حياكة الكلام
في آب/أغسطس عام 2010، جاء الى منزلنا عمي عبدالمنعم، الشقيق الأكبر لأبي. عادة ما كنت أقابله في المناسبات والأعياد وفي المرات القليلة التي كُنا نذهب فيها إلي بيته في البحيرة، كان طويلاً ونحيفاً، باسم الثغر، يلبس الجلاليب، ولا أذكره في ذاكرتي إلا بذلك الجلباب الأبيض الجميل، فيشبه الشاعر أحمد فؤاد نجم.
رغم نحالة عمي الشديدة كانت صحته عال، لم يدمرها سوى السجائر. أذكر أن أبي قال لي ذات يوم إنه لم ير أحداً في حياته شرهاً في التدخين مثل عمي، كان يصل لثلاثة علب من السجائر يومياً، وأضاف: "لو مصر كلها بطلت سجاير عمك مش هيبطل، ولو حد جه قال لي أنه بطل مش هصدقه!". هكذا حكى لي وكان قوله معقولاً، فبجانب السجائر لم يكن يمانع بالقليل من كركرة الشيشة والمعسل، حتى آلت به المقادير في نهاية الأمر إلى الامتناع عن التدخين، نعم فعلها عمي في السنوات الأخيرة من عمره بعدما هزمه المرض، وأضطر أن يقلع عن تلك العادة ويطلقها بالثلاثة.
بساطة محببة
لم يكن عمي كثير الكلام، كان هادئاً في أغلب الوقت، يتألم ويغضب بصمت، وينفعل دوناً عن إرادته بفعل المرض. ذلك المرض اللعين الذي يُشعر الإنسان بضعفه وبقلة حيلته. كان عمي رجلاً ريفياً بسيطاً، يرفض اللحم والفراخ من أجل عيون طبق جبنة قديمة، والكثير من البصل والجرجير، ثم يتمدد على الكنبة مخاطباً أبي: "وربنا أكلة احلى من اللحمة"، ويبدأ في التدخين، أو ربما لا يدخن ويكتفي بشرب الشاي.
تلك الأشياء البسيطة من شخصية عمي اكتشفتها حينما أجبره المرض أن يتابع مع أطباء الإسكندرية، فأصبح يتردّد علينا كثيراً. كان عمي في بادئ الأمر يشكو من إدرار البول، لكن الطبيب شخصه بالسرطان، سرطان البروستاتا، ومن ثم بدأ في تلقي العلاج، ولم يخبره أحد بحقيقة المرض، وفور إحساسه بشيء من الارتياح، قرّر من تلقاء نفسه أن يوقف الدواء. وبالطبع داهمته الأعراض مرة أخرى، أجتاح الكانسر جهازه المناعي وبدأ في الانتشار، مما أضطره للدخول في مرحلة العلاج بالكيماوي.
لم يكن عمي كثير الكلام، كان هادئاً في أغلب الوقت، يتألم ويغضب بصمت، وينفعل دوناً عن إرادته بفعل المرض. قال أبي: : "لو مصر كلها بطلت سجاير عمك مش هيبطل، ولو حد جه قال لي أنه بطل مش هصدقه!"... مجاز
لم يشعر عمي أبداً بالغربة في لمّتنا، خصوصاً بعدما لحقت به زوجته لتتقاسم الحمل مع أمي، ورغم محاولات أبي العديدة في إقناعه أن يبقى طيلة الأسبوع في منزلنا، لكنه رفض وقسّم أيام الأسبوع بين البحيرة والإسكندرية. كان يمكث أيام الجلسة والأيام التي تليها من شدة التعب في بيت أخيه ويعود أدراجه في الأيام التالية.
في أيامه الأخيرة، ورغم تعبه الشديد، كان يرفض الإفطار في نهار رمضان، إلى أن فقد توازنه بعد إحدى الجلسات، وأخبره الطبيب بضرورة الأكل والإفطار حتى لا تسوء حالته الصحية أكثر فأكثر.
مرت السنة سريعا جداً، انقضى حر أغسطس وبدأت "تهل البشاير من يناير كل عام". لا أذكر كيف كانت حالته على وجه التحديد، ولكن الكيمياوي أضعفه تماماً. زادت نحافته وعصبيته وظلت رقته وحنيته. جاهد الألم قدر المستطاع، حتى سقط شهيداً في يوم 25 يناير. هزمه الكانسر، واعتبرته أنا أول شهيد في الثورة!
