كل شيء".
أما إيناس، 38 عاماً، مهاجرة من أصول فلسطينية، استغربت سؤالنا، ثم صمتت قليلاً لتجيب بأن مجرد التفكير في هذا الموضوع هو مخيف ويبعث الرهبة، وبأنها لن تفكر به الآن، لكن إن مرضت أو تعبت حينها ستفكر.
لكن فاطمة الزهراء، 41 عاماً، التي جاءت إلى إسبانيا من الجزائر في صغرها، قالت بأنها منفتحة على هذه الفكرة، وأنها تأثرت بقصص الناس الذين أشرفوا على حملة تشريع هذا القانون وتابعتهم منذ البداية، وأنها مقتنعة بأن هذا القانون فيه رحمة للمريض ولأهله.
ليس من السهل أن نتخيل أنفسنا على سرير المرض، أو أن نتخيل زوال نعمة القيام بتلك المهام الصغيرة التي نقوم بها أوتوماتيكياً دون تفكير أو تقدير، كالمضغ، قضاء الحاجة، أو حتى التنفس.
الكاتب رامون سامبيدرو من الشخصيات الإسبانية التي أثرت في حراك تشريع قانون الموت الرحيم في إسبانيا، حيث عانى من الشلل مدة 30 عاماً بعد إصابته في حادث غطس، كان يخجل من أنه يحتاج للمساعدة للقيام في أصغر الأمور ومن عدم قدرته على الحركة.
طالب بالموت الرحيم من خلال المحكمة التي رفضت طلبه، عمل مقابلات في التلفزيون ومع الصحف للمطالبة بالموت بكرامة. في النهاية وهو بعمر 55، في عام 1998 لجأ لصديقته وطلب مساعدتها على الانتحار لإنهاء عقود من المعاناة والألم.
اعتبرت صديقة سامبيدرو القانون انتصاراً لرامون ولكل من حاربوا لأجل هذا القانون، تم اقتباس قصة سامبيدرو في فيلم (البحر بداخله) والصادر عام 2004، بطولة خافيير بردم والذي فاز بجائرة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي حينها.
"تأثرتُ بقصص الناس الذين أشرفوا على حملة تشريع هذا القانون، وتابعتهم منذ البداية، وأنا مقتنعة بأن هذا القانون فيه رحمة للمريض ولأهله". فاطمة، 41 عاماً، مقيمة في إسبانيا
الموت الرحيم مازال محط جدل واسع في أوروبا، وكثيرون يتحفظون عليه، ويبدو هذا القرار من أصعب القرارات التي قد يقع على إنسان أن يتخذها، لكن الألم ورؤية من نحب في ألم هو قمة الوجع.
فهل سنشهد حراكاً مماثلًا للمطالبة بالموت الرحيم في عالمنا العربي يومًا ما؟ ما الذي يمنع؟ هل هو الدين؟ الكثير من الأسئلة التي مازالت تحتاج لإجابة، ربما سيحسمها عنصر الوقت.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ يومحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 4 أيامtester.whitebeard@gmail.com