رحل عمي بعد رحلة ليست بالقصيرة مع المرض، وانتهت الثورة بإسقاط النظام، وبدأت بعدها في نظم الشعر تقليداً لمحاولات أختي في ذلك التوقيت، وأظن أنني أفلحت. حركني موت عمي، كما حركتني الثورة رغم جهلي بها آنذاك، كما حمّلني رحيل عمي ديناً جاهدت أن أوفيه، ظللت طوال عشر سنوات أفشل في كتابة أي حرف عنه، ولكنني أخيراً فعلتها يا عبدالمنعم، كل تلك السنوات وأنا أفكر وأبحث كيف أكتب. علمني موته الكتابة. نصّبني عمي كاتباً وعلمتني الثورة أن أصبح شاعراً.
بعد عشر سنوات
ابتسم الموت ابتسامته المعتادةولع سيجارته بدم باردوعزم عليا وقالي: خد لك نفسالحياة بكل ما فيها من أسفيلزم لها نهاية
ولع سيجارته بدم بارد
وعزم عليا وقالي: خد لك نفس
الحياة بكل ما فيها من أسف
يلزم لها نهاية
وعشان كده أنا موجود
وعشان كده الأحزان متواصلة.
ابتسمت لأن ده آخر ما أملكه من حديث
سلمت عليه بسلامة نية وطيب خاطر
أبقى عدى عليا من وقت للتاني
أتأكد أني مش وحداني
وأني لسه مموتش قبل معادي.
دائماً ما ارتبط معي الموت بالكتابة، وحينما تكتب وأنت حزين لا تعرف أين تسير بكلماتك وكيف تنسجها بيتاً من عنكبوت أم بيتاً في خيال مُحب. تصبح الكتابة في وقتها عصية ومُرّة لكنها خافضة للآلام... مجاز
إذن، لماذا يُطل الموت مرة أخرى كي أكتب عنه؟ كنت أريد أن أبعث برسالة أخيرة لصديقي، ولكن سطوته جعلتني أكتب عنه مرة أخرى. حينما فرغت من القصيدة الجديدة، لم أجد في كلامي أي شئ يخصّ صديقي، لم أصف ضحكته الفاتنة التي لم تغب عنه أبداً، لم أتحدث عن المرات القليلة التي رافقته فيها دون ترتيب إلى المقهى، هزمني الموت مرة أخرى، واستحيت من نفسي أن أضع اسمه عليها، هكذا شعرت أني مدين له بقصيدة، أشعر أني ربما لن أكتبها، ولكني أعرف تماماً أني أحبه، ولطالما أخبرته بذلك، حينما تذكرت ذلك انفرج عن قلبي الهمّ قليلاً. لعنت الموت ودعودت لصديقي.
كيف لي بالهرب من نفسي؟ ما نتاج تلك الليلة التعيسة؟ مات صديقي ووقفت مكتوف الأيدي، لا أقوى على تغيير الأقدار، تبدّدت من يدي رائحة الموت في قصيدة. أردت أن أجعل اسمه خالداً. لا مجال سوى الهروب، الحل الذي طالما برعت في اختياره ولم أبرع في تنفيذه، ولكنه أبلى بلاء حسناً في تلك الليلة. قررت أن أتناسى الخبر بمشاهدة أحد الافلام، والحق أنه كان جميلاً، لكنه لم يلتهمني من الواقع.
كنت في بعض الأحيان أوقفه وأتذكر حلاوة، أدعو له، ثم قررت أن أداوي الألم بالألم، وعدت إلى أدراج الكاتب الرائع أسامة الدناصوري، لأقرأ للمرة الثانية كتابه "كلبي الهرم، كلبي الحبيب" الذي أكمل مأساتي تارة وأضحكني تارة أخرى، وها أنا الآن أفرغ من الكتابة، داعياً الله أن أستطيع النوم، أن أهيأ نفسي على فكرة توديع صديقي إلى عالمه الجديد الأبدي. يبدو أن الجدعان يرحلون مبكراً، سلمت للقضاء وقررت أن أٌقرأ سورة "الملك" وأستلقي على السرير متذكراً قصيدة "الموت" وأنا أقول في نهايتها: "الموت هو سر الحياة وسر الخلود".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون